وهكذا فإن الموسيقى، بوصفها جزءا من الرياضيات، تسهم في تدريب الذهن، وتعد مبحثا يمهد لدراسة الفلسفة.
وكان بويتيوس يرى أنه نظرا إلى القيمة الأخلاقية الكامنة في دراسة الموسيقى، فإن هذه الدراسة أقدر من أي مبحث آخر في «الرباع» «الكوادر يفيوم» على تشكيل النفس والجسم. وقد ردد رأي أفلاطون قائلا إن للموسيقى القدرة على أن «ترفع معنويات الإنسان أو تحط منها»، وأشار إلى أن النفوس الشهوانية تستمتع بالألحان الشهوانية، على حين أن النفوس الجادة تجد لذتها في أساليب أقوى تأثيرا؛ إذ إن الناس يتعلقون بالأساليب المشابهة لطبائعهم، ولكنه انتهى إلى أن الناس جميعا معرضون للفساد؛ إذ تصاب النفوس الضعيفة بالفساد والرخاوة، وحتى النفوس القوية ذاتها قد تعجز أحيانا عن المقاومة. واستطرد بويتيوس قائلا: إن أفلاطون كان على حق في تحذيره من التحديدات الموسيقية؛ إذ إن من شأن الأساليب الموسيقية المتغيرة ذات الطابع الأخلاقي المريب أن تحط قطعا من نفوس الناس. وهكذا قال: «إن الموسيقى تظل عفيفة متواضعة ما دامت تعزف على آلات بسيطة، ولكن نظرا إلى أنها قد أصبحت تعزف على أنحاء متباينة، وبطرق مضطربة، فإنها فقدت صفات الجد والفضيلة ، وكادت أن تنحط إلى مرتبة الوضاعة دون أن يبقى لها من جمالها الغابر إلا أثر ضئيل.»
والواقع أن بويتيوس لم يقتصر على نقل آراء القدماء إلى مفكري العصور الوسطى، بل إنه كان هو ذاته مسئولا عن تشكيل الفلسفة الجمالية الموسيقية للحضارة الغربية طوال قرون عديدة بعد وفاته؛ فقد كان اللاهوتيون المسيحيون راضين كل الرضا عن رأيه القائل إنه لما كانت الموسيقى في أساسها رياضية البناء وأخلاقية القيمة، فمن الضروري أن يكون التأليف الموسيقى دقيقا دقة العلم، حتى لا يفسد الطابع الأخلاقي للموسيقى، وكانت النتيجة النهائية لآرائه، كما عدلها أتباعه ووسعوها، هي أن القيمة الأخلاقية للموسيقى متوقفة على العلم، وانتهى الأمر بعلم الموسيقى إلى اتخاذ قوالب محددة لا يخرج عنها. وهكذا رأى رجال الكنيسة أن أي خروج على القوالب الموسيقية التقليدية، أو على الموسيقى الكنسية المسموح بها، هو أمر خارج على العلم وعلى الدين معا، ولقد كان رجال الكنيسة يعلمون حق العلم أن هذا الرأي موجود بصورة ضمنية عند أفلاطون، ومع ذلك كان مما يدعم موقفهم أن يستطيعوا الإهابة بسلطة أي مفكر آخر، حتى لو كان وثنيا رومانيا، يقول بآراء يمكنهم استخدامها لصالحهم. ولقد كان دستور البابا يوحنا الثاني والعشرون (الذي شغل منصبه من سنة 1316م إلى 1334م) وهو الدستور الذي كتب بعد ثمانمائة عام من وفاة بويتيوس السابقة لأوانها، والذي كان يتضمن هجوما على الموسيقى الجديدة في ذلك العصر، كان هذا الدستور متأثرا بفلسفة بويتيوس الجمالية في الموسيقى، إلى حد أن كاتبي هذه الوثيقة البابوية آثروا أن يقتبسوا من كتاباته في دفاعهم عن الموسيقى الدينية في الكنيسة المسيحية؛ فقد اقتبس رجال الكنيسة من بويتيوس نصا توجهوا به إلى دعاة الموسيقى الحديثة، سواء منهم صانعوها ومتذوقوها، يقول فيه: «إن الشخص الذي هو بطبيعته ميال إلى الحسيات، يستمتع بالاستماع إلى هذه الألحان الفاسقة. ولا بد لمن يثابر على الاستماع إليها أن تضعف أخلاقه، وتفقد روحه صلابتها.»
وهناك فيلسوف آخر معاصر لبويتيوس، شارك بدوره في تعريف مفكري العصر الوسيط بالفلسفات الموسيقية لليونانيين، وهو كاسيودورس
Cassiodorus (485-580م) الذي كان في حياته أسعد حظا من بويتيوس. وقد نظر بدوره إلى الموسيقى على أنها مبحث رياضي، وتأثر بالطابع الأفلاطوني في آرائه الأخلاقية في الموسيقى، فكتب في رسالة إلى بويتيوس يقول : «إن المقام الدوري
Dorian
يؤثر في العفة والحياء»، واتفق مع أفلاطون على أن المقام الفريجي «يستفز الرغبة في النضال ويثير الغضب»، أما المقام الأيولي
Aeolian
فإنه «يهدئ عواصف النفس، وينزل الكرى في أجفان النفس الهادئة»، أمام المقام الرابع من أساليب القدماء وهو الإياستي
Iastic ، فإنه «يجعل البصيرة الخاملة حادة، ويجعل الذهن الدنس يتطلع إلى الأمور السماوية». وأما المقام الأخير وهو الليدي، فلم ينظر إليه كاسيودورس بطريقة أفلاطونية خالصة، وإنما رأى فيه أسلوبا موسيقيا ذا قيمة علاجية؛ إذ إن هذا المقام الليدي «يخفف من الأعباء الثقيلة على النفس، ويزيل الضيق بالترويح الممتع عن النفس»، وللموسيقى في فلسفته قيمة روحية هي تقريب الناس من الله، كما أن للموسيقى القدرة على إثارة أحوال متفاوتة في النفس، وهي أيضا صورة فعالة من صور التطهر
Bilinmeyen sayfa