Faysal Birinci: Seyahatler ve Tarih
فيصل الأول: رحلات وتاريخ
Türler
هي بساتين شرقية؛ بتبسطها واكتظاظها، بغياضها وأدغالها، بخصبها وعقمها، بزواياها المهملة، وخباياها المدهشة، بمياهها الراكدة والفائضة، وبما يسود كل ذلك من الفوضى. فإنك لترى عرائش العنب مثلا وأشجار التوت والرمان بعضها في حضن بعض، ملتفة متعانقة، خانقة بعضها لبعض، ومع ذلك مثمرة، وإنك لترى الكثير من الأشجار المتكاثفة، التي يفتقر قلبها إلى نور الشمس، ولا تمسها يد التشذيب، لا باطنا ولا ظاهرا، وهي تستمر مع ذلك في الازدهار والإثمار، ليت شعري بما يمكن أن يكون خصب هذه الأشجار، وإنتاج هذه البساتين، لو ساد فيها النظام بدل الفوضى، واقترن النظام بالاعتناء الدائم، وبعلم الزراعة الحديث.
ومع كل ما هناك من دلائل الجهل والإهمال، فقد كان روح البستان حيا زاهرا، منعشا بطيب رياحينه، مبهجا بزهو زهوره، مطربا بتغريد الأطيار، مدهشا بجود ثماره المتعددة الأنواع والألوان، ولكن جونا المكفهر، جو بغداد، جو السياسة، كان لنا الرفيق الدائم، والظل الملازم، حتى في البساتين.
مشينا على الطنافس المفروشة إلى السرادق الملكي بين أشجار الليمون والرمان، وكلنا يشعر بثقل ذاك الظل، وحرارة ذلك الجو، كانت الأجساد في البستان، وكانت القلوب بعيدة منه، بعيدة من أطياره وأزهاره، ورياحينه وثماره.
وكان قلب الملك فيصل أبعد هذه القلوب كلها، لله من غم يأبى الحصر في القصور، فيرافق صاحبه إلى البساتين! لله من غم يجلس فوق العرش، ويلصق بصاحب العرش حيثما حل ورحل! لله من غم يستبد حتى بالإنكليز، وقد يكون له من الإنكليز ما يمده ويقويه! أظن أن المس بل كانت تدرك ذلك، فتحاول بما لها من لطف وبيان أن تخفف وطأته، أو تبدد على الأقل ظلاله من حول الملك، وهل تطردها من قلبه بعنقود من العنب أو بغصن مثقل بالرمان؟
كأني الآن أراها، رحمها الله، تجثو أمام فيصل وبإحدى يديها عنقودان كبيران مبهجان من العنب الذهبي والأرجواني، وبيدها الأخرى غصن صغير من الرمان تزينه ست رمانات كبيرة مدهشة، فيشكرها الملك باسما، وفي البسمة كما في كلمة الشكر ما يشير إلى شيء مفقود.
وكأني الآن أراه، رحمه الله، والسبحة بين أنامله، وهو لا يدرك أنها لا تلتئم وثوبه العسكري، والسيكارة في فمه، يدخن الواحدة تلو الأخرى، ويحاول في بعض الأحيان أن يستعيد بشر محياه، ويستنهض أنس نفسه، فيسأل سؤالا عن بعض الشئون الخاصة، أو يستخبر عن صديق له غائب، أو يفتح الباب لحديث طريف ولا يشارك بعدئذ به، فينهض عن الديوان، ويتركنا، والباب مفتوح، ساكتين واجمين. هي السياسة وهموم العرش الجديد، ومن أهمها في تلك الأيام ما جاء من الشمال؛ فقد كان لانتصارات مصطفى كمال وقع في العراق ما سره، ولا سر الحكومة، وكان بعض الموظفين في الموصل يفاوضون الترك في الأناضول.
وهؤلاء الإنكليز يلزمونه كالظل، ويزيدون بما هو فيه، رأيت أحدهم جالسا في حضرته ذاك اليوم جلسة لا أظنه يجلسها إلا في بيته إذا كان وحده، فيمد رجليه ولا يبالي، وكان فوق ذلك لابسا قبعته وهو في ثوب مدني، فهل يجلس هذه الجلسة في حضرة الملك جورج يا ترى؟ ومن يدرك أكثر من الإنكليز الحقيقة أن الملك ملك، أيا كان وأينما كان.
لم يكن الصلف ولا العنف من طباع الملك فيصل، ولكنه كان دقيقا وكيسا في حفظ حرمته، وفي فرض مشيئته، ولا أظن أن ذلك الإنكليزي أدرك أنه في إكرامه له كان يحاول تأديبه؛ فقد قدم له سيكارة، فاضطر أن يقف ليأخذها، ثم عاد إلى كرسيه، فجلس جلسة لائقة، ولكنه لم ينزع القبعة عن رأسه، فاستمر الملك في التأديب، قائلا وهو يرفع الخوذة عن رأسه: «الحر شديد.» فردد الإنكليزي: «الحر شديد.» وما كان بعد ذلك حال دون كمال الأمثولة؛ فقد جاء في تلك الدقيقة فخري آل جميل يقول للملك الطعام حاضر، فنهضنا بعده نلبي الدعوة، ومشى الإنكليزي وقبعته بيده.
مدت المائدة في ظلال النخيل ضمن ساحة رحبة، تحيط بها شجيرات من الليمون والرمان، وبينها شتى الأزهار والرياحين، وكانت الألوان كثيرة دون إكثار، شرقية الروح، أوروبية الذوق. والخدم بلباسهم الأبيض يظهرون من خلال عرائش الورد والياسمين، حاملين أطباقا تتقدمها روائحها الطيبة.
ما كان في طاقتي، ولا حاولت، أن أتخيل مطبخا بين الليمون والرمان وراء عرائش الورد والياسمين. وما سرني أني في مأدبة ملكية في بستان فخري آل جميل بالهويدر على ضفة نهر ديالى، بقدر ما سرني الخيال الذي تخيلته في تلك الساعة، فما كنت في ذلك البستان، مع ملك من ملوك هذا الزمان، ورهط من الأمراء والأعيان، بل كنت مع حسن البصري، بطل الرواية في كتابنا العربي الخالد، كتاب ألف ليلة وليلة.
Bilinmeyen sayfa