Boş Zamanlarda
في أوقات الفراغ: مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية
Türler
لنا الصحو من آفاقها وغيومها
وكم من المبالغة أيضا في أشعار عنترة الحماسية وفي أوصاف امرئ القيس للخيل. بل أي شاعر عربي لم يصل إلى أسمى درجات المبالغة؟!
يكاد الإنسان حين يرى ذلك كله يقول: إن جرجي أفندي زيدان لم يدخل إلى روح العرب لكي يستطيع أن ينشرها أمام نظره ويفتش عليها ويعرف دقائقها، ويتمكن بذلك من الوقوف على السبب في ترتيب الوقائع والأشعار والأخبار في هذه الأمة بشكل مخصوص. ولكن الإنسان يتردد كيف ينكر عليه ذلك مع ما ألف في تاريخهم ولغتهم وآدابهم وأخبارهم كل ذلك الذي ألف. غير أنا نأسف أن نجد كل هذا الذي اعتبرناه خطأ في فهم العرب، كما أنا نأسف أيضا أن نجد ألفاظا غامضة لا يستطيع الإنسان أن يفهم منها رأي المؤلف عن العرب. فمثلا قوله على الكهانة: إن الكاهن كان إذا استفسر عن رؤيا «تمتم وتظاهر باستطلاع الغيب» معناه أن هؤلاء الكهان كانوا لا يعتقدون بحقيقة ما يقولون. مع أنا نجد مثلا عن نبوءة جماعة من العرب كورقة بن نوفل في كتاب جرجي أفندي نفسه. كما أن أخبار الكهان الواردة في تواريخ العرب تدل على أن هؤلاء الناس كانوا يعتقدون بصحة حرفتهم. فهلا كان المؤلف أعطانا الأسباب التي استنتجها من بحثه لتدل على مجرد «تظاهر» هؤلاء الناس.
ولما انتقل المؤلف من الكلام عن الاعتبارات العامة والمظاهر الأدبية للعرب الجاهليين إلى الكلام عن كل شاعر على حدة، جعل يكتفي بإيراد أشياء قليلة عن أخبار هؤلاء الشعراء وحياتهم؛ لذلك لم يكن في كتابه متسع لنقدهم! وهو إنما يخبرنا عن الصفة العامة الظاهرة في شعر كل منهم. فواحدهم وصاف للخيل والنوق، والثاني يجمع الحكم في أشعاره المتينة، والثالث معروف بحسن الديباجة ومتانة التركيب . وعندنا أن من الواجب تحليل الشاعر أكثر من هذا، وإظهار صفاته بتطويل بعض الشيء. وإلا كان الذي اطلع ولو قليلا على أشعار العرب وأخبارهم لا يستفيد من قراءة هذه التراجم شيئا مطلقا.
أطلنا الكلام عن الجاهلية ونقد كتاب جرجي أفندي زيدان فيما كتبه عنها. والسبب في ذلك أنه هو أيضا أطال القسم الذي أفرده لها؛ إطالة بحق لأن هذا القسم من أدب العرب هو الأساس لما بعده. والمؤلف أراد أن يوقفنا على حقيقة هذا الأساس. وقد قدمنا رأينا للقارئ، ونظن الآن مناسبا أن ننتقل لعصر الراشدين. (2) عصر الراشدين
كان الجاهليون قوم بدو يسيرون حيث المرعى أو المغنم؛ لذلك لم يكن ببلاد العرب إلا مدن قلائل. وكانت الديانة الغالبة عند جميع العرب يومئذ هي الوثنية. والوثنية بقية دين قديم. والأديان جميعا كلما قدمت دخلها التمثيل أحيانا بالكواكب وأخرى بالحيوانات وثالثة بالأصنام إلى غير ذلك من أنواعه الكثيرة. والأمثلة على ذلك متعددة عند القدماء من المصريين واليونان والعرب وعند أمم كثيرة اليوم. وفي فرنسا بلد اسمه (لورد) يحج إليه الكاثوليكيون من كل جانب، ويعتقدون في قبر (سيدة لورد) قدرة إلهية كبيرة تشفي المريض، وترد إلى المجنون صوابه.
هذا التمثيل ذهب به العرب بعيدا فانتهى إلى أن صارت أصنامهم آلهة، وأن صاروا يعتقدون فيها القوة والجبروت. لكن مثل هذا التمثيل عندهم إذا جاز على العامة فإن كثيرين ممن يفكرون يرون ما فيه من العته. على ذلك كان بعض العرب ممن تقدم الإسلام كأمية بن أبي الصلت وغيره ينصرفون عن الدين العام ويفكرون لأنفسهم.
لكن هؤلاء الناس كانوا يقتصرون على اختطاط طريق حياتهم هم، ولا يقومون بالدعوة إلى معتقداتهم. وسبب ذلك في الغالب شيء من عدم الاهتمام بالمجموع أو من عدم الثقة المطلقة بالعقيدة التي وصلوا إليها.
تكونت الفكرة عند العرب بفساد المعتقدات السائدة قليلا قليلا، وتأثرت آدابهم بهذا التغيير. فصرت ترى في القسم الأخير من عصر الجاهلية جماعة غير قليلين من الشعراء والخطباء يبدون ما في نفوسهم من الشك في عبادة الأصنام. كما أن كثيرا من العادات السائدة يومئذ كانت من الوحشية بحيث تستفز النفس. كوأد البنات مثلا، وكأخلاق شتى فشت بين العرب مع أنها تنافي الفضيلة أو تنافي طبيعة بلادهم.
وسط هذه الحال من الأخلاق والعادات العامة، وبين هاته الشكوك التي أبداها جماعة المتكلمين، وجوابا لانتظار الناس لمصلح يهديهم ولنبي قد حان حينه وأدرك (العرب) أوانه ... بين ذلك كله، ووسط هذه الأمة السامية الأصل قام النبي
Bilinmeyen sayfa