وهذه النقطة الأخيرة بالغة الخطورة في موضوعنا، فلسنا ممن يقول إن حرية الفنان تجيز له أن يعبث بمادته الفنية كيف شاء، فيجري اللفظ أو اللون أو النغم كما تريد له نزواته، بل لا بد في كل فن من الالتزام، وأشد التزام هو التزام «الحق» كما يعثر عليه في دخيلة نفسه، فليس فنا ما ليس يلجم صاحبه دون الشطح الذي لا يعرف الحدود والقيود، وإلا لكان كل حالم فنانا، فلئن كان الفنان بمثابة من يحلم لبني جنسه من البشر، إلا أنه حلم منضبط بالقواعد والقوالب والمبادئ انضباطا يقيده في حدود «الحق» الذي يريد الفنان أن يبثه في فنه. وإنك لتميز الفن الأصيل من الفن الرخيص بمثل هذا المعيار: أتحس وأنت بإزاء القطعة الفنية كأنما أنت ناعس يتلقى أوهاما لا توقظه، أم تحس كأنما شيء يحرك فيك قواك الروحية لتلتمس الحقيقة الكامنة وراء اللفظ أو اللون أو النغم؟ فهل تستطيع - مثلا - أن تقرأ المتنبي وأنت غافل، أم تراك يقظان الروح عند قراءته حتى توشك أن تكون أنت هو المتنبي عندئذ في اعتزازه بنفسه وكبريائه؟
لقد كان للفن قديما ووسيطا وحديثا رسالة اجتماعية، وما يزال. وليس بمستغرب أن تجد متاحف الفن في كل عواصم العالم كالعنوان من الكتاب؛ لأنه لا حضارة بغير فن، ثم لا حضارة بغير اشتراك الأفراد في نشاط تتسق أطرافه على اختلافها في الظاهر. ولم تكن وظيفة الفن الاجتماعية موضع شك وسؤال إلا منذ الحركة الرومانسية في أوائل القرن الماضي، فعندئذ راح الناس يسألون - وما زالوا على سؤالهم - أنجعل الفن شيئا فرديا خاصا بصاحبه وحده، أم يكون للناس أجمعين؟ أما قبل ذلك فلم يتردد أحد في أن الفن للمجتمع كله، فما كان الشاعر ينشد لنفسه، ولكنه ينشد للناس، وما كان المثال أو الرسام أو الموسيقي ينحت التماثيل أو يرسم الصور أو يعزف الموسيقى ليكون ذلك بمثابة النجوى بينه وبين نفسه، بل كان كل ذلك للناس أجمعين. فلما أخذنا التردد أخيرا في مهمة الفن، وجدت من يدعو إلى أن يكون الفن حديثا من الفنان لنفسه، وليستمتع به من الناس من شاء، وليسخط عليه من شاء. ولعل ما قد حدا بأصحاب هذه الدعوة إلى مثل هذا التطرف، ما قد رأوه محيطا بهم من نظم سياسية تسحق الفرد سحقا، فقالوا ليكن الفن ملجأ الفرد الذي يأوي إليه مطمئنا آمنا.
والدعوة التي ندعو إليها في رسالة الفن ماذا تكون، إنما تحقق الفردية العزيزة على أصحابها، كما تحقق في الوقت نفسه اشتراك الناس في فاعلية واحدة، وهي أن يتجه الفنان إلى حقيقة الإنسان في آماله وآلامه وخواطره ومشاعره؛ ليلتقي في محرابه كل إنسان.
الإنسان المعاصر في الأدب الحديث
1
كنت أتمنى أن أجد كاتبا عربيا ممن عاشوا حياة أدبية مديدة غزيرة خصبة عميقة، يكتب لنا تاريخ الحركات الأدبية كما رآها من داخل، وكما شارك فيها قارئا وكاتبا وناقدا، فعندئذ يجيء حديثه شيئا فريدا، فلا هو يشبه البحوث الأكاديمية الباردة التي تقدم لنا موضوعات بحثها فلا يكون ثمة فرق بين أن يكون الموضوع المعروض شاعرا أو أن يكون تحليلا كيماويا لقطرات من سائل مجهول، كلا ولا هو يشبه الأحاديث التي يكتبها الناقدون في الصحف والمجلات، يقصدون بها إلى التسلية الخفيفة، فلا يعمدون في عرضها إلا إلى ما يلفت النظر، دون ما يمس اللباب والأعماق، بل يجيء الحديث عندئذ أشبه شيء بترجمة ثقافية لحياة الكاتب نفسه، فيستعرض القارئ مع الكاتب عصور الأدب ورجاله وآثاره، وكأنما هي جميعا قطع من حياة تجسدت في شخصية الكاتب. ولست أقول هذا لأستثقل البحوث الأكاديمية، ولا لأستخف أحاديث الناقدين المقتضبة العابرة، فلكل من هذين النوعين مهمة يؤديها، ولا غناء لحياتنا الثقافية عنها، لكنني أردت أن أقول إن ثمة نوعا ثالثا، هو هذا الذي أشرت إليه، فتصور كاتبا كالدكتور «طه حسين» أو كالأستاذ «العقاد»، قد أخرج لنا كتابا في الحركات الأدبية في هذا النصف الذي انقضى من القرن العشرين، كما عاشها هو، أفلا ترى عندئذ أن لمسة شخصية تضاف إلى الموضوع فتكسبه حياة من نوع جديد؟
لقد حاول هذه المحاولة بالنسبة لأدب الغرب، الكاتب الإنجليزي الروائي المسرحي «ج. ب. بريستلي» (ولد سنة 1894م)، فأخرج منذ عام واحد (1960م) كتابا أطلق عليه «الأدب والإنسان في الغرب»
1 - وكلمة «الغرب» هنا تشمل أمريكا وأوروبا بما في ذلك الروسيا - وهو يقصر نفسه على ما هو «حديث» من ذلك الأدب، و«الحديث» عنده يشمل خمسة قرون كاملة، تبدأ في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حين استخدمت الطباعة بأحرف ممكنة التحريك والنقل لأول مرة في أوروبا، وهي الطباعة التي خلقت الكتاب كما نعرفه اليوم. ولئن كان المؤلف يتعقب في كتابه عصورا تتوالى واتجاهات تتباين، ولا يظهر في صفحات كتابه من الأسماء - بطبيعة الحال - إلا أسماء الأدباء والمفكرين، أو أسماء الكتب التي أصدروها، إلا أنه على وعي كامل بأن وراء هذه الأسماء مئات من الأجيال البشرية، كانت في حياتها تتسم بهذا الطابع أو ذاك من أنماط السلوك، وتندفع بهذه المشاعر أو تلك، وبهذه الفكرة أو تلك، ولم يكن الأدب ليكون أدبا ما لم تكن تلك الأنماط السلوكية وتلك المشاعر والأفكار قد وجدت سبيلها إلى صفحات هذا الأدب، فظهرت في أسطرها صريحة أو مضمرة، ولقد لبث المؤلف نصف قرن كاملا، يقرأ الأدب قراءة الخبير الذواقة، وينتج الأدب إنتاج الكاتب الأصيل المتمكن، فتكونت عنده حصيلة ضخمة من خبرة أدبية حية، فهل يدعها تذهب بذهابه ، أو يسجلها ليشرك معه فيها شبابا ربما كانت ظروفه لا تتيح له أن يقرأ بهذه السعة كلها، وبهذا العمق كله، وبهذا الانقطاع لحرفة الأدب كما ينقطع لحرفته كل متخصص؟
أراد بريستلي بكتابه هذا أن يستعرض أدب الغرب كما تأثر به خلال قراءاته الطويلة ابتغاء الوصول إلى هدف رآه جديرا بالجهد الذي تكبده في إخراج هذا الكتاب، وهو أن يرسم «صورة للإنسان» في العالم الغربي، كما عاش هذا الإنسان وكما فكر وكما شعر، فها هو ذا العالم اليوم يمر بأزمة استحكمت حلقاتها، وحلها مرهون بأن يعرف الإنسان - في الغرب - نفسه؛ ليقرر ما يقرره وهو على بينة من دخيلة نفسه حتى لا يضل سواء السبيل، وهذا هو نفسه الذي يجعلني - أنا القارئ العربي - أتمنى أن ينهض منا أديب كبير فيعتصر لنا رحيق خبرته الأدبية؛ لعله هو الآخر أن يرسم لنا صورة الإنسان في هذه الرقعة من الأرض، مستخلصا هذه الصورة مما قد تناثر من أجزائها على صفحات الأدب.
وسأقصر القول هنا على قسم واحد - هو القسم الأخير - من الأقسام الأربعة التي يحتوي عليها كتاب بريستلي المذكور، وهو القسم الخاص بأدب القرن العشرين وإنسان القرن العشرين، محاولا أن أعرض للأدب العربي خلال هذه الفترة نفسها، بحيث يجيء حديثنا بمثابة المقابلة السريعة بين الأدبين وما يعكسه الأدبان - هنا وهناك - من صورة للإنسان كما عاش وفكر وشعر في العالم الغربي من جهة، وفي الشرق العربي من جهة أخرى.
Bilinmeyen sayfa