وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسألهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضأوا، يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصالحين. وإن أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذه ترتب البيت، وهذه تعد الأكل الحافل، ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعدادا لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض؛ وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جملة فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة، وعمهم البشر والهناءة. •••
لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره، وحلوه ومره، واستقبلنا زمانا سار فيه الأبناء آباء، والمرءوس رئيسا والرئيس مرءوسا.
قالت الخطيبة لخطيبها: الناس أحرار، وأنا إنسانة وأنت إنسان، فإن اعتززت بالكسب اعتززت بالإنفاق، وإن اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وإن اعتززت بأي شيء فأنا أعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك، لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون علي بعض الواجبات التي عليك؛ فإن سفرت سفرت، وإن غشيت دور الملاهي غشيتها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق، ولك السلطان التام في اختيار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد. أنت للبيت والبيت لي؛ وإن كان لك أم شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك الحق في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها. والدين لا شأن لك فيه بتاتا، فهو علاقة بين العبد وربه؛ وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فإن شئت أن تتدين فتدين، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم.
ورأى الرجل أن الأحكام قاسية، والشروط فادحة، وهام يبحث بين الممدنات عمن يرضى به زوجا على الشروط القديمة فأعياه البحث.
وأخيرا نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان، وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له، ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات، حفظ شكلها وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.
وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في الطلب، وابتدعت كل يوم مطلبا جديدا، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطعن وطالما خضعن، فليطع دائما وليخضع دائما، جزاء وفاقا على ما جنى آباؤه وأجداده.
قالت: إن رقصت رقصت، فذلك حقك وحقي. قال: نعم. قالت: بل إن لم ترقص رقصت؛ لأنك إن أضعت حقك لم أضع حقي، وإن خاللت خاللت فالجزاء من جنس العمل، بل إن لم تخالل ربما خاللت؛ لأن حياة الزوجية البحتة قد يعتريها الركود والسأم والملل؛ فصرخ ولف الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسجلت مطلبها الأخير، ورأت المحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلع ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فإن لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.
قالت: وسيكون أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفضل له بردعة ولجاما على قدره، فتضع البردعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يمينا أو شمالا على غير رغبتها. •••
وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.
وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفات فلم يعيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير إذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وجمحت تخيلاتهم.
Bilinmeyen sayfa