وعندما دخلا، جو وعبد الله، مرحلة البكالوريا، مات والد عبد الله؛ فتوقف عن استكمال دراسته، واكتفى بساعات إضافية في العمل بالمقهى، بينما أكمل جو تعليمه حتى حصل على بكالوريوس التجارة.
افترق الصديقان، فلم يعد جو يزور المقهى إلا لماما، حتى أيام عطلته كان يقضيها بصحبة أصدقائه بأحد المقاهي «المودرن» حسبما يسميها، فيما أصبح عبد الله جزءا من المكان، وكان «الخواجة» يعتبره ساعده الأيمن.
مع مرور السنوات تقدم العمر بالخواجة، وأصبح متمسكا بالتقاليد القديمة علامة للمقهى، استمر في شراء صور عبد الناصر والسادات وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وتوزيعها على جدران المقهى، رغم تبدل الزمن.
في الوقت نفسه افتتحت مقاه أخرى، بداية بهذا المقهى ذي الأنوار النيونية الملونة، كان أكثر حداثة من مقهى «الخواجة»، فكان أول من استعمل شرائط الكاسيت بالمنطقة، ثم التلفاز، بينما اكتفى مقهى «الخواجة» بالمذياع سنوات طويلة، وانحازت المقاهي الجديدة إلى المطربين الجدد، واستخدمت الكراسي ذات السيقان العالية المعدنية، التي يجلس عليها الزبائن فيما يعرف ب «البار»، وتنوعت المشروبات المقدمة، وظل أكثرها محتفظا بأسمائها الإنجليزية.
مات الخواجة واستلم ابنه إدارة المقهى، ورغم ذلك فقد احتفظت بشيخوختها وكأنها جزء من الخواجة الأب، برزت على جدرانها آثار الرطوبة، وزادت شكاوى الزبائن من «الحمامات البلدي» رغم وعود «جو» المتكررة لزبائنه بتغييرها، واكتفى المقهى بتقديم البسكويت الجاهز عوضا عن قوالب الكيك التي كان يوصي بها الخواجة، والتي أصبحت تبقى أياما عدة بالثلاجة بعد انخفاض عدد طالبيها.
كان رواد المقهى يتحدثون بداية همسا عن رغبتهم في «تجريب» المقهى الجديد، ذهب الموظفون أولا، خاصة الجدد منهم بالمنطقة، ثم توالى الآخرون. فقد المقهى أيضا الكثير من عماله بعدما جذبتهم تلك الألوان الصاخبة، والأرضية من السيراميك، وحوائط القيشاني بالمقاهي الجديدة، وبالطبع الأجور الأعلى.
يتوجه عبد الله إلى جو طالبا منه أن يمنحه تلك الصورة القديمة للخواجة وهو يتوسطهما في صغرهما، وفي خلفيتها يقف عمال المقهى بأزيائهم الزاهية النظيفة، بجانب البكرج والجرامافون. يوافق جو على عجل، فقد لمح دخول المشتري في موعده المحدد.
على الطريق
على جانب الرصيف يجلس منزويا يختفي أياما، ثم يظهر على حاله نفسها، ملتصقا بالزاوية ذاتها من الطريق، دون أن يعلم أحد أو يهتم أين يذهب أو كيف يعرف طريق عودته، يبدو وكأنه جزء من هذا الشارع، بملابسه التي اهترأت تشبعا لكثرة ما ارتوت من قسوة سنوات التيه على جوانب الطرقات، وشعره الأشعث الذي لا تعلم إن كانت رماديته لشيبة أم بفعل مجالسة الطريق.
يمضي غير عابئ بالنظرات المتسائلة أو بالخطوات التي ما إن تلمح مجلسه حتى تغير مسارها، يتلفت يمينا ويسارا، باحثا حينا بين صناديق فضلات ساكني الحي، وأحيانا تراه جالسا مزهوا، ينفث بقايا سيجارة ألقاها أحد المارين بالقرب من مجلسه.
Bilinmeyen sayfa