Faysal Birinci: Seyahatler ve Tarih
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Türler
5
أما وقد مات الانتداب، فيليق بنا أن نقول كلمة فيه، نعم إنه لجدير مثل عظام الأموات بالرثاء، وقد يكون أكثر من أكثرهم أهلا له. ليس الانتداب بذاته شرا صافيا، ولا هو في وضعه على شيء من الشر، قبل أن نذكر الغرض الأول منه ينبغي أن نقول إن مقاصد الأحلاف، فيما يتعلق بالأراضي المنسلخة عن الدولة العثمانية والمستعمرات المسلوبة من ألمانيا، لم تكن على شيء كبير من الطهارة والنبل، بل كان قصد الأحلاف في مؤتمر فرساي أن يتمتعوا بتلك الأراضي والمستعمرات على الطريقة التاريخية، بحسب التقاليد المرعية؛ الغنيمة للغالبين، الأرض للفاتحين.
بيد أن الرئيس ولسون والجنرال سمطس، المجندين بالمثل الديمقراطي الأعلى، وإن ازدراه أقطاب السياسة القديمة، تغلبا على مطامع الدول الاستعمارية فيما ابتدعاه وأسمياه الانتداب. وفي هذه البدعة السياسية تمثلا خلاص الشعوب التي كانت رازحة تحت نير الأتراك، وتيقنا - يومئذ - فوز أولئك الشعوب عاجلا أو آجلا بالحرية والاستقلال.
ضحك أساطين السياسة القديمة في سرهم من هذه السذاجة الديمقراطية، وقد جهروا بما عراهم من الريب، بالرغم عن المادة 23 من معاهدة فرساي، في أن العمل بالانتداب ممكن، أما المادة 22 فهي، والحق يقال، مثال العدل والنبل في المعاهدات، هي منقطعة النظير فيما تنطوي عليه من الآمال العالية بشرف الدول العظمى، وبمقدرة الشعوب التائقة إلى الحكم الذاتي المستقل، على أنها لا تختلف عن القاعدة الذهبية، وعن الآيات المنزلة بشيء، نرددها مكبرين متورعين ، ونقف عند العمل بها عاجزين متذبذبين. أجل إن بين القاعدة والتطبيق وهدة عميقة نراها اليوم، وقد اشتد ظلامها، في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن.
بيد أن ذلك لا يضير بالانتداب في قصده الأول؛ أي في وضعه الأساسي، فهو محقق في نهاية الأمر مهما طال، هو محقق لأن تطبيقه غير ممكن، وقد يستغرب أن يكون هذا المثل الديمقراطي الأعلى، الذي استهوى الشعوب الطالبة الاستقلال، صحيحا بليغا في عكسه كما هو في وضعه الأساسي.
لست أدري إذا كان الرئيس ولسون أبصر أو تصور شيئا من هذا الانقلاب في أمر تعليمه هذا. لست أدري إذا كان قد أدرك ما سيكون من عجزه المحمود، ومن فوزه الأحمد. هاكه واقفا على رأسه، ومتمما لقصد خالقه، هاكه ممثلا أعجوبة السياسة في هذا الزمان.
وهل أزيدك بيانا، أيها القارئ العزيز؟ هذه هي الحلقات المنطقية: الحكومة البريطانية مقيدة بالانتداب في العراق، يستحيل العمل بالانتداب بحسب أوضاعه «كأمانة للتمدن مقدسة»، ليس بالإمكان أن نحوله إلى استعمار. إذن، ينبغي أن يلغى الانتداب، أما الشعب الذي انتدب له، فبما أنه قد خطا خطوات تذكر في سبيل حريته، وأحسن شيئا من علم الاستقلال والتطبيق، فينبغي أن يظل سائرا سيره هذا، ولا بأس بمعاهدة بينه وبين الدولة التي كانت صاحبة الانتداب يلتئم مضمونها وأسباب رقيه المستمر.
هذا ما حدث في العراق؛ فقد أدركت الدولة المنتدبة وعصبة الأمم أن من العبث المحاولة - ولا سيما أن النفقات باهظة - للتأليف بين القاعدة والتطبيق في الانتداب. هذا إذا سلمنا أن قد كان هناك قصد للتأليف. أما أن النتيجة لم تظهر قبل مرور العشر سنوات، فذلك أمر يسير. وقد كان في هذا الإبطاء - على ما أظن - شيء من الخير للفريقين. مما ينبغي أن يذكر كذلك أن العراقيين، منذ بداءة الأمر حتى النهاية، لم يقبلوا بالانتداب قطعا، واستمروا جميعا، المعتدلون والمتطرفون، في الجهاد للقضاء عليه.
ولكننا نخطئ إذا ظننا أن المرحلة التي بلغها العراق في تطوره السياسي ورقيه هي نتيجة جهاد العراقيين وحدهم. فالحقيقة كلها، نسجلها دون أن نغمط حق الوطنيين، هي أن المفاوضات مع الحكومة البريطانية ما كانت توفق هذا التوفيق، وفي مدة يجوز أن نعدها قصيرة، لو جرت بوساطتهم أو بوساطة لجان من أحزابهم. إن هناك إذن عاملا آخر هو من الأهمية بمكان، بل هو من وجهة خاصة أهم العوامل كلها؛ فسيد البلاد الأكبر، خصوصا في هذا الشرق، لا يزال - وهو ولي الأمر - قادرا أن يسير الأمور ويصرفها بما قد يكون فيها من الخير أو من الشر. وعندما تكون الدولة في طور التكوين، مثل العراق، تتضاعف الآمال وتتضاعف الأخطار؛ فالرجل الذي يدير شئون البلاد يستطيع أن يكون عمارا، ويستطيع أن يكون هداما.
لقد أسلفت القول إن الملك فيصلا لم يكن موفور الحظ في بداءة عهده؛ فقد جاء العراق تقيده التعهدات، وتبوأ عرش العراق تحف به الصعوبات. ومع أنه كان يعلم أي المناهج يجب عليه أن ينهجها، فقد رأى بأم عينه العقبات التي ينبغي أن تذلل قبل أن يبلغ أول الطريق.
Bilinmeyen sayfa