Hati̇rin Bereketi

Ahmed Emin d. 1373 AH
152

Hati̇rin Bereketi

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Türler

أرجو ألا يسمح الجيل الجديد والأجيال القادمة لمؤرخيهم أن يؤرخوهم كما أرخهم المقريزي والسيوطي.

هما

«هما» إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما.

أما «هو» الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تلفت الأنظار؛ قد طبع على ما يود. فلا هو جميل يقيد النظر، ويفترق البصر، ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله؛ لأنه يأبى تكاليف الجمال وتكاليف القبح.

كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن كان قد خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه؛ ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والابرام. حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه «شريط ماركوني» ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه بفحصها: هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها: ماذا يريد منها؟ لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إلي عندها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه؟ لا بد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا؛ ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرا جديدا، حتى يدركه النوم، وقل ألا يحلم بما حدث، وقل ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة.

من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها؛ فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات؛ لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم؛ فإذا اضطر إلى دعوة ذهب إليها كارها، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلا للحساب العاجل على الحساب الآجل؛ فقل أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات.

أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه؛ فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها. وشغف بالعلم فكان دائب الدرس كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أي ناحية منها أبان لك عن علم واسع ومعرفة دقيقة، هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها؛ ثم هو بعد لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطا طمح إلى ما هو أرقى منه، فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائما ليسبقه، وهيهات أن يلحقه.

وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه؛ إن جلس مع غيرهم فعيي جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح.

لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة في غير ما طرف ولا سرف.

ثم هو - غالبا - لا يحب رؤساءه ولا يحبه رؤساؤه؛ فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالا لا تسمح به الدنيا إلا نادرا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة. وقد يتسامح في نقص يستره كمال، ويغتفر ضعف تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف ويريد في رئيسه الكمال صرفا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيا أو إلها، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد لرؤسائه مستمر، وتجريح دائم؛ وأما هم فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة. التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا وسط بينهما، لا يأتمر بأمر رئيسه ولا ينتهي بنهيه متى خالف قانونا؛ والقانون عنده هو القانون الحرفي الذي لا يحتمل تفسيرا ولا تأويلا. من أجل ذلك تعاقب عليه رؤساء مختلفون، وتنقل من مصلحة إلى مصلحة، والنتيجة واحدة دائما في نظرهم إليه ونظره إليهم؛ حتى لقد كان رئيسه يوما ما أقرب الناس إليه وأعرفهم به، ورجوت السعادة له أيام رياسته، فما لبثت أن رأيت الصداقة استحالت إلى فتور فكراهية، ثم كان أعدى له ممن لم يكن يعرفه. •••

Bilinmeyen sayfa