سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بنيت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى.
في الحديث: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن يتنبهوا بموتهم.
ربما كان هذا ضربا من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل: إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم. ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدنية الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت. ولعلنا نستروح من هذا البرنامج نسيم الراحة فيراجعنا نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا.
ملق القادة
لست أعني بهذا العنوان أن يتملق الجمهور قادتهم فيظهروا لهم الود والإعظام بحق وغير حق، فذلك شيء قليل الخطر، فاتر الأثر، وإنما أعني أن يتملق القادة الرأي العام فيسيروا على هواه ويجروا مجراه، ويأتوا ما يحب، ويذروا ما يكره، فهذا هو الداء الدوي والعلة الفادحة.
ومن أسوأ ما أرى في الشرق في هذه الأيام هذه الظاهرة، ظاهرة أن يحسب القادة حساب الرأي العام أكثر مما يحسب الرأي العام حساب القادة.
هذه الظاهرة جلية واضحة في قادة العلم، فهناك أوساط تقدس العرب كل التقديس، وتعتقد أنهم في حكمهم عدلوا كل العدل، ولم يظلموا أي ظلم، فقادتهم يتملقونهم ويستخدمون معارفهم للوصول إلى هذه النتائج التي ترضيهم، سواء رضي العلم أم لم يرض، وسواء أوصل البحث إلى هذه النتائج أو إلى عكسها. وهناك أوساط تعبد كل غربي من عادات وتقاليد وآداب، فقادتهم يختارون اللفظ الرشيق، والأسلوب الأنيق لتأييد هذه الآراء، ولا عليهم في ذلك أن كانوا يحقون الحق أم يؤيدون الباطل.
وهي ظاهرة في قادة الأدب؛ فإن أحب الجمهور روايات الحب والغرام ألفوا فيها وأكثروا منها، وإن أدركوا أن تصفيق الجمهور يكون أشد كلما كان الحب أحد، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة وعنف، ومهروا في أن يستنزفوا دموع المحبين، ويهيجوا عواطفهم، ويصلوا إلى أعماق قلوبهم. وإن كره الناس أدب القوة فويل لأدب القوة من الأدباء! هو سمج، وهو جاف، وهو لا قلب له؛ وإن كان الجمهور لا يقبل إلا على الأدب الرخيص فكل المجلات أدب رخيص؛ لأنه كلما أسرف في الرخص غلا في الثمن؛ وإن بدا الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد وداروا معه حيث دار.
وهي ظاهرة في دعاة الإصلاح؛ فهم يرون - مثلا - أن الشباب قوة فوق كل قوة، وهم عصب الأمة وإكسير الحياة، وفي استطاعتهم أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة ويسقطوا من شاءوا إلى الحضيض؛ فهم ينظمون لهم الدار في مديحهم وإعلاء شأنهم، وملئهم ثقة بأنفسهم، فهم رجال المستقبل وعماد الحياة، وهم خير من آبائهم، وستكون الأمة في منتهى الرقي يوم يكونون رجالها؛ وقد يكون هذا حقا، ولكن للشباب أغلاطه الجسيمة التي تتناسب وهمته، وله غروره واندفاعه، وله تهوره وإفراطه في الاعتداد بنفسه؛ فكان على المصلحين أن يكثروا القول في المعنيين على السواء، فيشجعوا وينقدوا، ويبشروا وينذروا، ويرغبوا ويرهبوا، حتى تتعادل قوة النفس، وحتى يشعروا بمحاسنهم ومساويهم معا؛ ولكن هؤلاء القادة - مع الأسف - وقعوا فقط على النغمة التي تعجب الشباب وتحمسهم، ولم يجرءوا أن يجهروا بعيويهم، ولا أن يقولوا - ولو تلميحا - في مواضع النقد من نفوسهم؛ فكان لنا من ذلك شباب استرسلوا في الإيمان بقول الدعاة إلى أقصى حد، واعتقدوا أنهم كل شيء في الحياة، وأنهم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو نقد ناقد؛ وكان هذا نتيجة لازمة بعد أن وقف القادة منهم هذا الموقف؛ وقد يكون هذا رد فعل للماضي أيضا، فقد كان طالب العلم في الجيل السابق يقدس قول أستاذه، وهو وأستاذه يقدسان ما في الكتاب الذي يتلى؛ وكان الشاب يجل الشيخ في قوله وفعله، لا يرى أن له صوتا بجانب صوته، ولا رأيا بجانب رأيه؛ فكان سلوك هذا الجيل انتقاما من الجيل السابق، وذهابا في الإفراط يعادل إفراط آبائه؛ ولكن أظن أنا وصلنا إلى حد يجعلنا نفكر جديا في تثبيت هذه الذبذبة ووقفها الموقف الحق.
إن وقوف القيادة من الجمهور موقف الملق قلب للوضع؛ فالعالم إذا قال برأي الناس لم يكن لعلمه قيمة، والمصلح إذا دعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحا.
Bilinmeyen sayfa