ولقد كانت هناك على الأقل ثلاثة شواهد على عداوة الكنيسة للتجديدات الموسيقية خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ولنذكر في هذا الصدد أولا أن الشاعر المغني اليوناني لم يكن يستخدم نظاما من العلاقات الإيقاعية والزمنية؛ لأن موسيقاه كانت مرتبطة بالشعر، فكان يؤدي أغنيته بأسلوب ألماني. وبالمثل كانت الأغنية الدينية في العصور الوسطى معتمدة على النص الكلامي، مع إيقاعات منسابة بهدوء، لا تقتضي إلا قليلا من التغيير في أزمنة الأنغام. ومن هنا فإن البابا يوحنا الثالث والعشرين عندما أعلن احتجاجه في مرسومه من أن «الموسيقى الكنسية تؤدى الآن بعلامات «الروند» و«البلانش»، وتقطع بهذه الأنغام القصيرة» لم يكن في واقع الأمر يعلن تحريمه للموسيقى ذات الإيقاعات المطابقة لنصوص مختلفة، وإنما كان الوقت ذاته يحمل على تجزيء الأنغام الطويلة المتصلة إلى أنغام ذات أزمنة أقصر، بل إلى نغمات تتعدى النبر الإيقاعي (
syncopated )، كما في حالة التقطيع
hocketting ، ومن الملاحظ ثانيا أن الموسيقيين - في حقبة ما يعرف بالفن الجديد «
ars nova »، وهو القرن الرابع عشر - كانوا يزدادون ميلا إلى تغيير الإيقاعات التقليدية على خلاف موسيقى القرن الثالث عشر، التي كانت تسمى بالفن القديم
ars antiqua ، وكان الإيقاع الثنائي أو الزمن المزدوج محرما أصلا في موسيقى الكنيسة لأسباب أخلاقية هي أن للعدد «ثلاثة» علاقة «بالثالوث الديني». ومن هنا كانت الكنيسة تبدي عدم رضائها على أية محاولة يبذلها موسيقي القرن الرابع عشر لاستخدام إيقاع ثنائي بدلا من الثلاثي. ويلاحظ أخيرا أن الموسيقى اليونانية ومن بعدها موسيقى العصور الوسطى، كانت مبنية في الأصل على الجواب «الأوكتاوف» والدرجتين الرابعة والخامسة. وفي القرن الثالث عشر بدأ الموسيقيون الفرنسيون يقتدون بالإنجليز في استخدام هذه المسافة الثالثة. ومن الغريب أن الإكليروس الفرنسي اعترض على استخدام المسافة الجديدة التي تطرب الأذن، على الرغم من أنها مبنية على الرقم «ثلاثة» لا لشيء إلا لأنها غيرت التقاليد الموسيقية الماضية.
القسم الثالث: أكاديمية فلورنسا
ظل المسيحيون اليونانيون البيزنطيون، شأنهم شأن العرب، يبدون اهتماما كبيرا بالحضارة والآداب الكلاسيكية اليونانية والرومانسية؛ فقد أدرج العلماء البيزنطيون أفلاطون وأرسطو ضمن دراساتهم خلال تلك السنوات، التي لم تكن فيها اللغة اليونانية إلا لغة ميتة في نظر المثقفين الغربيين. وقد أعجب بعض الصليبيين، الذين اتصلوا مباشرة بالحضارة البيزنطية، بهذه اللغة إلى حد أنهم جلبوا معهم إلى الغرب هذه الدراسات اليونانية. أما روما فلم تنظر إلى هذا التطور بعين الرضا؛ إذ إن رجال الكنيسة لم يروا في هذه الاتجاهات الكلاسيكية في التعليم والثقافة إلا تجديفا. وقررت كنيسة روما أن من الضروري اتخاذ تدابير حاسمة لمواجهة تغلغل الفكر اليوناني البيزنطي المجدف في لاهوتها، فأرسل البابا إلى القسطنطينية الفيلسوف اللاهوتي نيكولاس دي كوزا
Nicholas de Cusa (1401-1464م ) لكي يضع أساس وحدة ممكنة بين الكنيستين الشرقية والغربية، وناشد هذا الكنيسة الشرقية، في سبيل مصلحة المسيحية، أن تزيل الخلافات بينها وبين الكنيسة الكاثوليكية، بحيث تكونان كنيسة كاثوليكية عالمية، غير أن الكنيسة اليونانية أبت أن تتنازل عن سلطتها إلى الحد المطلوب منها، على الرغم من أنها كانت تتوقع غزوا تركيا للقسطنطينية، وكانت تدرك أنه سيتعين عليها أن تستنجد بروما لإيقاف زحف المسلمين.
ومع ذلك، فقد كان العلماء البيزنطيون يسافرون إلى الغرب، ولا سيما فلورنسا، وأغلب الظن أن الكنيسة الشرقية بدورها قد أرسلت عددا كبيرا منهم ليستطلعوا إمكان اتحاد الكنيستين على أسس مشتركة. وعلى الرغم من أن هذا الاندماج بين الكنيسة اليونانية وكنيسة الروم الكاثوليك لم يتحقق، فقد كان العلم الكلاسيكي الذي يحمله العلماء والشعراء البيزنطيون معهم ينتشر بسرعة حيثما حلوا.
وبعد أن فتح الأتراك القسطنطينية، وقضوا على الإمبراطورية البيزنطية عام 1453م، فر بقية علمائها اليونانيين إلى إيطاليا لاجئين إلى أكاديمية فلورنسا. وكانت هذه الأكاديمية قد تأسست، تحت رعاية كوزيمو دي مديتشي
Bilinmeyen sayfa