بل هو يجمع الحالات من مصادر شتى، يجمعها ألوفا ألوفا، ثم يمارس فيها فاعليته الموحدة ليخلق منها شخصا ليس له وجود بين الناس، ولكنه من خلقه هو.
فليس بين الناس هاملت بكل ظروفه، وليس بينهم دون كيشوت بكل ظروفه، لكن شيكسبير قد جمع في تصوره حالات شتى، اختار منها مجموعة صبها في هذا القالب الجديد، وكذلك فعل سيرفانتيز، وكذلك يفعل كل أديب خلاق.
هناك إذن حوادث جزئية وحالات مفردة، هي المادة الخامة التي يصنع منها الأديب نتاجه، وهي ما أسميه بالبعد الأول في حياة الناس، ولو اقتصر عليها كاتب القصة لما كان من الأدب في كثير، بل هو عندئذ يكون أقرب إلى المرأة العجوز تظل تحكي لأبنائها تفصيلات عما قد شاهدت على مر السنين.
وهل أكون أديبا قصصيا لو طفقت أذكر لك أي عدد شئت من تفصيلات حياتي أيام نشأتي في القرية، وكيف انتقلت إلى القاهرة حين انتقل أبي، وفي أي مدرسة تعلمت، وأي الأصدقاء صادقت، وهكذا؟
إن من يستطيع سرد هذه الحوادث كلها هو على كل حال خير ممن لا يستطيع، لكن أين هو من الأدب القصصي كما يريده الفن الرفيع؟
إنه لا فن بغير اختيار، ثم لا فن بغير عضونة المادة المختارة في مخلوقات جديدة، وإنما تتحقق هذه العضونة عن طريق الصورة التي أخلعها على مجموعة الحوادث المختارة، بحيث يتكون منها كائن واحد ذو طابع نفسي خاص، وعندئذ يكون الأديب قد انتقل من البعد الأول إلى البعد الثاني في أشخاص قصته.
إن سؤالا يسأل أحيانا عن الشخصية القصصية، ما هي؟ أهي فرد منفرد بخصائصه التي لا تتكرر في سواه، أم هي نمط يتشابه فيه عدد كبير من الناس؟
والجواب على ذلك هو كالجواب على سؤال أوجهه إليك عن فلان: كيف تراه؟
فتجيب قائلا: أراه غاية في الذكاء، لكنه يستخدم ذكاءه في الشر.
فلو سألتك بعدئذ سؤالا آخر: أيكون فلان هذا فردا أم يكون نموذجا للرجل الذكي حين يستخدم ذكاءه في الشر، فبماذا تجيب؟
Bilinmeyen sayfa