عند طرف القرن الأسود - والقرن: جبل صغير ورأسه مشرف على الهدة - فاستقبل نخبا ووقف حتى اتفق الناس ثم قال: «إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله - عز وجل.» وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، وقد ورد هذا الحديث في سنن أبي داود ومسند ابن حنبل، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال البخاري: لا يصح، وذكر ابن عبد ربه أن ثقيفا جاءوا إلى النبي بعد مقتل عروة بن مسعود فعرضوا عليه إسلامهم فكتب لهم بحرمة واديهم.
لم أعن كثيرا بما قيل عن تحريم وادي وج ومدى هذا التحريم، وكيف لي أن أعنى به وهذا الخلاف واقع عليه، والبخاري ينكره؟! وإنما عنيت من أمره بأنه على أبواب الطائف من ناحية «لية» عند انحدار المسلمين منها إلى الطائف، وكل ما أستطيع أن أستخلصه من الروايات التي سبقت أن الرسول - عليه السلام - وقف بهذا الوادي حين بلغه، وأنه جمع المسلمين هناك حوله، وأنه هيأ صفوفهم لحصار الطائف، وأنه حرم عليهم - وكانوا من قبائل مختلفة - أن يثيروا بينهم شقاقا أو أن يستبيحوا بينهم ما ليس مباحا لهم في البلد الحرام، فلما انصرفوا عن الطائف لم تبق لوج حرمة أكثر مما لغيرها من الآفاق.
قمت وأصحابي صبح الغد من ذلك اليوم مبكرين بعد أن نلنا بالنوم راحتنا ليوم جهد ومشقة، فقد رأى الشيخ صالح القزاز أن نتناول إفطارنا فوق السد السملجي، وأن نتناول طعام الغداء فوق سطح جبال الهدة ضيوفا على محمود المغربي، والسد السملجي يقع شمال الطائف، وجبال الهدة تقوم في جنوبها الغربي، فلا سبيل إلى الجمع بينهما إلا أن نستقل سيارة البكس بكرة الصباح لنشهد السد وموقعه، ولنعود بعد ذلك إلى جبال الهدة فنرتقيها إلى دار مضيفنا نتناول الغال ونشرب القهوة ونذره ينحر الضأن وينضجه، فإذا عدنا تناولنا العقال، وهو قائم في خدمتنا لا يقرب الطعام ولا ينظر إلينا ونحن نأكل.
والغال هو ما نسميه في مصر: «التصبيرة»، أما العقال فطعام الغداء، وهو الذي يعقل به الرجل معدته فلا تتحرك إلى طلب الطعام، والبدو لا يعدون العقال ولا ينحرون إلا بعد أن يصل إليهم ضيفهم.
غدونا إذن مصبحين وتناولنا قدحا من الشاي وآخر من القهوة، ثم ركبنا السيارة فانطلقت بنا قاصدة السد السملجي، وكما مررنا أمس بوادي وج في طريقنا إلى هضاب الردف، فقد مررنا أول ما تبدت البادية أمامنا بواد لفت صاحبي نظري إليه قائلا: إنه وادي نخب، والمأثور أنه بوادي النمل الذي ذكره القرآن في قصة سليمان إذ يقول - تعالى:
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين .
وسألت صاحبي: وأين سليمان من الطائف وقد كان ملكه بالشام؟! قال: «لقد جند الله لسليمان الوحش والطير فكان يسيرهم إلى حيث شاء من بقاع الأرض، وكانت الطائف بعض ما مر به من البقاع في ذهابه إلى اليمن، وقد اختلف الرواة: أمر الجيش بها طائرا في الهواء بأمر سليمان وبإذن الله؟ أم مر بها سائرا على الأرض؟ والقائلون بالسير يستندون إلى ما ورد في الآيات السابقة، فلو كان الجيش طائرا لما حذرت النملة قومها منهم، أما القائلون بالطيران فقد ذهبوا إلى أن جيش سليمان أتى على وادي النمل ولم يحطم منه نملة، ولو كان سائرا لقضى على النمل وقريته، وإنما قالت النملة لأصحابها ما قالت يدفعها الحذر والحرص على الحياة.»
ولم يذكر صاحبي أن وادي النمل حرم كما حرم وادي وج وإن على خلاف، ولم يشر كذلك إلى ما أوردته الروايات المختلفة في وادي النمل وموقعه، فقد ذهب قوم إلى أنه بالشام، وذهب آخرون إلى أنه باليمن، وتوسط الذين قالوا: إنه بالطائف بين الشام واليمن، ولغير هؤلاء جميعا مذهب في النمل وواديه لا اتصال له بالطائف ولا بوادي نخب بها ولا بالسدر منها، ولم أر ما يدعو لمناقشة هذه الأقوال جميعا؛ إذ كنت لا أقصد من تحقيق ما أرى إلى معرفة شيء فيما قبل عهد النبي، وقد كان سليمان قبل عهده بأكثر من خمسة عشر قرنا، فليكن وادي النمل بالطائف أو بالشام أو باليمن، فليس تحقيقه مما يدخل في نطاق بحثي.
وقيل لي: إذا تخطت السيارة هذا الوادي فإنها تجتازه إلى وادي «لية»، وأنا أعلم أن الرسول جاء من حنين إلى الطائف على رأس جيش المسلمين فاجتازوا لية؛ لذلك شاقني أن أقف على هذا الوادي وأن أرى بعيني طريقا مر به الرسول، وزادني شوقا إليه ما قيل: من إنه يمثل خصب الطائف وثمارها الشهية، وإن لم يكن الفصل فصل ثمار تجتنى وإن اشتهيت، ومددت بصري إلى ما أمامي لعلني أرى طلائعه، فإذا الجبال تحيط بنا من كل جانب، وإذا السيارة تندفع نحوها كأنما تريد أن تقتحمها اقتحاما أو تتسلقها تسلقا، وبدأت تتيامن وتتياسر تتقي الأحجار المنثورة حولها مصعدة أثناء ذلك على هون كأنما تريد أن تتخير سربا خلال الجبال القائمة أمامها تصدها، ولم يخطئ حدسي؛ فلقد وجدت السرب الذي تنفذ منه خلال السلتين القائمين عن جانبها ذلك عرق في الجبل حطم لتمر السيارات من خلاله في ريع ليس اجتيازه فوق الجنادل المكدسة فيه بأقل من تسلق الجبل عسرا ومشقة، وسائق «البكس» يدفعه بكل قوة الوقود واحتراقه، وهو مع ذلك يسير متعثرا كالطفل أول مشيه، يترجح إلى اليمين تارة وإلى اليسار طورا، ويكاد يهوي في كل لحظة إلى هذا الجانب أو ذاك، والسفحان عن الجانبين يحصراننا ولا يزيلان مخاوفنا أن تهوي السيارة بينهما وأن تتحطم على جنادلهما الصم الصلاب، ووقفت السيارة هنيهة لا تتقدم ولا تتأخر، ويريد أحدهم أن يبدي للسائق رأيا لعله يعينه، فيثور ثائر السائق بهذا الذي يتدخل فيما لا يعنيه، يدعوه إن شاء أن يجلس مكانه ليرينا من معجزاته ما عجز السائق عنه، والريع ممتد لا ينتهي، والسفحان لا ينفرجان عن سطح أو واد يبعث إلى النفس الأمل أن قد بلغنا مأمنا، وكلنا واجم لا تنفرج شفتاه إلا عن كلمة تشجيع للسائق وإعجاب بمهارته مخافة أن يثور ثائره كرة أخرى، وكلنا مع ذلك مطمئن راض باسم الثغر لهذا النهار المشرق الوضاح السماء؛ ولهذا الجو الصفو الرقيق الذي ينعش الفؤاد ويشيع المسرة في كل أنحائه، وترتقي السيارة خلال هذا الريع ثم تنحدر بعض الطريق لتعود إلى الارتقاء من جديد، وهي في انحدارها أشد حذرا منها في تسلقها، والسائق ملق بكل انتباهه إلى كل حجر أمامه، وإلى كل حركة من حركات السيارة في تيامنها وتياسرها، وقد جمدت يداه على مدارها فلا تتركانه، وخفت حركة رجله على معيار الوقود ينفق معه مدققا في حسابه ألا يزيد ما ينفقه وألا ينقص عن حاجة السيارة في حركتها أثناء هذا الوقت الدقيق.
ربنا لك الحمد! ها نحن أولاء قد سمونا إلى القمة، وتكشف الأفق عن يميننا ويسارنا، وانكشف أمامنا الوادي منبسطا أسفل منا، تحيط الجبال على مرمى النظر بأطرافه، وها هو ذا السائق يتنفس الصعداء كمن كربه أمر ثم غلبه وغلب كربه، وانحدرت السيارة متجهة صوب دار قامت في عزلة هذا الوادي وانبسط أمامها زرع أخضر ذو رواء وبهجة، هنالك تحدثنا، وذكر أصحابنا هذا الوادي، وادي لية، وجمال حدائقه وأعنابه وفاكهته اللذيذة الجميلة، وأشادوا بجودة رمانه وسفرجله، وتمنوا لو أتاح لنا الفصل أن ننال منها طعام إفطارنا، لكن فصل الفاكهة لم يأن بعد، فلنطب نفسا بما حملنا للإفطار من الطائف.
Bilinmeyen sayfa