ألست تقول في بساطة الصدق إنه فرد متفرد؛ لأنه فلان الفلاني وليس سواه، لكنه في الوقت نفسه ينتمي إلى صنف معين من الناس؟
إن ما قد جعله فردا متفردا بصفاته، ثم جعله في الوقت نفسه مطبوعا بطابع يلحقه بفئة معينة من الناس، هو «الصورة» التي جاءت حوادث حياته في إطارها؛ فالحوادث نفسها بعد أول، والإطار الذي يمسكها بعد ثان، وهذا هو بعينه ما يصنعه الأديب في خلق أشخاصه، ولولا الإطار الذي يضم شتيت الحوادث لما كان الشخص صاحب الحوادث «مفهوما» لنا.
وما أكثر ما يقول الواحد منا عن شخص بعينه إنه لا يفهمه، حين يقصد بذلك أنه وإن يكن قد رأى من حياته جوانب كثيرة ومواقف كثيرة، إلا أنه لم يستطع بعد أن يجد الإطار الذي يضم الكثرة المبعثرة في وحدة واحدة.
ثم لا يكتفي الأديب العبقري بهذين البعدين إزاء خلقه الأدبي، بل إنه يعلو إلى مرتبة ثالثة، حين يفتح أبصارنا لا على الإطار النفسي وحده، بل يوجهها كذلك إلى ما هو فوق ذلك من ينابيع السلوك ومصادره كما تهديه إليها موهبته في إدراك طبائع الناس، لماذا يقال عن الهندي والأمريكي إنهما ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين اختلافا أصيلا؟
إننا قد نجد غليظ القلب هنا وهناك، وقد نجد كريم النفس هنا وهناك، قد نجد من يكدح ليجمع المال هنا وهناك، ومن ينصرف عن حياة الكدح إلى حياة العلم أو الفن هنا وهناك، لكننا مع ذلك حتى حين يتشابه الرجلان في صفة بعينها، نقول - بعد تحليل - إن أحدهما مختلف عن الآخر في وجهة نظره إلى الحياة، لماذا؟ لأننا عندئذ نشير إلى ما هو أعمق من الدوافع النفسية عند الرجلين؛ إذ نشير إلى القيمة العليا المدسوسة في تفصيلات الحياة؛ فقد تكون القيمة العليا عند الهندي - مثلا - أنه جزء لا يتجزأ من الكون؛ وبالتالي فليس له فردية قائمة بذاتها، على حين قد تكون القيمة العليا عند الأمريكي هي أن الفرد الإنساني له حقيقة مستقلة تجابه حقيقة الكون مجابهة الذات للموضوع.
قد يكون هذا وقد لا يكون، فلست هنا بصدد القول الذي أتحمل تبعته عما يميز الثقافة الهندية من الثقافة الأمريكية، ولكنني أقول إن القصاص في رسمه لأشخاصه إذا ما كشف خلال سلوك هؤلاء الأشخاص عن المفاتيح الدفينة لكل سلوك فإنما يبلغ بهذا بعدا ثالثا؛ وبذلك تتكامل لخلقه الفني أبعاده الثلاثة؛ فكثرة من حوادث أولا، وإطار نفسي يضمها في شخص واحد ثانيا، وأساس أولي عميق تنبني عليه كل تفصيلات الحياة ثالثا.
في هذه الدرجات الثلاث نلاحظ أن الأعلى يفسر الأدنى، وأن الأدنى بغير الأعلى يظل غير مفهوم؛ فالدوافع النفسية التي نؤلف منها إطارا يصب الشخص الواحد في كائن واحد متصل، تفسر حوادث الحياة التفصيلية، وبغيرها تظل هذه الحوادث غير مفهومة لنا.
وكذلك يظل الإطار النفسي غير مفهوم حتى تجد له ما يفسره من العناصر الرئيسية في ثقافة البلد أو العصر الذي يعيش فيه الشخص المعين.
إنني لأستعرض الآن في ذهني طائفة من أصدقائي، فأراهم من حيث طرائق سلوكهم في الموقف الواحد مختلفين أبعد ما يكون الاختلاف؛ فهذا يستخف بنفس الشيء الذي يهتم له زميله، وذلك جاد حيث يهزل زميله.
ثم أحاول أن أنفذ خلال هذا السلوك الظاهر إلى حيث الدوافع النفسية، فيهولني - إذا لم أكن مخطئا في التحليل - أن أجد مزاح مازح منهم ينبثق من معين يتدفق مرارة في باطنه، على حين أجد مزاح آخر لا ينطوي في دخيلة نفسه إلا على سخرية بما في عالم الأشياء من متناقضات دون أن يضمر ما يضمره الأول من حقد وضغينة إزاء الناس، لكني أعلو فوق هذه الدوافع النفسية التي تختلف فيما بينهم، فأجدهم جميعا يرتدون إلى أصل أصيل لعله هو الذي يجعل منهم فئة متشابهة من أصدقاء، وهو الطيبة التي لا تصيب أحدا بأذى، ولو مسسنا في شخص ذلك الأصل الأصيل في بنائه الثقافي، فقد كشفنا فيه عما يصح تسميته بفلسفة الحياة عنده.
Bilinmeyen sayfa