لقد كنت في أول أمري أطلب الولد خشية أن يتزوج زوجي غيري، فلما أمنت جانبه، واطمأننت من ناحيته طلبت الولد؛ لأنه طبيعتي؛ ولأنه حياتي بعدي؛ ولأنه موطن انتساخ روحي؛ ولأني امرأة قد خلقت للأمومة. لقد أحسست بهذه الأمومة في صغري فعملت العرائس إرهاصا لأمومتي، ثم تزوجت تهيؤا لهذه الأمومة؛ فلما تقدمت في السن ولم أجد الأمومة رأيتني فقدت طبيعتي، ورأيتني في الحياة مقدمة بلا نتيجة، أو قبة بلا شيخ، أو لوزة فارغة، وأنا والعروس من الحلوى والعروس من القطن سواء، كلنا لا يلد. ليس لي أمل في السلوة إلا بالموت فهو وحده بلسم الهموم، ومقبرة الأحزان!
وهنا ختمت حديثها - كما بدأته - بالدموع.
قالت الأولى: والله لو ذقت مرارة الأولاد ما تمنيتهم، ولو جربت سهر الليالي ما اشتقتهم، ولكن أحب شيء إلى الإنسان ما منع، والقصر من بعد أجمل منظرا من سكناه، والخيال دائما ألذ من الحقيقة. لقد كان مرة أكبر أولادي يبكي وهو رضيع ولا نعلم سببا لبكائه، ويبكي ويشتد في البكاء حتى بلغ منا الهم مبلغه؛ وإذا بزفة عريس تمر من تحت بيتنا، فأضحكني زوجي أبو الطفل إذ قال للعريس: «غر» غدا تخلف «وترى» - ولو تمنيت الآن شيئا لتمنيت أني لم أكن تزوجت، وإن تزوجت فلم أكن «خلفت». أتبادلنني؟ وضحكت.
قالت الثانية وتأوهت: وكيف يمكن البدل؟ إنما أريد أولادا مني لا منك، أريد كبدي تمشي على الأرض أربيها، ولا أريد كبدك أنميها وأغذيها - وأنت أيضا لا تعبرين عما في نفسك تعبيرا صادقا، فمن تهون عليه أولاده؟ إنما ينفع البدل إن كان قدر الله أن أكون ولودا وأن تكوني عقيما.
قالت الأولى: أتريدين الحق يا أختي؟ الدنيا كلها تعب، فلا ولود في راحة، ولا عقيم في راحة، ولا متزوجة سعيدة، ولا عزبة سعيدة.
ووصل الترام إلى العتبة فنزلنا، هذه إلى طبيب ابنها وتلك لبعض شئونها.
قال صاحبي: ولكن كيف أمكنك أن تسمع هذا الحوار؟
قلت: هذا سر الصنعة.
مقياس الرقي
سألني أديب سوري: بم تعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة - إذا سئلنا أكانت بالأمس خيرا منها اليوم، أم هي اليوم خير منها أمس - فأي النواحي نرعاها عند النظر؟
Bilinmeyen sayfa