إنك إذا جعلت رائدك في الحكم هو ما تنشره المطابع وما يعرضه أصحاب الفنون، وما يتحدث به الناس في الندوات وحلقات الدرس، ألفيت عصرنا يضم كل صنوف البشر: ففي الأدب سلفي وثائر، وراض وساخط، وفي الفلسفة تعد ألوان المذاهب بأكثر من أصابع اليدين مجتمعتين: برجماتية، وواقعية، ووضعية، ووجودية، وظاهراتية، وكانتية جديدة، ومادية جدلية، ومثالية، وطبيعية، وشخصانية، وحدسية ... فضلا عما ينشعب تحت هذه الرءوس من فروع.
لكننا - بعد هذا التمهيد - نحاول إبراز العناصر التي قد يصل فيها اختلاف الرأي إلى حده الأدنى فأحسب أن لا اختلاف بين أصحاب الفكر المعاصر - إلا اختلافا جد يسير - على أن عصرنا قد ساده العلم التطبيقي سيادة لم يسبق لها نظير، تمكن بها من التغلغل إلى كل ركن من أركان حياتنا اليومية، فهو ماثل في وسائل النقل والانتقال، وفي الصناعة والزراعة وفي نشر الثقافة والفنون، وفي ميادين العمل وساعات الفراغ.
فلقد تجد لكل عصر اهتماماته العلمية على اختلاف أنواع العلوم التي تشغل الناس في كل عصر على حدة، لكنك لن تجد عصرا فيه «التطبيق» العلمي على شئون الحياة المادية والفكرية معا، يدنو من عصرنا، حتى ليجوز القول بأن الحياة العملية قد تأثرت بالعلم في المائة السنة الأخيرة أضعاف ما قد تأثرت به خلال ستين قرنا مضت قبل ذلك.
الحق أننا نقول ما يشبه اللغو لو مضينا نتحدث عن آثار العلم التطبيقي في حياتنا الراهنة، فلننظر - إذن - فيما قد تأثرت به الفلسفة المعاصرة.
والفكر الفلسفي في كل عصر هو الذي يبرز الجذور العميقة الدفينة في الجو الثقافي السائد، إذ ماذا تكون الفاعلية الفلسفية إذا لم تكن محاولة استخراج المبادئ المتضمنة في أوجه النشاط السلوكي الظاهر؟
وكلما تبدل لون النشاط كان ذلك دليلا على أن المبادئ المتضمنة قد تغيرت، لكنها تكون مبثوثة مندسة في سلوك الناس، حتى إذا ما جاء المفكر الذي يحلل هذا السلوك تحليلا يغوص به وراء السطح الظاهر البادي إلى حيث الجذور، كان هذا المفكر هو فيلسوف العصر، وقد تتعدد - بل لا بد أن تتعدد - أوجه النشاط الظاهر، فعندئذ تتعدد المبادئ الأولى التي يكشف عنها التحليل، ومن ثم تتعدد الاتجاهات الفلسفية في العصر الواحد، وإن يكن يجوز لهذه الاتجاهات المتعددة بدورها أن ترتد إلى أرومة واحدة تتكشف فيها روح العصر كله.
ففي عصرنا هذا يسود علم، ولكن فيه أيضا أصوات تنبعث من هنا وهناك متمردة تعلن عصيانها، وتود لو تخفف الناس في حياتهم من آثار العلم هذه التي يخشى أن تطمس فردية الإنسان، وإذا كان هذا هكذا، فلا بد أن تتوقع قيام أكثر من مبدأ واحد في أغوار النفوس، وبالتالي قيام أكثر من اتجاه فلسفي واحد، فاتجاه تصل فاعليته إلى الكشف عن المبدأ الأول للنشاط العلمي، واتجاه آخر تصل فيه الفاعلية إلى الكشف عن مبدأ آخر يصدر عنه الإنسان المعاصر في تمرده وعصيانه لينجو بشخصيته من الطوفان.
فماذا تكون الفلسفة التي تصب اهتمامها على النشاط العلمي لترده إلى جذوره الأولى؟ إنها هي الفلسفة - بفروعها الكثيرة - التي اتخذت من «المعرفة العلمية» موضوعا لدراستها، بمعنى أنها هي الفلسفة التي تحاول أن ترد هذه «المعرفة» إلى أصولها ومقوماتها، وأهم الاتجاهات المعاصرة في هذا السبيل: الواقعية الجديدة، والبراجماتية، والوضعية المنطقية، وكلها متفق على ضرورة أن تكون الصلة وثيقة بين «الفكرة» من جهة وتطبيقها على أرض الواقع من جهة أخرى، كأنما الفكرة وهي في رأس صاحبها، وتطبيقها الفعلي أو الممكن على الدنيا الخارجية بأشيائها ووقائعها، طرفا عصا لا يتصور فيهما قيام أحد الطرفين دون الآخر.
أما المذهب الواقعي فقد اشتدت موجته على الفكر المعاصر، حتى لتوشك أن تكون لفظتا «واقعي» و«معاصر» مترادفتين في عالم الفكر، وإنما استمد هذا المذهب قوته من معارضته للفلسفة المثالية، معارضة مؤسسة على مقتضيات التفكير العلمي، ومحور التضاد بين الواقعية والمثالية هو: ما مصدر العلم وأين نلتمس شواهد صدقه؟ وعن هذا السؤال تجيب الواقعية بأن مصدره وقائع العالم وحوادثه، وشاهد صدقه هو صلته بتلك الوقائع والحوادث، على حين أن جواب المثاليين في الفلسفة يختلف، إذ يقولون في ذلك: إن مصدر العلم هو مبادئ فطرت في العقل الإنساني، وشاهد صدقه هو ما ينبثق من تلك المبادئ، بحيث تجيء النتائج المنبثقة متسقة من الوجهة الرياضية مع مقدماتها.
فالواقعية تعلي من شأن الحواس والتجارب، في معارضة المثالية التي كانت تنطوي في دخيلة الذات تستمد من فطرتها كل ما أرادت من معرفة.
Bilinmeyen sayfa