ولعل قوله في الزهد يرجع إلى تلك الحالات النفسية التي غلبة فيها اليأس على أمره؛ وهو وحيد شريد يعاني غصص الفراق والنفي, وإلا فهذه النفس الطموح التي خاطرت وغامرت وتطلعت إلى الملك, وتلذذت ونعمت بالحياة, كانت بعيدة عن الزهد في الحياة، ولعلها لم تزهد إلا مرغمة، وعلى كل فما قاله في الزهد قليل, مما يدل على أنه أثر لنوبات كانت تعتريه؛ فيتشاءم من الدنيا ويتذكر الموت، والموت يذكره بالعمل الصالح والإقلاع عن الغواية والجهل، ويذكره بمن ماتوا قبله من ملوك أمراء وأصحاب عروش وضياع, ذهبوا وذهبت دنياهم # الحافلة باللذات, وعمرت منهم القبور؛ ولم يذد عنهم الموت مالهم ولا جاههم, إلى آخر هذه المعاني التي استنفدها من قبل أبو العتاهية، وصالح بن عبد القدوس, وأضرابهما, من مثل قوله:
كل حي سيموت ... ليس في الدنيا ثبوت
حركات سوف تفنى ... ثم يتلوه خفوت
وكلام ليس يحلو ... بعده إلا السكوت
أيها السادر قل لي ... أين ذاك الجبروت؟
كنت مطبوعا على النطق ... فما هذا الصموت؟
ليت شعري أهمود ... ما أراه أم قنوت؟
أين أملاك لهم في ... كل أفق ملكوت؟!
زالت التيجان عنهم ... وخلت تلك التخوت
ومما يتصل بهذا الموضوع مدحه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد مدحه بقصيدة طويلة يتوسل فيها بجاهه ويطلب شفاعته، ويرجو الرحمة والمغفرة من الله بسببه, ويقول:
هو النبي الذي لولا هدايته ... لكان أعلم من في الأرض كالهمج
أنا الذي بت من وجدي بروضته ... أحن شوقا كطير البانة الهزج
هاجت بذكراه نفسي فاكتست ولها ... وأي صب بذكر الشروق لم يهج
يا رب بالمصفى هب لي وإن عظمت ... جرائمي -رحمة تغني عن الحجج
ولا تكلني إلى نفسي فإن يدي ... مغلولة، وصباحي غير منبلج
ما لي سواك وأنت المستعان إذا ... ضاق الزحام غداة الموقف الحرج # الحكمة:
Sayfa 232