لقد درست لهذا الناقد كنيث بيرك دراسته النقدية لكتاب جيمس جويس «صورة فنان في شبابه» - وهو سيرة ذاتية لجويس - فوجدته خلال تلك الدراسة العجيبة التي تتركك ذاهلا دهشا من العلمية الدقيقة الأمينة الصابرة، وجدته في غضون الحديث يلقي إلى دارس النقد بتعاليم ترسم له طريق النقد، فيوصيه بأن تكون الخطوة الأولى عملية تصنيف للألفاظ الدالة على «أفعال» و«مواقف» و«أفكار» و«صور» و«علاقات»، وبعد هذا التصنيف يستخرج أمثلة التضاد الواردة؛ فقد يجد الكاتب مثلا - كما هي الحال في كتاب جويس - يضاد بين الفن والدين، ثم يوصيه أن يلحظ بصفة خاصة كيف يبدأ الكاتب فقراته وكيف يختمها، ومتى يرد في كلامه وصل ومتى يعمد إلى الفصل؟ ويوصيه أن يفتح عينيه منتبها إلى أسماء الأعلام، وهل تدل على معان معينة فوق كونها أسماء؟ وكذلك يوصيه أن يتتبع العلاقات الداخلية السارية بين أجزاء الكتاب، عن طريق العبارات المشتملة على كلمات مشتركة، وأن يحاول في هذا التتبع أن يبحث عن موضع يراه نقطة تحول، أو يراه آخر ما يصل إليه الكاتب في شوط متدرج المراحل، ويوصيه أن يتنبه كلما وقع في الكتاب على حافز معين أو دافع إلى سلوك، فيرى هل عمد الكاتب إلى وصف جزء من الطبيعة عندئذ، وإذا كان قد فعل، فهل هنالك علاقة شبه أو تضاد بين سلوك الشخصية ودوافعها من جهة، وعناصر المسرح الطبيعي حولها من جهة أخرى؟ إلى آخر ما أوصى به.
لكنني في إيثاري لمثل هذا النقد التحليلي العلمي، لا أغمض عيني لحظة واحدة عن سائر مذاهب النقد وطرائقه، فكلها وسائل متعاونة، يقرأ بها النقاد الأعمال الأدبية، نيابة عن عامة القراء، ليرى هؤلاء فيما يقرءونه آمادا وأبعادا ومستويات لم تكن لتخطر لهم على بال، لولا أولئك النقاد.
مراجعة الموازين
تساورني شكوك كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، وقارنت الأسماء التي لمعت في سمائها، بالأعمال التي رجحت بأصحابها في موازين النقد والتقويم، بحيث استحقت مكانتها تلك؛ إذ يخيل إلي أحيانا - عند هذه المقارنة التي قد أجريها بين الأسماء والأعمال - أن ثمة فجوات، تتسع آنا وتضيق آنا، بين القيمة الحقيقية التي أراها في الأعمال من جهة، وحظ أصحابها من التقدير من جهة أخرى؛ فلطالما وجدت عملا جديرا بالذكر، ومع ذلك لم يظفر صاحبه بنصيب يذكر من الإشادة والتقدير، ثم ما أكثر ما وجدت أعمالا كان يكفيها الذكر القليل، ومع ذلك فقد نفخ لأصحابها في الأبواق حتى امتلأت بذكرهم المسامع؛ مما يؤكد لي ضرورة أن يعاد النظر في حياتنا الثقافية، فتراجع موازين النقد بنظرات موضوعية محايدة، معصومة من التأثر بالشائعات، ما استطاعت نزوات البشر إلى مثل هذه العصمة سبيلا.
وليست هذه الإعادة والمراجعة بالترف الفكري الذي يصطنعه الناس إزجاء للفراغ؛ لأن الأمر هنا - كما أراه - متعلق بمسارنا الثقافي كله في الجيل الآتي، أو الأجيال الآتية لفترة طويلة من الزمن؛ فأصحاب المواهب إنما يتجهون بمواهبهم نحو ما يجدونه ماثلا أمام أبصارهم من معايير أقرها لهم المناخ الثقافي القائم؛ إذ يندر أن تكون موهبة الموهوب مفطورة على عمل محدد معين، والأغلب أن تكون نوعا من «القدرة» يتجه بها صاحبها نحو هذا الموضوع أو ذلك بحسب ما تمليه عليه تيارات عصره، ومن هنا نفهم لماذا اختص كل عصر بلون ثقافي معين، يميزه دون سائر العصور؛ فعصر قد تسوده التأملات الفلسفية - مثلا - وعصر آخر يسوده الاهتمام باللغة وجمعها، أو بالتشريع، أو بالعلوم الفلكية، أو بالطبيعة الذرية، وهكذا؛ فلو عاش الفيلسوف القديم في عصر الذرة هذا لكان الأرجح أن يكون من علماء الطبيعة، وكذلك لو عاش عالم الطبيعة النووية الحديث في عصر التأملات الفلسفية لكان الأرجح أن ينخرط في زمرة الفلاسفة، وهكذا نرى أن قوام الموهبة يغلب أن يكون «قدرة» يمتاز بها صاحبها، وله أن يوجهها إلى حيث أراد له عصره وقومه أن يوجهها.
فمن أهم ما ينبغي أن نهتم له - إذن - الإشارات المرفوعة في جونا الثقافي؛ لأنها قمينة أن تجذب أصحاب المواهب إلى الوجهات التي تشير إليها، وليس من شك في أن أقوى تلك الإشارات المرفوعة تأثيرا، التقديرات المادية والمعنوية، وإلى أي ضرب من الرجال تتجه؟ فإذا رأى الناس أن الدولة والهيئات الثقافية ورجال النقد قد صبوا الأضواء على الأدب المسرحي، أو الأدب القصصي، أو الشعر من طراز معين، توقعنا لأصحاب المواهب من الناشئين أن يتجهوا بمواهبهم إلى مساقط تلك الأضواء. ولست أظن أن للتاريخ حتمية توجب أن يظهر أدب المسرح في الأعوام الفلانية، وأن يولد أدب القصة في الفترة الفلانية، وإنما الأمر متعلق ب «النجاح» الأدبي أين يكون، وماذا تكون شروطه.
والذي تساورني من أجله الشكوك، كلما أمعنت النظر في حياتنا الثقافية، هو أن هذا النجاح الأدبي وشروطه لم يكن - في كثير من الحالات - مرهونا بالقيمة الحقيقية للأعمال الفكرية أو الأدبية، بقدر ما ارتهن بضروب من السلوك قد لا يكون بينها وبين حياة الفكر والأدب أدنى علاقة؛ فلقد خلط الناس عندنا خلطا فاضحا بين شيئين مختلفين: المنزلة الاجتماعية للرجل، وقيمته الثقافية. فإذا ضمنت لنفسك منزلة اجتماعية - بالمنصب الرفيع، أو الانتساب إلى مواقع النفوذ والجاه أو غير ذلك - فكن على يقين عندئذ بأن أعمالك في دنيا الفكر والأدب ستنال من التقدير أضعاف أضعاف ما كانت لتناله لو كنت واحدا من عامة الناس، فليس الكتاب يصدره وزير كالكتاب يصدره عابر سبيل من سائر عباد الله.
إنه لمن أنفع المقاييس في فهمك لجماعة من الناس أن تقع على ترتيب القيم عندها، فماذا يأتي من تلك القيم أولا؟ وماذا يأتي منها ثانيا فثالثا؟ فلو وقعت على هذا الترتيب للقيم - من حيث الأعلى والأدنى - سهل عليك أن تفهم من أمور الناس ما لم يكن مفهوما من قبل، ولا أظنني أقول جديدا إذا قلت إن القيمة العليا في مجتمعنا المصري، التي لا تدنو منها قيمة أخرى، هي أن تكون من أصحاب السلطان النافذ، فإن فاتك أن تكون منهم فلتتشبه بهم مظهرا وسلوكا؛ لعل أمرك يختلط على الناس، فيضعونك حيث يضعونهم، ومن هذه القيمة العليا تتفرع سائر القيم صعودا وهبوطا.
فماذا يصنع من أراد منا أن يكون من أصحاب الأسماء المذكورة المشهورة في عالم الفكر والفن والأدب؟ إنه إذا اعتمد على التجويد وحده فقد يصيب سهمه وقد يخيب، وربما كانت الخيبة أقرب إلى الحدوث من الإصابة؛ لأنه حتى لو عرف الناس قدره في ميدان نشاطه، فالأغلب أن يقف تقديرهم ذاك عند حدود الهمس بالشفاه، أما التقدير الآخر المتجسد في قيادة وريادة، فمدخر لمن استطاع أن يصطنع مظاهر الجاه الرفيع.
لقد قلتها صريحة لرجل مسئول منذ سبع سنوات أو نحوها، وكان ذلك حين دعاني ليستوضحني السر فيما ظنه غضبا مني على أوضاع معينة من حياتنا الثقافية، قلتها له صريحة مخلصة صادقة، بأنني لا أتأرق لشيء يمس شخصي، فمن هو في مثل سني ينعم بشيء من السكينة؛ لأن حياته كادت أن تكون ماضيا يذكر فيروي ما يروي من سيئاته وحسناته، أو لا يذكر فيغوص في بحر النسيان إلى القاع. وأما الذي يؤرقني فهو جيل أصحاب المواهب، أراهم يتلفتون حولهم ليلتمسوا الطريق إلى النجاح، فماذا هم صانعون في ذلك أيسر من أن ينظروا إلى المتربعين في أماكن القيادة والريادة؛ ليحذوا حذوهم، وها هنا مكمن الخطر؛ لأنهم ربما وجدوا نفرا من هؤلاء لم يبلغوا ما بلغوه بنتاج جيد عرضوه في الأسواق واستحقوا من أجله التقدير، بل هم بلغوا ما بلغوه بتخطيط دقيق لطرائق السلوك؛ فمتى يظهر في الحفل ومتى لا يظهر؟ وإذا ظهر، ففي أي الصفوف يكون مجلسه؟ ومن ذا يكلم من الناس ومن ذا يتولى عنه مستكبرا؟ أين يذهب ليلتف حوله الحواريون؟ وهكذا وهكذا إلى آخر التفصيلات التي لا ترد لنا على بال، ومن جملة أمور كهذه ينشأ له المناخ الصالح، الذي لا يصعب عليه بعده أن يعد «أديبا» أو «مفكرا» أو «فنانا»، أو ما اختار لنفسه أن يلمع نجمه فيه.
Bilinmeyen sayfa