Boş Zamanlarda
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Türler
كان ذلك شأني بين طهطا وسوهاج. تدركت الشمس إلى المغيب، وقد ارتكز عندها مثلث من السحب ملأ الغرب وتشرذمت حوافيه. وكنت تحسبه أدكن اللون قاتما فلا تكاد ترى مخرجا للودق من خلاله. فلما تدلت الشمس طوقت حوافيه القريبة منها بسوار من ذهب. ثم ولت إلى مغيبها فلم تك إلا دقائق بعد ذلك حتى سكبت في السماء وراءها لهبا داميا ودما ملتهبا، وصرت ترى الذي كان قتاما داكنا قد استحال إلى لهب اشتعلت به السماء، فغطت النيران مثلث السحاب الذي ملأ الجو. وتشهد فحمة القتام بعد اشتعالها، وكأنك نيرون يشهد روما في احتراقها. لكن نيرون كان يشهد جريمته فيوقع على القيثارة أنغاما يسلي بها نفسه عن وخز ضميره. أما من شهد ذلك المنظر الفذ من صنع يد القدر فكان لا يستشعر سعير اللهب المحرق، بل كان يحس فيما يرى ببرد وسلام يهبط على البسيطة. يشعر في حنايا فؤاده بترداد حنين الإعجاب والشكر على أن شاركت روحه الصغيرة في كل تلك المعاني التي لا تؤديها هينمة ولا ترنم، وإنما تؤديها نغمة سماوية من نغم موسيقى الموصلي أو بتهوفن.
وخبا اللهب وتبينت قطعة السحاب التي حجبت المغرب، وقد امتدت خلالها من الشمال إلى الجنوب تعاريج متوازية من الأحمر القاني متتابعة فوق جبال ليبيا إلى منتصف السماء، حيث يمتد من أثر الشمس المولية مسرعة ظل ضاف متورد كأنه بقايا قبلة وداعها لهذا العالم الذي ظلت تشهده أعيننا من ساعة إضاءته في شروقها، وها تشتمله كسف الليل بعد إذ تركته مدبرة. وظلت هذه التعاريج المتوازية البديعة النظام تغالب الليل ويغالبها، وتفني فيه رويدا رويدا حتى كل بصري، وصرت لا أرى منها شيئا، ولا أرى إلا الليل قد كسا الوجود، ولا أدري متى كسا أمواج النار والذهب.
وانطلق القطار في طريقه إلى الأقصر وأنا مأخوذ بهذا المنظر الذي لم يبرح خيالي ولن يبرحه. وكلما عدت إلى نفسي جاهدت أريد أن أستعيد ذكرى مغارب الشمس البديعة التي تضارع ما شهدت من سويعة مضت لأقارنها به، فيغلب هذا المشهد جهادي وأعاود التحديق في مخيلتي بالقرص النازل وبأطواق الذهب تحف بأطراف السحب، وبالنار الملتهبة تشعل الفضاء، وبنيرون يشهد روما جللها اللهب، وبهذه التعاريج البديعة من خالص العسجد.
وبلغت الأقصر، وكان الليل قد انتصف أو كاد. فآويت إلى الفندق وقد هجد الناس جميعا فيه فلا تسمع لهم هسيسا. آويت إليه وقد زال أكثر ما بي من النصب؛ لأني كنت مشغولا عن التفكير فيه.
واستيقظت حوالي الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة، فأخذت أهبتي لمشاهدة بيبان الملوك وما حولها من آثار طيبة الخالدة.
آثار وادي الملوك (2)
في بيبان الملوك
تقوم الأقصر - أو القصور - اليوم على شاطئ النيل الأيمن في المكان الذي كانت قائمة فيه من قبل طيبة الأحياء. وبين مبانيها المتفاوتة في الفخامة الفخيمة والحقارة الفقيرة، ترتفع تلك البرابي الدارسة التي بقيت برغم بلاها عظيمة ضخمة مهيبة تتضاءل إلى جانبها أكبر القصور وأفخمها وأضخمها - برابي الأقصر وخونسو وآمون وما إليها. هذه البرابي أو المعابد أو القصور الضخمة الفخيمة، هي التي أتاحت للمدينة الحاضرة أن تسمى باسم الأقصر أو القصور.
بلغ بي القطار الأقصر حوالي منتصف الليل فآويت إلى فندق ونتربالاس. فلما كان الصباح أخذت أهبتي قاصدا وادي الملوك لزيارة القبر الجديد، قبر توت-عنخ-آمون. وإذ كان القارب يعبر بنا النيل إلى شاطئه الأيسر، حيث تقوم المقابر بين الجبال عند آخر الوادي، مر بنا زورق بخاري يقل عظمة «السلطانة ملك»، وحاشيتها، وكن قاصدات مثلنا زيارة كنوز القبر الجديد، وكن منتقلات مثلنا من طيبة الأحياء حيث ضجة الحياة وجلبتها إلى طيبة الأموات حيث سكينة الخلد ومستقر السلام، وكن قد رضين - مثلما رضينا - أن ينسين هذه الفترة القصيرة التي نسميها الحاضر، ونجعل منها موضع كل عناية وكل اهتمام لتصل النفوس ما بين الماضي البعيد الذاهب في أعماق القدم إلى حدود الأزل، وبين هذا الحاضر الذي يجري غير وان يريد أن يشق أمام عيوننا غيابات المستقبل، ثم ينتهي بنا من هذه الغيابات إلى ما انتهى عنده رمسيس وآمنحوتب وتوت-عنخ-آمون وغيرهم ممن ذل لهم الدهر يوما، فملكوا ناصيته ثم ألفوا أيديهم خلاء، وأيقنوا أن ليس للدهر ناصية تملك.
وتخطينا النهر وركبنا عربة عريضة العجلات يسمونها (السنكار)، فاجتازت بنا المزارع تظللها أشجار لا يزال ورقها الأخضر يانعا لم تعد عليه عاديات الخريف، ولا عصفت به ريح الشتاء الفتاكة بورق الشجر. وهل تعرف الأقصر ريح الشتاء؟ ألم يكونوا يعبدون الشمس في طيبة؛ لأن الشمس في طيبة إله محسن. واليوم وقد عبد الناس ربهم، فإنهم لا يجدون من آيات خلقه آية تبلغ في العظم والكرم والإحسان ما تبلغه الشمس في طيبة.
Bilinmeyen sayfa