لماذا انتشرت حكايات ألف ليلة وليلة، في أرجاء العالم أجمع، لا تنحصر في عصر بعينه، ولا في أمة بذاتها، ما لم تكن قد بسطت في حوادثها كثيرا مما تنطوي عليه النفس البشرية حين تنساب في أحلاك يقظتها فيما هي محرومة منه؟ إن هذه النفس - لا سيما إبان المراهقة - إذا كانت تعاني فقرا في العيش، وحرمانا من لذائذه، راحت تمزق بخيالها جدران القصور، لترى هناك الموائد قد مدت بأشهى الطعام، والأماسي قد زخرت بأجمل النساء، فإذا وقع قارئ مراهق - بحكم السن أو بحكم الطبع - على هذه السرحات التي لا تصدها حوائل، لا من المجتمع ولا من الطبيعة، فبساط الريح ينقله أينما أراد، والخاتم السحري ينقل إليه كل ما شاء، فإذا هو يحيا حياة يتمناها ولا يجدها، فإنه مستمتع بما يقرأ، بغض النظر عن الجنس والوطن واللغة والعصر الذي يعيش فيه.
فتحدث كيف شئت عن نفسك، أو عمن حولك، حديثا تغترفه من الواقع الفعلي، أو من خلق الخيال، فأنت بالضرورة «محلي» في نوع التفصيلات التي تسوقها، لكنك تجاوز هذه المحلية إذا كشفت للناس عما لم يكونوا قد رأوه من أنفسهم، ثم يلمحون فيه الصدق بمجرد روايته لهم.
وليس الأمر في ذلك مقصورا على الأدب، بل إنه ليشمل سائر ضروب الفكر والفلسفة والسياسة والفن، ولنبدأ حديثنا بالفن من تصوير ونحت، فلئن كان الأدب مرتكزا على اللغة، التي هي بدورها مشحونة بالخبرة المحلية إلى الدرجة التي يتعذر نقلها كاملة إلى أية لغة أخرى، وبذلك لا يتاح للأدب أن يتخطى حدوده المحلية تخطيا كاملا، إذ لا بد أن يبقى منه جزء لصيق بأرضه وبأهله، فإن الفن التشكيلي من نحت وتصوير متحرر من هذا القيد؛ لأنه لا يحتاج من متذوقه إلا إلى الرؤية المباشرة، وبلمحة بصرية نافذة، يجوز للفن المحلي أن ينتقل كاملا إلى المتذوق من أي موطن جاء ومن أي عصر، إن كل صورة وكل تمثال مما تركه لنا الفنان المصري القديم، يجسد الروح المصرية الفرعونية تجسيدا لا تخطئه حتى النظرة السريعة العابرة، فتنتقل قيمه الفنية كلها إلى الإنسان الرائي، لا تحول دون ذلك حواجز المكان والزمان، وكذلك قل في الفن الإسلامي، وما ينطبع به من طابع يميزه في كل جزء منه، وكذلك قل في كل فن أصيل، من فنون الشرق والغرب والشمال والجنوب، فالحدود المحلية تذوب ذوبانا بحيث يصبح - بالإضافة إلى كونه حاملا لكافة الخصائص المحلية - فنا يتذوقه كل إنسان، وهل حال شيء دون أن يستوحي الفن الحديث الفن الأفريقي بكل ما فيه من بساطة ورمز وتجريد؟ ولك أن تقول ذلك وأكثر منه بالنسبة إلى الموسيقى، فقد يكون العزف أفريقي المنشأ، فيرقص له الإنسان النشوان في كل مكان.
والفلسفة على ما فيها من موضوعية وتجريد يحررانها من قيود مكانها وزمانها، حتى ليصغي إلى الفيلسوف سكان الأرض جميعا، وفي كل العصور بغض النظر عن موطنه وعصره، فإنها مع ذلك متأثرة بمكانها وزمانها تأثرا يجعل الفلسفة في إنجلترا غيرها في فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا أو الروسيا، أريد أن أقول إن الفيلسوف برغم موضوعيته في النظر، متأثر بطابع قومه في التفكير، ومع ذلك فلأنه يعكس في فلسفته خصائص العقل الإنساني من إحدى نواحيه، فهو مقروء في غير أرضه وفي غير أمته، وإذن فالعبرة دائما هي في الوقوع على جذر عميق من جذور الفطرة الإنسانية، ثم دقة التعبير عنه وصدق التصوير والتحليل، وذلك وحده كفيل للأثر الفكري أو الأدبي أو الفني بأن يجاوز حدود الإقليمية إلى حيث الإنسانية كلها، مع احتفاظه بكل خصائص الإقليم.
وانتقل من مجال الأدب والفن والفلسفة إلى مجال الفعل، تجد الظاهرة نفسها، ولنأخذ مثلا من ضروب الفعل ثورات الشعوب، فكم من شعب ثار داخل إقليمه على هذا أو ذاك من أوضاعه التي أثارت فيه الغضب، ولكن ما كل ثورة تجاوز حدود إقليمها إلى غيره من الأقاليم؛ وذلك لأن من الثورات ما ليس يحمل من القيم إلا ما يهم أهل إقليمه وحده، كأن يثور الثائرون على حاكم بعينه، حتى إذا ما تبدل حاكم بحاكم انتهى الأمر، لكن من الثورات كذلك ما هو مترع بالقيم الإنسانية، التي من أجل تحقيقها قامت، والقيم الإنسانية لا تخص إقليما دون إقليم ، فسرعان عندئذ ما تطغى موجتها عبر حدود وطنها، لتجتاح غيره من الأوطان التي تتعطش للقيم الجديدة ذاتها، وكانت تنتظر القيادة لتنفجر، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تجيء القيادة الثورة من داخل أو من خارج، وما الرسالات السماوية في الديانات إلا ثورات من هذا القبيل، جاءت لتستبدل قيما بقيم، وضربا من الحياة بضرب؛ ولذلك لم تقتصر رسالة منها على إقليمها، بل امتدت كلها حتى شملت رقعة فسيحة من الأرض، في هذا الاتجاه أو ذاك، وكذلك الحال بالنسبة للثورات السياسية، فالثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة المصرية كلها من ثورات القيم، التي لا تكاد تنبثق في مكان، حتى تجد الأشياع في كل مكان.
ليس في الجمع بين المحلية والعالمية سر ملغز، فسره مكشوف واضح، وهو العثور على أصل من أصول الفطرة البشرية - في قوتها أو في ضعفها - من حيث الذوق، والشعور، أو منطقية الفكرة، أو القيم، وفي كل حالة من هذه الحالات ينضح الكاتب أو الفنان أو السياسي أو الفيلسوف، من بيئته المحلية، إذ لا يسعه غير ذلك، ثم يتوقف الأمر في عالمية الإنتاج على مضمونه: فهل يمس فطرة الإنسان في أصل من أصولها؟ وإن الفطرة البشرية لهي من الخصوبة والغنى بحيث لا يستنفدها الأدب والفكر في أمة واحدة أو في عصر واحد، فهي قد تعلو إلى معارج الملائكة في روحانيتها وصفائها، وقد تسفل إلى مهاوي الشياطين في خبثها وخستها وشرها، وإنه ليكفينا من المفكر أو الأديب لمحة صادقة واحدة، يضيء لنا لها جانبا مظلما من هذا العالم الرحيب، فإذا ما فعل ذلك ووفق فيه، اجتاز من فوره حدود مكانه وزمانه ليرحب به العالم أجمعين.
لكنني أتساءل ها هنا: لماذا نقرأ نحن هنا في الوطن العربي لأدباء العالم ومفكريه - وبخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية - أكثر ألف ألف مرة مما يقرأ ذلك العالم لأدبائنا ومفكرينا؟ لماذا اجتاز أدبهم وفكرهم حدود المحلية ليصبحا أدبا وفكرا عالميين، ولم يجتز هذه الحدود أدبنا وفكرنا، حتى ليقرأ بعضنا لبعضنا وكأننا نتهامس في غرفة مغلقة، لقد وفقنا في ثورتنا السياسية والاجتماعية أن نجعلها ثورة إنسانية تتأثر بها بلاد كثيرة جدا في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، كأننا كنا نثور لهم ولنا في آن واحد، لكونها ثورة تقوم على قيم ومبادئ، فلماذا يخوننا التوفيق في دنيا القلم؟ ألأن الأدب والفكر عندنا لم يستطيعا لمسة الإنسان من حيث هو إنسان، واقتصرا على المواطن وعلى الفرد من جوانبهما التي لا تعمق حتى تمس جذور الفطرة المشتركة العامة؟ أم أنها هي اللغة التي نكتب بها، والتي قلما تجد من يترجمها إلى لغات أوسع انتشارا؟ إننا نحن الذين نترجم لأنفسنا من اللغات الأخرى إلى لغتنا العربية، فهل يطلب منا كذلك أن نترجم لأنفسنا من لغتنا العربية إلى اللغات الأخرى؟ يخيل إلي ألا مناص لنا من أن نفعل ذلك، برغم أن الأقرب إلى الطبيعي أن ينقل عنا الراغبون فينا، كما هي الحال دائما في حركات النقل الثقافي صغراها وكبراها على السواء.
على أن ترجمة آثارنا الأدبية والفكرية ليست هي الوسيلة الوحيدة في إخراجنا من المحلية إلى العالمية؛ لأن ثمة من الوسائل الأخرى ما يمكن اللجوء إليه، من أهمها نقل الفنون التي لا يحتاج تذوقها إلى لغة تترجم أو لا تترجم، فثقافتنا المحلية التي فيها بعض القدرة على أن تكون رسالة عالمية، مبثوثة في ثمرات التصوير والنحت، وفي عدد لا بأس به من الأفلام السينمائية والتليفزيونية، حيث تكفي رؤية البصر، وفي بعض معزوفاتنا الموسيقية والغنائية التي يكفي لتقويمها إنصات الأذن، وإذن فلزام علينا أن نعرض على العالم كل ما يمكن عرضه لنحطم حواجز المحلية التي تحصرنا في نطاق أنفسنا أو تكاد.
إن من حقنا الطبيعي أن نثبت ذواتنا، في إنتاج يحمل خصائصنا المحلية، بكل ما فيها من ألوان تميز الأفراد من حيث هم أفراد، وتميزهم من حيث هم مواطنون، لكن خطوة ثالثة وأخيرة لا بد من اجتيازها لتكون لنا رسالة فكرية وهي أن تطلع العالم على ذلك الجانب من ذواتنا، الذي يتجلى فيها «الإنسان» من حيث هو إنسان ذو فطرة عامة شاملة، وذو قيم ومبادئ تسعى إلى تحقيقها الإنسانية في سيرها الدائب نحو الكمال، لا تعرف لنفسها في ذلك قيودا من مكان ولا حدودا من زمان.
من هو المثقف الثوري
Bilinmeyen sayfa