وإذا كان في ذلك من الأخطاء ما فيه، فإنما تعنينا الإشارة هنا إلى أننا ذهبنا في دراستنا الثانوية أو العالية على السواء، نصف تلك العصور أوصافا مجملة جامعة شاملة، دون أن نبذل ما يجب من جهد لدرس الأدب، أو الحياة الأدبية في هذه العصور. فالعصر العباسي مثلا أو الأموي، أو ما لقبوا من ذلك، توصف فيه حياة الشعر وفنونه، أو حياة النثر - حينما يريدون بالأدب العربي معناه الخاص - ولكن كيف استقامت هذه الأوصاف؟ وهل درسنا أصحاب الشعر في هذا العصر، أو أصحاب النثر؟ أو قل هل هيأنا مواد الدرس اللازمة فجمعنا ثروة هذا العصر الأدبية، وحققناها، ومكنا الدارسين منها؟ لم نفعل ذلك ولا حاولناه، ولا قمنا بشيء من الدراسة المفردة لشعراء هذا العصر أو كتابه دراسة أدبية بمعناها القديم، نتذوق بها آثارهم وما خلفوا، أو ما وصل إلى يدنا من تلك الآثار والثمار. ما لنا دراسة جامعة شاملة لهذه الآثار، ولا لنا دراسة جزئية خاصة لفن بعينه من آثار شاعر أو ناثر، ولكن لنا رغم ذلك أحكاما أدبية عامة! وتسأل نفسك، وتسأل أصحاب هذه الأحكام: كيف تهيأت لكم أحكام عامة شاملة مجملة كلية، قبل أن يصح لكم علم، وتتم لكم معرفة، بل قبل أن يصح لكم ما يشبه العلم والمعرفة بمواد هذا العصر وجزئياته، حتى تصدروا على ذلك بأجمعه حكما كليا عاما؟ تسألهم فلا تجد عندهم جوابا، ولا تجد السبيل إلى تسوية المسألة في نظرك ومع نفسك.
ولكن القافلة تسير، والضجيج يدوي، والحياة راتبة قارة، راضية مطمئنة، فلا محاولة ولا شبه محاولة للاتصال بالآثار الأدبية وجمعها وتحقيقها، ولا دراسة موزعة أو منظمة، ولا شبه موزعة ولا منظمة لفنون هذه الآثار فنا فنا، وكيف تكون هذه الدراسة وموادها لم تجمع، بل لم تعرف؟!
وليس الأدب بمعناه العام - كما يقولون - أحسن من ذلك شأنا؛ فكذلك يتناولون الحياة العقلية على اختلاف فروع المعرفة والعلم ، بدراسة جامعة وأحكام شاملة، دون جهد ما في سبيل جمع مواد درسها، وآثارها، ودون وقوف ما عند رجالها وأعلامها، وقوفا يتهيأ من مجموعه فهم دقيق صحيح للعصر إذا أريد ذلك. ورغم كل هذا فالكتب تؤلف، والجامعة تعيش، والرحى تطحن، والدولة تبذل، ودعوى النهوض والتجدد تخرق الآذان في الوادي، والرضا شامل، والطمأنينة سابغة! •••
ولنترك هذا كله مؤقتا، لنسأل هل كان يجب مع هذه الحال، أن يكون تاريخ الأدب مادة ثقافة في الدراسة الثانوية، تزجى فيها تلك الأحكام القاصرة، أو الأوهام المقررة، يزدردها الفتيان ما تزدرد النعام الحصى، ثم يتقدمون إلى الدراسة العالية الأدبية وقد سمعوا ما قيل، ومن يسمع يخل؟ فاستقرت لديهم فكر هيهات أن يقدروا معها أن الميدان خال، بل مقفر، وأن التاريخ الأدبي، بل السياسي أيضا، مجهل لم يخض، ومفازة لم تكشف، وأن هذه الأحكام الشاملة لا يقيمها أساس أي أساس، من بحث أو درس، أو معرفة بآثار هذه العصور؛ فيمضون يرددون ما رددوا، في توسع يحسبونه فتحا مبينا، وعملا جامعيا خطيرا، ما داموا يجعلون من السطر ورقة، أو من الصفحة كراسة، بمثل ما ينفث الغلام في كرة المطاط، فإذا هي قبة طائرة! •••
ليس يعنينا والأمر منهجي على أن نقف طويلا عند خاطئة أخرى، هي أن هؤلاء الفتية يستبقون من الحياة طرائق قددا، فمنهم المزارع، والمهندس، والطبيب، والقانوني، وصاحب العلم الطبيعي، ومعلمه، وغير هؤلاء من ذوي الفنون أو الشئون العامة، فما لهؤلاء جميعا وتلك القضايا التاريخية العامة عن حياة الأدب، حتى لو كانت قضايا صحيحة محققة قد انتهى إليه بحث، وأيدها درس؟! فكيف بها وهي على ما علمنا من وهن الأساس، واضطراب القول، ومبالغة التزيد؟! بحسب هؤلاء لو كانت هناك دراسة صحيحة لتاريخ الأدب، أن يقصروا على الدراسة الصحيحة للمادة الأدبية، يتأثلونها ويتذوقونها، فيصيبون منها معونة على استعمال اللغة في الحياة، والوفاء بأغراض النفوس من فنون القول. •••
هذا في الدراسة الثانوية التي ندع إصلاحها إلى مكان القول فيه؛ فما هو من شأننا هنا. وأما الدراسة الأدبية العالية، فما كان عجيبا أن يقدر فيها ما بسطناه من الاعتبارات، وندبر لتحقيقها.
وهل كان بدعا من الأمر أن تسير تلك الدراسة الأدبية العالية المتخصصة عندنا مع حاج الحياة، وعلى تدرجها؟ فتختلف الدراسة في جيل عن جيل، كما كان ذلك مسايرا للحياة الأدبية في الأمة العربية منذ عرف تاريخها في التحضر. أعني أنه كان يكون لدينا جيل أو أجيال يدرسون تحقيق النصوص، وتصحيح المتون، ويلمون بأصول ذلك وقواعده، ويكون هذا عماد دراستهم التاريخية الأدبية، إلى جانب ما يؤخذون به من دراسة المتون الأدبية حفظا وشرحا وتذوقا؟
ثم إذا ما اكتمل لنا ذلك، كان لنا بعدهم جيل أو أكثر، يدرس رجال هذا الأدب، أو وجوههم البارزين واحدا واحدا، يلمون بأدبه، ويدونون خصائصه، بعد أن يكون قد أحصى، وحقق، وشرح.
ثم يكون لنا جيل أو أكثر، يدرسون عوامل التأثير في الحياة الأدبية عاملا عاملا، يتتبعون ذلك جمعا وضبطا، ثم فحصا وتحقيقا.
ثم يكون لنا أخيرا وبعد ذلك كله من يستطيع الكلام في العصور جملة، وبأحكام عامة، إذ يجد مواد هذه العصور الجزئية مجموعة، ثم محققة وممحصة، ثم مدروسة ومقدرة، كما يجد حواليها المؤثرات في الحياة الأدبية مجموعة، ثم مدروسة، ثم مؤرخة.
Bilinmeyen sayfa