فقال الآخر: ولكن لو كنت أنت قد دفنت في هذه النار؟ فأجابه الثاني: إذن كنت أكون هذه البذرة».
فهذه أمثولة جميلة، لو أن أحد شعرائنا وضعها في مقطوعة يحفظها الصغار، لكانت من خير المحفوظات التي تقوم الأخلاق وتغرس في نفس الناشئ روح البذل والتضحية، ففيها معنى الإيثار، وبذل النفس لمصلحة الغير، ثم فيها هذا المعنى الخطير وهو أن كل كلمة نتفوه بها أو عمل نعمله هو بمثابة البذرة التي تنبت وتثمر آلاف البذور.
وهذا يبعثنا إلى أن نحاسب أنفسنا، فلا نزرع من البذور إلا أصلحها فكلمة السباب التي ننطق بها أو نكتبها هي بذرة سوء، ستنبت كالشوك بين الجيل الجديد الذي ينشأ على تعلمها والتلفظ بها، وخواطر الحقد والحسد والجبن والأثرة التي نتفوه بها أو نكتبها ستجد صدى في نفوس الذين يسمعونها أو يقرءونها فينشئون عليها نشأة سيئة.
فكل منا زارع، وما من عمل نأتيه أو كلمة نتفوه بها إلا وهي بمثابة البذرة تنمو وتربو وتثمر الثمرة الصالحة أو السيئة، وذلك لأننا نعيش بين الناس، فهم قدوة لنا ونحن قدوة لهم، وهم يتأثرون بأعمالنا وأقوالنا كما نتأثر نحن بهم، وأكبر عامل في الأخلاق، بل يكاد يكون العامل الوحيد فيها، هو القدوة، فنحن ننشأ على غرار من حولنا من الناس الذين نعاشرهم أو نلابسهم في معاملة أو زمالة أو نحو ذلك، ومرجع هذه القوة التي نراها في القدوة هو ما فطرنا عليه من المحاكاة لغيرنا، فنحن نحاكي الناس في حركاتهم وكلامهم وأعمالهم على غير وعي منا، بحيث إننا نحب ونكره الناس والأشياء، أو نعجب بهم، في أكثر الأحيان إن لم نقل فيها كلها، تقليدا ومحاكاة وليس عن سبيل التفكير والاختيار، فإذا كان هؤلاء الناس يبذرون البذرة الصالحة في القول والعمل نشأنا مثلهم، وإذا كانوا عكس ذلك ينطقون بهجر القول ولا يستحيون من فاسد أعمالهم فإننا نقتدي بهم ونسير سيرة السوء التي يسيرون عليها، ومن هنا نفوذ الكاتب أو الزعيم، أو أي إنسان آخر له وجاهة المال أو الحسب أو المركز، فإنه يستطيع بالقول أو العمل أن يكون قوة للخير أو الشر وأن يكون بذرة تنبت للجيل الذي يليه فينتفع أو يستضر بها في أخلاقه، ويجب لهذا السبب أن تكون فينا روح ذلك الألماني الذي يرمي بنفسه في النار كي ينقذ بعض الناس أو الأشياء راضيا بأن يكون كالبذرة تدفن في التراب كي ينتفع بها أبناء الجيل القادم إذا لم ينفع أبناء الجيل الحاضر، وإذا كنا نؤمن بأن الوسط يؤثر في الإنسان فإننا يجب ألا ننسي أننا أنفسنا أحد أجزاء هذا الوسط الذي يتألف منه الكل، وكما أن الوسط السيئ يجعل اللص الكبير رئيس المنسر، والعاهر السكير والمبذر من الأبطال الشهام، فكذلك الوسط الحسن لا يقر بالبطولة والشهامة إلا للرجل الطاهر الذي يسعى للخدمة فيعمل لتأسيس مدرسة أو مستشفى أو إصلاح أحوال العمال أو نحو ذلك مما هو في نسق الرقي الحديث وشهامة القرن العشرين، فيجب أن نكون نحن تلك البذرة الحسنة والقدوة الفاضلة للجيل القادم.
الفصل الثاني والخمسون
ما هو التمدن
من الناس من لا يهمهم من التمدن إلا أن يعرفوا هل هو التمدن أو التمدين. أما أنا وأنت فلا نبالي إلا بحقيقته وماهيته.
ونحن نبالي بذلك لأننا نرغب كلنا في أن نكون متمدنين وأن نبلغ من التمدن أعلى درجاته؛ ولذلك يجب علينا أن نعرف ما هو التمدن.
لقد سأل أحد الكتاب الإنجليز وهو المستر «بل» هذا السؤال وأجاب عليه بكتاب ضخم استقرأ فيه أحوال الأمم المتمدنة في العصور القديمة والحديثة، كي يعرف منها تلك السمات التي تتسم بها وتشترك فيها الحضارات مهما اختلفت أزمانها أو أقاليمها، ولكنه قبل أن يشرع في بحث هذه الحضارات ومقابلتها الواحدة بالأخرى، عمد إلى الأوساط المتبربرة حيث لا تكون الحضارة فوجد فيها جملة صفات هي في الواقع أساس الحضارة ولكنها ليست منها كما نفهم نحن الآن من مدلول هذه الكلمة.
ففي الأوساط المتبربرة نجد احترام الامتلاك في العقار، والإيمان بآلهة ما، وبالحياة الأخرى، ثم احترام المرأة، والصدق، والنظافة، والطهارة، والدفاع عن الوطن، فهذه صفات توجد عند المتمدنين وهي قد تعد أساسا للحضارة، ولكنها ليست الحضارة كما نفهمها الآن، فإننا نطلب من الرجل المتمدن أو المتحضر أشياء أدق وأخص من هذه العموميات.
Bilinmeyen sayfa