تصدير
إهداء الديوان
فوق العباب
تصدير
إهداء الديوان
فوق العباب
فوق العباب
فوق العباب
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
تصدير
في هذا الديوان كثير من شعري الذي نظمته في سنة 1934م، بين شواغلي الكثيرة التي تضاعفت إلى درجة مرهقة يراها النقاد كفيلة بالقضاء على إنتاج أي شاعر، ولكن هذه الشواغل في الواقع كانت بين العوامل التي جعلتني ألجأ إلى الشعر أبثه آمالي وآلامي، ولا يعنيني بعد هذا إلا كما تعنيني صور حياتي أتأملها فأستعيد من الذكريات ما فيه غذاء عواطفي.
وقد شهد هذا العام حفاوة مزدادة بالشعر الحديث ولكن دائرة هذا الشعر ما تزال برغم ذلك محدودة. ومن الحق أن نقرر ذلك وأن نعترف بأن الشعر الغالب في العالم العربي وفي مصر خاصة هو ما يمثله نظم الجارم وعبد الله عفيفي والماحي وأقرانهم، وهو شعر فيه غالبا مرائي الماضي في ألفاظ موسيقية تقليدية. وقد اعترف أستاذنا مطران بذلك في تقديمه الشعري الصريح لديوان الماحي الذي لم يثر عليه إلا المجددون المتشددون، بعكس الكثيرين من الأدباء - ومن بينهم بعض المجددين المتسامحين كمحمود عماد - فهؤلاء قد رأوا في شعر الماحي فخرا للأدب العربي وعدوه مرآته في هذا العصر.
إزاء هذا لم أكن أنتظر أن يجرأ شاعر من شعراء الشباب كمختار الوكيل ويتشبث بتأليف كتابه «رواد الشعر الحديث» وبأن يضعني بين أعلامه، فهذا «الشعر الحديث» محصور الدائرة، ثم إن أعلامه هؤلاء محصورو النفوذ، وأنا أقلهم نفوذا وإن كثرت ميادين إنتاجي. ولكن هي الرغبة الفنية التي ألحت على ذلك المؤلف الشاعر فأبى إلا أن يشيد بمذاهب «الشعر الحديث» وأن يذكر خدامه العاملين على نصرته الذين يتمنون مثلي اقتراب عزته وإن لم أشاركهم في تفاؤلهم التام.
نعم، إني أقل هؤلاء نفوذا وأقلهم تفاؤلا بالنسبة لهذا الجيل، وإن كنت أكثرهم دأبا وإنتاجا، وقد أؤثر باتجاهاتي في بعض الشعراء ولكن عددهم محدود، وإذا سرى تأثيرهم بين الشعراء الناشئين فالفضل لهم وليس لي، فإن حالي في عزلتي النسبية، وفي استقلالي الفكري والتعبيري أشبه بحال الشاعر وليم بليك، وإن كنت لم أنتج بعد مثل إنتاجه، فقد بلغت دواوينه الشعرية مائة مجلد ضاعت جميعها، ولولا المواظبة على طبع إنتاجي الجديد تلبية لإلحاح خلصائي - وهم شطر من نفسي - وتلبية لنوازعي الوجدانية، لضاع هذا الشعر كما ضاع غيره من قبل دون أن تحس بفقده جمهرة الأدباء في هذا الجيل.
إذن لست أدعي لهذا الشعر أية مكانة في نفوس الأدباء المعاصرين عامة، وإن كانت له مكانة في نفوس مريدي من خاصة المتعلمين وهؤلاء قليلو العدد. وإذا كان بعضهم قد تفضل وعاونني أدبيا على دراسة مؤلفاتي الشعرية فليس معنى ذلك أني أقر كل ما كتب عني من تقدير نقدي، وإن اعترفت بقيمته الأدبية كتبيان لما تراه بيئة الشاعر الخاصة في شعره وعوامله واتجاهاته، وهذه نقط لها قيمتها الفنية في التأريخ الأدبي، خصوصا إذا كان الشاعر غريبا في تفكيره وأخيلته وتعابيره الطليقة عن المألوف في عصره.
وإذا كنت قد تناولت قبلا أو أتناول الآن بالتعليق في هذه الصفحات أو في غيرها بعض النقط الفنية المتصلة بالشعر، فإنما هو تناول المؤمن المدافع عن إيمانه، لا أملا في الإقناع والبيئة غير مستعدة له، ولكن تنفيسا للآراء المكبوتة وتزكية عن الفن المقدس وبرا بوفاء المريدين الغيورين. وكثيرا ما قلت لهؤلاء الخلان: إني لا أنتظر أن يعنى بمثل هذا الشعر العناية الكافية في حياة صاحبه مهما غالينا في التأميل، وإن أمر نشره لا صلة له بالعناية المرتقبة ولا المرجوة، وإنما هو حامل رسالة فنية هي من صميم كيانه وهي التي تزجيه إلى الظهور في هذه الصفحات المطبوعة سواء ألاقت هذه الرسالة إقبالا عليها أم إعراضا عنها، وقد تكون رسالة إلى المستقبل قبل أن تكون رسالة إلى الحاضر. •••
ينادي المنادون من أصدقائنا المحافظين وأنصاف المجددين بأن الشعر «موسيقى» قبل كل اعتبار آخر، ونحن لا نفهم من الشعر إلا أنه «شعر» قبل كل اعتبار آخر، وليس معنى هذا أننا نكره اقتران الشعر كفن بفنون أخرى وفي مقدمتها الموسيقى، ولكننا نأبى تبعية الشعر لأي فن سواه وإن رحبنا بمزاملته غيره من الفنون الملائمة له.
لنأخذ مثلا قول ابن الرومي وصفا لهاجرة في صحراء:
وهاجرة بيضاء يعدى بياضها
سوادا كأن الوجه منه محمم
أظل إذا كافحتها وكأنني
بوهاجها دون اللثام ملثم
بديمومة لا ظل في صحصحانها
1
ولا ماء، لكن قورها
2
الدهر عوم
ترى الآل فيها يلطم الآل مائجا
وبارحها المسموم للوجه ألطم
فليس لهذه الأبيات في نظر أنصار التميع والرخاوة أي جمال موسيقي، وألفاظها ذات قسوة وجفوة في اعتبارهم، ولكننا نعدها جد ملائمة لموضوعها ونحفل بقوتها، ونعتبر موسيقاها طبيعية منسجمة وموضوعها ومستمدة من صميم معانيه. ويقول المتفلسفون منهم: إن الموسيقى الساحرة ضرورية للشعر (وهم لا يعنون في الواقع إلا الموسيقى الناعمة) لأنها تخدر أعصاب القارئ أو المستمع أو عقلهما الباطن إلى درجة تجعل معانيه تتسلل إلى الذهن غير مستأذنة فتبلغ معانيه غايتها من النفس وتؤدي رسالتها. وعندنا أن هذا لا ينطبق عادة إلا على أصحاب العقول البدائية من أشباه العامة أو على أهل الثقافة المحدودة أو على ذوي الأمزجة العصبية الشديدة، وأما ذوو الثقافة الواسعة المتزنون فتكفي لاستهوائهم تلك القوة التصويرية الرائعة في أبيات ابن الرومي الأربعة، فإذا بهم يتمثلون أمامهم أصدق التمثل حالة الهاجرة في الصحراء وكأنهم فيها، وحسب الشعر أن يكون له من ذاتية خياله هذا التأثير الغلاب على النفوس المثقفة دون أن يحتاج إلى الصناعة الموسيقية لإثبات شخصيته الفنية التي لا تحتاج إلى وصي عليها لا من الموسيقى ولا من غيرها.
ومن هذا القبيل قصيدة «أعمار الإنسان السبعة» لشكسبير؛ فإنها من الشعر المرسل، وليست لها أية موسيقى بالمعنى الذي ألفه أصحابنا المحافظون ومن شايعهم، ومع ذلك فهي آية من الشعر التصويري الفلسفي، وكل أديب مثقف يعرف الإنجليزية يستمتع بتلاوتها كما يستمتع بتلاوة «خطاب مارك أنطوان على جثة قيصر» لشاعرنا نفسه وبأمثال هذا الشعر العبقري في مؤلفاته العديدة، ومعظمه من الشعر المرسل البعيد عن الموسيقى الغنائية الرتيبة - ذلك لأن قوة هذا الشعر الذاتية كافية من تلقاء نفسها لاستهواء النفوس المثقفة المتزنة بغير ما حاجة إلى الصناعة الموسيقية التي لا محل لها في غير الشعر الليريكي الخالص. وكم من جنايات على الشعر يرتكبها باسمه أولئك المزماريون الذين ليس لهم حظ كبير من الطاقة الشعرية وإنما كل حظهم محصور في قدرتهم الموسيقية! فيشجعهم تصفيق الجمهور الذي يستهوونه على العبث بتعريف الشعر وأغراضه، ولا يغنم الأدب الصحيح منهم شيئا، بل هم يسيئون إليه بصرف المتأدبين عن إنتاج أعلامه المنجبين الحريصين على استقلاله. •••
وبديهي أننا لا ننكر أثر الموسيقى العظيم على النفوس، بل لن ننكر أثر جميع الفنون الجميلة، ولا ننكر أن للشعر نبعا من الموسيقى، ولكن ذلك هو الشعر الغنائي الديني والوجداني الأصيل، ولا ينسحب هذا الحكم على الشعر العالي الذي يستند إلى ذاتيته قبل أن يستند إلى عون الموسيقى. ومن ذا الذي ينكر أثر الموسيقى النفساني في رفاهة السلم وفي عنف الحرب، أو ينكر أثرها الشديد في النفوس العصبية، حتى إن القدماء كانوا يستعملونها في تخفيف ألم المصاب بلدغ العناكب السامة، وما يزال السحرة في أفريقيا وغيرها يعتمدون عليها في تطبيبهم؟ ولعل من أبرز الأمثلة للتأثر الموسيقي ما حكي عن المغنية الإسبانية الشهيرة أديلينا باتي فقد كانت تبدو العبرات إلى مقلتيها وتضطر إلى مغادرة الردهة كلما طرقت سمعها أنشودة راعتها من أناشيد بيتهوفن! فالصلة الوثيقة بين الموسيقى والأعصاب أمر غير منكور، وعلينا أن نكبر الشاعر البارع الذي يستطيع أن يمزج فنه بين أسر الموسيقى الخلابة وقوة العاطفة وروعة الخيال وإشراق الديباجة في وحدة متجانسة ساحرة. ولكن هذا المزيج غير مستطاع إلا في النادر مهما تكن براعة الشاعر - ذلك لأن الشعر العالي يتطلب التعمق الفكري والسمو الخيالي والتطلع الإنساني البعيد، وهذه عناصر تستدعي تحرر الشاعر وطلاقته اللفظية حتى تتجه شاعريته إلى الإبداع القوي الحر بدل أن تكون أسيرة الموسيقى. وهذا ملحوظ عند أبي تمام، والمعري، ودانتي، وشيلي، وجيته، وملتون، وأضرابهم بصورة واضحة لا نزاع فيها. وهيهات أن يصل إلى مرتبتهم الشعرية العالية أمثال البحتري، وابن زيدون، وسوينبرن، وديفز، وأشباههم ممن كان طبعهم موسيقيا غنائيا قبل أن يكون شعريا عاليا. ولا غرابة في ذلك فإن المزاج الفني قد يتوزع أو قد يتداعى، وخصوصا في ذوي الأمزجة العصبية المرهفة، ومن الأمثلة البارزة في وقتنا هذا النجمتان السينمائيتان ماي كلاك، وليليان بوند فإن لهما شعرا رائعا مرددا في أمريكا ومتناقلا في غيرها.
لنرحب بالشعر الموسيقي الحبيب وبالشعر العاطفي الخالص، ولنعرف لمثل هذا الشعر قدره. ولكن يجب ألا ننسى أن الشعر ليس هذا فحسب، بل إن فلسفة الشعر تذهب إلى أبعد من هذا
3
وإن أسمى الشعر ليس وليد الألحان الرتيبة، وليس الشعر الغنائي بالمقصور على الشعر العاطفي وحده
4
دع عنك شعر الرخاوة والتميع أو شعر الخشونة الفظ الذي ينعته بعض الأدباء بشعر الرجولة، كأنما الحب الظافر الحقيقي أمر واغتصاب وليس تجاوبا تاما بين الجنسين!
5
وليس من شك في أن جمهرة الناس لا تعنى بالخواطر الشعرية العميقة ولا بالمثل العليا في الشعر، وإنما كل ما يشجيها هو النغم الآسر، ومن ثمة كانت الموسيقى مقدمة على التعابير في الأناشيد العامة بعكس ما يتخيله معظم شعرائنا. ولولا الروح العامية في الأدب لما أنكرت طويلا شاعرية الفحول المفكرين من أعلام الشعر العربي ولما بقي أبو تمام إلى وقتنا هذا لا يعنى بعبقريته العناية الواجبة.
6
ومن ذا الذي يستسيغ من المزماريين مثل هذا الشعر الرائع لأبي تمام في مدح محمد بن عبد الملك الزيات حتى يلهج بذكر شاعريته القوية:
ديمة سمحة القياد سكوب
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة لإعظام نعمى
لسعى نحوها المكان الجديب
لذ شؤبوبها وطاب فلو تس
طيع قامت فعانقتها القلوب
فهي ماء يجري وماء يليه
وعزال
7
تنشا وأخرى تذوب
كشف الروض رأسه واستسر ال
محل منها كما استسر المريب!
أو قوله في سليمان بن وهب:
أي مرعى عين وواد قشيب
لحبته الأيام في «ملحوب»
8
ند عنك العزاء فيه وقاد ال
دمع من مقلتيك قود الجنيب
صحبت وجدك المدامع فيه
بنجيع بعبرة مصحوب
أخلبت بعده بروق من الله
و وجفت عذر من التشبيب
ربما قد أراه ريان مكسو المغا
ني من كل حسن وطيب
بسقيم الجفون غير سقيم
ومريب الألحاظ غير مريب
في أوان من الربيع كريم
وزمان من الخريف حسيب
فعليه السلام، لا أشرك
9
الأط
لال في لوعتي ولا في نحيبي
فسواء إجابتي غير داع
ودعائي بالقاع غير مجيب
رب خفض تحت السرى وغناء
من عناء ونضرة من شحوب
ما على الوسج الرواتك
10
من عت
ب إذا ما أتت «أبا أيوب»
11
سرح قوله إذا ما استمرت
عقدة العي في لسان الخطيب
لا معنى بكل شيء ولا
كل عجيب في عينه بعجيب
سدك الكف بالندى عابر السم
ع إلى حيث صرخة المكروب
ليس يعرى من حلة من طراز ال
مدح من تاجر بها مستثيب
فإذا مر لابس الحمد قال ال
قوم: من صاحب الرداء القشيب؟
وإذا كف راغب سلبته
راح طلقا كالكوكب المشبوب
ما مهاة الجمال مسلوبة أظ
رف حسنا من ماجد مسلوب
واجد بالخليل من برحاء ال
شوق وجدان غيره بالحبيب
كل شعب كنتم به آل وهب
فهو شعبي وشعب كل أديب
كل يوم تزخرفون فنائي
بحياء فرد وبر غريب
إن قلبي لكم لكالكبد
الحرى وقلبي لغيركم كالقلوب
لست أدلي بحرمة مستزيدا
في وداد منكم ولا في نصيب
لا تصيب الصديق قارعة التأ
نيب إلا من الصديق الرغيب
غير أن العليل ليس بمذمو
م على شرح ما به للطبيب
مثل هذا الشعر القوي الأصيل لا يرضي أدباء التميع أو أدباء الرقة والظرف الذين يحصرون عنايتهم في شعر ابن مطروح والشاب الظريف ومن جرى مجراهما، حتى ليحصروا الشعر في النكتة البارعة وفي الطراوة والموسيقى المجارية لها، صادفين عن الشعر المتين المنقب في خفايا النفوس المعبر عن أصالة الحياة. •••
لا بد للفنان المعبر من أدوات التعبير الملائمة، فلا مفر له إذن من استيعاب فنون الأدب وتقصيها حتى يشتمل عليها، وحينئذ له أن يستقل بديباجته التي هي رمز شخصيته، وأما الروح الفنية ذاتها فطبيعة فطرية وإن صقلها الاطلاع والتجربة والمرانة.
والطلاقة الفنية صفة فطرية في كل فنان موهوب، وهو إذا بدأ تقليدي النزعة - كما يقع كثيرا - فسرعان ما تعلن شخصيته استقلالها فتتجلى الطلاقة لا في مناحيه وحدها بل في ديباجته أيضا. ولسنا بحال من أنصار الفوضى اللغوية أو النظمية، ولكننا نعذر الفنان الضليع إذا أبت طبيعته الخالقة أن تقف عند المعايير والمقاييس المقررة ورفضت النزول إلى مستوى الجماهير بل أرسلت فنها طليقا معتزا بشخصيته مهيبا بالخاصة قبل أن يهيب بالدهماء ومرتفعا بالجماهير عن طريق أولئك الخاصة والمريدين الذين ينوبون عن الفنان في نشر رسالته.
قد يستجيب الفنان وقد لا يستجيب لرغبات الجماهير وفقا لطبيعته الفنية، ولكن الفنان الصادق لن يضحي بفنه لمجرد إرضاء الجماهير ولا لأي اعتبار، وإنما هو يضحي بالشهرة الميسورة وبالمتع التي في متناول يده إنصافا لفنه. فلا يثنيه ما يعاب على اتجاهاته الخاصة وعلى لغته وعلى أخيلته من أصالة غريبة، لأن فنه هو من نبع نفسه وموجه أولا وأخيرا إلى نفسه وإلى خلصاء نفسه، وهو إذا التفت إلى النقد فإنما لفتته فنية محضة جامعة بين المبالاة وعدمها؛ مبالاة من ينشد الكمال ويهمه كما يهم الصوفي أن يقف على آراء الناقدين المخلصين، وعدم المبالاة بنفور المغرضين أو أنصار التقليد العازفين عن كل إبداع وتجديد، ناسين ما وراء ذلك من خلق ثروة فنية جديدة للغتهم بدل الاكتفاء بالقديم المعاد.
لن يعرف الفن غير الفنان. وإذا كان الفن في طبيعته هو الصورة الحية للوجود وما خلف الوجود، فهو بالنسبة للفنان ملاذ روحي يهرع إليه فرارا من شقاء الحياة، فيستمد الأمل والثقة بالمستقبل. فالشاعر الموهوب الذي يقرض الشعر في شتى الأغراض إنما يصور الحياة وما خلفها مما ينعكس في مرآة نفسه، وتلك الصور على تقاربها أو تباينها هي ملجأ لوجدان الشاعر ومتنفس له. فكيف يطالب الشاعر بعد ذلك بأن يتحول تحولا آليا لإرضاء الجماهير، كأنما الشعر ليس من نفس صاحبه، وكأنما هو ليس بالمجهود العصبي العنيف حتى ولو كان مرتجلا ارتجالا؟ •••
يرى تاجور أن الناس في هذا العصر المادي الآلي السريع الحركة الدائم التجارب والتقلب بعيدون عن تذوق العمل الفني وتقديره التقدير الصحيح، إذ لا وقت عندهم لشيء من ذلك، وهم عاجزون تبعا لهذه الحالة عن تفهم الجمال الفني وعن التعبير عنه، وهو ينفي أن للنهضة العلمية أثرا في هذه الحالة التي يعدها من أعراض الشيخوخة، فإن الحاسة الشعرية في رأيه من صفات الشباب، فإذا ما فارقت بيئة من البيئات فقل: إنها في دور الشيخوخة الفنية.
ويلوح لنا أن هذه مظاهر عارضة في سيرة الأمم تبعا للظروف العامة فيها، وهي غالبا من رد الفعل لما قبلها، ومن العجيب أن هذه المظاهر قد تتحول من نقيض إلى نقيض، فقد تشغل المشاكل الاقتصادية أو الحربية أو السياسية أمة من الأمم شغلانا كبيرا فتصرفها إلى حد ما عن الأعمال الفنية الصرفة، وإن بقيت جذوة الفن تحت الرماد، وقد تكون نفس هذه المشاكل مما ينفخ ذلك الرماد فإذا بالفن مشتعل الجذوة يستعان به في غير مجاله أو يلجأ إليه للترفيه عن النفوس الكميدة. فالفن في ذاته عزاء كبير وسلوى عظيمة ومهذب خطير للذوق ونبراس لجمال الحياة، وهو إلى جانب ذلك وسيلة حيوية جليلة الخطر يمكن الانتفاع بها في خارج الدائرة الفنية المحضة. وسواء أكان هذا الفن شعرا أم موسيقى أم تصويرا أم نحتا أم غير ذلك، فكل هذه الاعتبارات جارية الأحكام عليه. وقد كان الفن منذ عهود الإنسان الأولى رفيقه في صورة من الصور وسيبقى رفيقه ومعينه، متحولا من مثال إلى آخر حسب العوامل الداعية إليه والمؤثرة فيه. وللشعر في كل هذا نصيبه، ولكن بديهي أن تكون العناية به نسبية بعد أن انقضى زمن التكسب بالشعر ولم يبق من وسائل الارتزاق التقليدي، وليس في هذا صدوف عن الشعر بل ارتفاع بمستواه عن درك التصنع والابتذال. وتاجور نفسه قد لقي ما لقي من الترحيب العالمي به بناء على منزلته الشعرية. والحرب العالمية نفسها كان للشعر نصيبه الطبيعي في ثقافتها ودعايتها. ولكن من الإسراف أن ننتظر من الشعر أن يحل محل سواه من عوامل التكوين أو التهذيب للأمم، وحسبنا أن لا تنكر عليه مكانته الطبيعية وما نرى أنها منكورة.
نعم لا ننكر أن بعض الأدباء يرى في الشعر ثرثرة فارغة، ولكن ذلك الحكم يوجه عادة إلى النظم المألوف الشائع المجرد من الروح الشعرية. وأما الشعر الإنساني الحي الذي يعالج الروح الإنسانية وينصر الفن عامة فهو عنصر من عناصر الحياة الذهنية، ولا يمكن التخلي عنه بتاتا، حتى ولو حولنا طاقته إلى فنون أخرى. ونحن لا ننكر أيضا - بل اعترفنا من قبل - أن جمهرة الأدباء لا ترضى عن الشعر الجديد، ولا تفهم من الشعر أكثر من أنه وسيلة خارجة عن الفن ومسرح للفكاهة وندوة للإخوانيات، وتحكم بأن الشعر الجديد المتعمق أو المتسامي لا حظ له من الحياة. ولكن هذا الحكم الرجعي لا يتمشى وملاحظات تاجور إلا تمشيا عرضيا، فالتاريخ الأدبي يثبت أن الشعر الفني القوي كان وما يزال وسوف يبقى عميق الأثر دائم التغلغل في حياة الشعوب وإن اعترض نفوذه وسلوكه من لا يفهمونه. ونحن في تعليقاتنا لا نعني غير هذا الشعر الحي ولا نحفل بسواه، ونؤمن بأن رسالته أبدية، فلا يمكن أن تستغني عنه أمة من الأمم أو بيئة من البيئات حتى ولو صدفت عنه وقتيا. فليؤمن الشعراء الحريون بهذه التسمية برسالتهم الفنية الإنسانية وليطلقوها حرة دون أن يبالوا بعزوف بيئاتهم لضعف في الشعور أو لخشونة في الذوق أو لتباين شديد في الطبائع أو لقلة استعداد للتحول الجديد، فكل هذا لن ينهض للحكم على مكانة الشعر الصحيح من الحياة المهذبة ولا على مبلغ أهليته للاعتزاز والخلود. •••
وقد يتمادى أولئك الجامدون في محاربة الشعر الحديث بينما ينادون بانعدام خطره! فقد طلب جماعة من الأشياخ محاكمة الشاعر صالح جودت لقصيدته «الإنسان الأول» التي صور فيها أوهام العقل الباطن في تفسير بدء الخليقة ونشوء الإنسان، كما لقينا قديما عنتا كبيرا إزاء قصيدتنا «الخالق الفنان» وأمثالها، مع أن مثل هذا الشعر من الشباب لا ينافي الإيمان الصميم.
12
وقد أشار موريس جارسون في كتابه عن المحاكمات الشهيرة في العصر الحديث إلى ما أصاب الشاعر بوديلير من أجل ديوانه «أزهار الشر» الذي لم يمنع قرار الحكومة الفرنسية بمصادرته استمرار ظهوره لأن الناشرين لم ينقطعوا عن طبعه بالرغم من أن القانون لا يبيح ذلك، مما دعا الحكومة إلى التفكير في إلغاء هذا القرار، فالفن لا يقاوم ولا يصادر سواء أجاء متساميا أم متدليا.
وعندنا أنه بدل العنف في مصادرة الفن القوي يحسن بمن لا يرضون عنه أن يكتفوا بالتنبيه إلى نواحي الجمال فيه من حيث هو فن، ثم إلى أضراره من حيث ملابساته الأخرى. وأما المقاومة العنيفة للأذواق الفنية التي قد ترضينا من ناحية خلقية مثلا فتحكم وتعسف لا يجديان شيئا في محاربة الفن نفسه، فإن روحه القوية - كيفما كانت مظاهره - قبس خالد لا يمكن إطفاؤه. •••
وبالرغم مما يتخلل هذا التصدير من روح التبرم فإنه مفعم بالتفاؤل للمستقبل لأننا نلمح في الجيل الآتي روح البداية حيثما انتهينا، والقدرة على الاستيعاب الكلي لأساليبنا ودقائق فننا ثم التقدم بجراءة. وهذا هو التطور الصالح الذي نفرح به ونحييه في غير تحفظ ما دام صادق المبادئ لا يتذبذب. وبعد أن كنا نقول: «إن الحياة أشعة وظلال» فنسخط من نسخط من الجيل السابق لهذا التقرير الغريب، صار الجيل الجديد لا يرضى بهذا الإجمال ويأبى له ولنا إلا أن نتوسع في هذه الأحاسيس الجديدة والتحاليل الحديثة. ومن ثمة وجدنا من يصغي إلى تحليلنا للأطياف والأضواء إلى عواطف ومعان كما يحللها المنشور إلى ألوانها. ومن ثمة وجدنا لاشتراك المشاعر في التعبيرات الشعرية فاهمين مقدرين، بعد أن كان الجيل الماضي يضحك منها ولا يفهم أن يكون للنور شعر خاص، ولكن صفوة الخاصة من جيلنا الحاضر والشباب المثقف تفهمنا حينما نقول من الشاعر:
ليس إلاه يفهم النور والظل
ومعناهما بماضي العهود
وابتسام الأشجان في نظرة الفج
ر وإن كان في شعور الوليد
وأنين الغروب في الشفق الدا
مي وإن لاح رائعا من بعيد
واختلاج الآلام في كل شيء
فاتن من جماله المعبود
صور حولنا لصفو وبث
في حنو يخال مثل الصدود
فإذا الشعر من يترجم عنها
عازفا للورى أماني الخلود
وإذا الشاعر الذي يحسن الف
ن حري بمجدنا المنشود
وليس بضائر أن تكون هذه أقلية ما دامت تحمل شعلة النهضة الفنية الصادقة للمستقبل. وأكبر أملي أن يكون الشباب الشاعر الجديد المرهف الإحساس أشجع منا فيما مضى، وأن لا يهمل نماذج شعره الجديد الغريب، وبحسبي أن أذكر هذا النموذج عن «باقة أنغام»:
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
اصغي إلى هذه الألحان زاهية
كأنها نخب الأزهار للعين
فكل لحن له لون يضيء به
وجمعها باقة من زهرك الفني
وكل لحن عطر يفوح به
وإن تخيله غيري من الظن
وأنت كوني، وكوني في حقيقته
جم المعاني التي غابت عن الكون
إذا استمعت إليك
فتنت من توقيعك
كأن سمعي لديك
عيني بمجلى ربيعك
فهذا الشعر كان يعد في وقته
13
هذيانا أو جنونا، وهو إلى الآن من النظم المنبوذ في عرف كثيرين، ولكن من شعراء الشباب النابهين من لم يقاوم هذا الاشتراك بين المشاعر ومعاني التجاوب الفني بينها، فساعده ذلك التحرر والاستيعاب الفني لآثار من تقدمه من الرائدين على التجويد في إنتاجه الجديد تجويدا يملؤنا تفاؤلا وغبطة ولو كانت البيئة كلها صادفة عن هذه الضروب الفريدة من الشعر العصري.
وليس من العدل أن يعتبر أمثال هذا الشعر للجيل الناشئ تقليدا محضا لشعرنا وإن كنا لا ننكر أن عليه طابع التأثر بشعراء جيلنا، ولكن سرعان ما يتبع ذلك ظهور شخصيات الشعراء الناشئين، وبدايتهم بطراز جديد من الشعر. وليس مما يعيب بعضهم أن يقف وقوفا تاما على دقائق فننا واتجاهاته المنوعة وأن يستفيد من ذلك الاستفادة التامة التي تعينه على إنتاج أقوى مما ينتظر من سنه، وإنما الذي يعيبه أن يجحد هذه الحقيقة وأن يحاول قطع هذه الصلات الفنية بدوافع الوهم والغرور، مع أنه لولا هذه الصلات لما تمكن من بدايته الموفقة.
14
ومن المظاهر المقترنة بهذا الشعر الحديث ألوان من التصوف العلمي بدل المبهمات والمعميات التي تشبع بها الشعر القديم، كما في قصيدة «الأشعة الكونية» وأخواتها، ومن أوضحها التصوف النوعي الذي يرى فيه الشاعر طمأنينته وخلاصه من أسر الفناء فيقول في تأسيه:
إني لملك لنوعي
15
لست أجحده
ولو جزائي ضراء وضراء
في عزلة كصلاة لا انتهاء لها
حين الطبيعة بكماء وغناء
أعطي زكاة حياتي ما أخلصه
من الحياة وأعطي الحب من شاءوا
ومن الظواهر الطيبة أن يحفل شعراء الجيل الناشئ أو على الأقل طليعته بهذه الروح التصوفية وبشعر الطبيعة عامة، وأن يقرنوا شعر الطبيعة بحب الزراع ومواطنهم الريفية. وأذكر أن هذا اللون كان ينتقد على شعري أثر عودتي من إنجلترا بعد غيبتي الطويلة، وكان بين أصدقائي من يدهشه عنايتي الخاصة بالفلاحة وبمشاهد الريف المصري وحنيني إلى موطن أسرتي في بلدة «قطور». ولعل شعوري هذا هو ما جعلني أعجب بشعراء الشباب الذين عطفوا على مواطنهم الريفية وأعلنوا شغفهم بها فجزيت محبتهم هذه بكل ما أملك من تشجيع. وإن أنس لا أنس في هذا المقام تقدير الشاعر الأرلندي العظيم أوليفر جولد سمث للزراع في قصيدته «القرية المهجورة»، فهم بلا شك العمود الفقري لكل أمة زراعية وفي عزتهم عزتها، والديمقراطية الصحيحة تبدأ بهم، ونهضتهم التعاونية هي سر نهضة الشعب وقوميته. وهذا الإيمان بالفلاحين وبالحضارة الريفية هو الباعث لشعري عنهم المتمشي في دواويني المختلفة، وفي هذا الديوان حظ منه في صور منوعة بين خاصة تمسهم مباشرة وعامة في ألوان من الشعر القومي.
كذلك من مظاهر هذا الشعر الحديث التأمل في صغائر الأمور وعظائمها على السواء بنظرة نافذة كشافة، واقتران الحسيات بالمعنويات، وكثرة الألفاظ التصويرية، والتعبير الرمزي الجريء، واعتبار اللغة أداة لا غاية. ونظن أن هذه مظاهر لا تحتاج إلى دفاعنا عنها فهي وليدة النظرة الشعرية الشاملة. ومهما أسيء تفسير هذه المظاهر فلا يختلف اثنان في تعدد وجوه الكلمات العربية وسماحة أساليبها واتساع بيانها، وأن اللغة التي تحتمل الخلاف الكثير لا يجوز أن يضيق على شعرائها تضييقا تمليه الأهواء فإذا بها تجعل من هذا الشعر «مثلا أعلى» ومن نده «مثلا أدنى»! وقد أعجبتني بهذه المناسبة كلمة حصيفة لأحد نقادنا العصريين هو الأديب الفاضل محمد عطية يوسف قال فيها:
أنعى على الأدباء الذين يتصيدون الخطايا اللغوية تعبهم الضائع لأن لغتنا فيها بحمد الله لكل كلمة غير وجه ولكل عبارة غير توجيه، فإن كان مقصدهم ابتغاء المثل العليا فهذا سرف، وإن كان غرضهم إيهام الناس بأن لهم بصرا بالحروف فهذا غرور! ولم يتهيأ الكمال لأبي عبيدة والأصمعي وخلف الأحمر فقد لحنوا وصحفوا وهم هم، فكيف يتهيأ لفلان وعلان وترتان من أدباء اليوم؟!
ونكرر أن مثل هذه الملاحظة لا تعني شيئا من التهاون باللغة، وإنما تشير إلى أن الروح الفقهية لا تتفق وروح الفن، وأن حرية الشعراء الناضجين المستوعبين هي لخير الشعر واللغة، فهم رواد الابتداع في كثير من تعابيرها الرشيقة الحساسة. وليس بدعا إذن أن تجمع نظرتهم الحرة المستوعبة ما بين الحسيات والمعنويات، وأن تخترع الكثير من الألفاظ التصويرية، وأن ترى الشعر والفلسفة في المشاهد المألوفة، وشواهد ذلك في هذا الديوان وما قبله من دواويننا ليست بالتي يعتذر عنها، فروح العصر تمليها وستبثها وستشيعها في الشعر الجديد. وليس في شيء من هذا تقليد مقصود لأي ثقافة معينة فإن الروح العصرية روح أممية وهي في مصر تجمع بين نزعات الشرق والغرب، فمن الطبيعي المحمود أن تمثل ذلك ومن غير المحمود أن يتخلى شعرنا العصري عمدا عن هذه المؤثرات الطبيعية ثم يتعمد تقليد القدماء لينال رضاء المحافظين وهتافهم النابي بألمعيته!
وليس من شك في أن الإحساس في الشعر أسبق في القوة من قدرة التعبير ويجب أن يتضح أولا، كذلك لا شك في أن الشعر كالجمال يوجد لذاته، والشعر يمثل التجارب الوجدانية قبل أن يصفها وصفا سواء أجاء التعبير صريحا أم رمزيا، وليس لناقد أن يتعرض للشعر بنقده ما دام جاهلا لهذه العناصر.
16 •••
لا يسأل الشعر عن نفسية صاحبه، فخواطر الحكيم وخواطر المجنون وخواطر الطفل الساذج كلها شعر إذا عبر عنها بطريقة شعرية، ولكن أرقى الشعر هو ما لا ينافي في روحه الحقيقة العالمية. وهذا الشعر العالي يجب أن يكون مرآة صادقة للب الحياة الخالدة المتفائلة، ولا يجوز أن يكون التشاؤم فيه متناولا صميم الحياة، وإن جاز أن يتناول مظاهرها في ثورته على الباطل.
ولا مشاحة في أن الشعر الذي يساء به إلى الأدب لا يعبر عن شيء من ذلك، وإنما هو في غالبه لعب بالألفاظ وبالرنين. فكثير منه مغالطات في الحقائق ورجوع بالإنسانية إلى الوراء، لا يدعمه شيء من التصوف البصير، ولا من روح العلم المتفائل، ولا من الشعور بمجد البشرية، ولا من الإيمان بالطبيعة الحكيمة، ولا من الحماسة للحق والجمال. هذا الشعر السقيم بل هذا النظم العاثر عبارة عن صور أخرى لتشابيه واستعارات صناعية أو نماذج من شكوك الجهل وطغيان السوداوية أو صور من الأمراض النفسية، وسيان قدم لنا باسم المحافظة أو التجديد فلا قيمة فنية له ما دام بغيضا كريها مشوه الأداء لا يسنده شيء من الطبيعة الفنية.
إن الشعر في روحه وغايته توأم للفلسفة،
17
وجميع الأنبياء كانوا في روحهم شعراء، والشاعر الناضج لا يتجنب الدوافع الشعرية في كل شيء: في الطريق، في البيت، في المجتمع، في الوحدة، في الأرض، في السماء، في أتفه الحشرات، في أعظم الأجرام، كلها سواء عنده، وشاعريته الفنية تقبس منها جميعا عناصر الخير والجمال والحق.
ولا شك عندنا في أن أسمى رسالة للشاعر هي النهوض بالإنسانية عن طريق هذا الفن الجميل، فهو مرب جليل يقدر «للذوق الفني» أثره، وهو في كل ما يعبر عنه - سواء جاء مرآة لشخصيته أو مرآة للمجتمع أو مرآة للإنسانية أو مرآة للحياة الكونية - إنما ينصر هذا «الذوق الفني» الذي يسير بالحياة إلى الأمام ويأبى لها الوقوف كما يأبى لها التشاؤم أو الفناء بالمعنى الحقيقي. فالحياة نوعية إن لم نقل عالمية، وهي أسمى من أن تحصر في فرد أو جنس. •••
هذه طائفة من النقط الفنية التي ازدحمت أمامي وأنا أكتب هذا التصدير، تناولتها تناولا عاما لمن تشوقهم معرفة آرائي فيها، أو إجابة على أسئلة بعض الأدباء النقاد، وإن كنت أعلم أن بينهم من يشوقه التحدث عن الأمداح الغثة التي نظمها السيد شهاب الدين في محمد علي وسعيد وإسماعيل أضعاف ما يعنيه الإلمام بخصائص هذا الشعر أو بنزعات شعراء الشباب النابهين، وبينهم من يحفلون بكل قديم على ضعفه ولا يأبهون لأي جديد على قوته، وقد تجاوزوا في كل هذا حدود الذوق والمعقول. ولو أني عمدت إلى تدوين جميع الخواطر التي تتصل بهذه النقط لاتسع بي مجال هذا التصدير اتساعا كبيرا لا يتفق وغايتي منه، وليس أقلها شأنا تحية أصدقائي المتفضلين بقراءته، المقبلين على ما بعده من شعر، فشعري من نفسي وأرواح أندادي.
أحمد زكي أبو شادي
ضاحية المطرية
في 30 نوفمبر سنة 1934
إهداء الديوان
إلى الغائب المحجوب عن عالم الثرى
إلى منشأ الدنيا إلى منتهى الورى
إلى ذلك الطلق الفضاء الذي به
تبعثر من حلم العلى ما تبعثرا
إلى هذه الأجرام تمضي سريعة
وفي إثرها الفكر الجريء تعثرا
إلى هذه الأنوار جازت سفينها
ملايين من بحر السنين الذي جرى
1
إلى كل ما صان الوجود وهده
وجدده أضعاف أضعاف ما نرى
إلى الحب روح الكون أهدي عبادتي
وأنشرها شعرا صريحا ومضمرا
بعثت به فوق العباب عواطفا
تثور فثار الموج حتى تنثرا!
أبو شادي
فوق العباب
شعر الديوان
العام الجديد (عام الأزمات)
فتى الدهر في أي وهم ولدت
وقد مات أهلوك لما ولدت؟
وما لي أراك لقيطا عليلا
فلا الأهل تلقى ولم تلق بيتا
شريدا على متن هذا العباب
وكم فوقه يلفظ الدهر موتى!
يضج لطلعته العالمون
كأن بها من أذى الدهر موتا
أتنسب أنت لهذا الزمان
وقد شمل البؤس حيا وميتا؟
فلا مرحبا بك يا ابن الضلال!
لقد جئتنا اليوم من غير مأتى
كأن الإله الحكيم القدير
أبى أن تعد حياة فمت
فنحن نعيش بغير الزمان
لذلك لا يسمع الحق صوتا
وأعجب من كل فوضى الحياة
نفوس ترى العيش وهما وثبتا!
فوق العباب
غنى الصبابة والألم
فهما النهاية للنغم
ما زلت عمري كله
حيران أصغي في الظلم
وأنا القصي عن النشي
د، على هوى، وعلى نهم
نغم الخلود من الألو
هة فوق ثغرك يبتسم
تتبسمين به ولا
نلقاه إلا كالحلم
لا يستحيل إلى غنا
ء بل يعف عن الكلم
هو صوت حلاق الحيا
ة كنوره فوق السدم
باللمح أسمعه وأل
حظه جمالا يزدحم
وكأنني الأعشى الأصم
فلا ضياء ولا نغم
إلا خواطرهن أب
هى من جمال يستتم
صوت يطوف على العبا
ب فلا يقر ولا يلم
إلا كإيناس الخيا
ل لمن تداوى بالألم
يا طالما أنا بالخيا
ل مغامر أو معتصم
وأخوض أمواج العبا
ب وهن دنيا تلتطم
وأرى الرموز عليه أس
فار الوجود المستجم
فأحل من ألغازها
عبر الحوادث والأمم
فإذا السلام بها الوغى
وبها الحوادث ترتطم
بنات البحر (من خواطر يوم مطير)
الجو تملؤه الغيوم، وإنما
للصيف جند فرقوا ذراتها
حتى تعود لها البرودة منعة
جمعت سبايا الصيف من أشتاتها
فتفيء للبحر المشوق أبوة
لرجوعها، فغيابها كمماتها
فعلام تشكون الشتاء وما جنى؟
أيلام حين حياته بحياتها؟ •••
عودي بنات البحر في أمواجه!
كم نال ظلم الصيف من لذاتها!
عودي! فقد أحيا الشتاء وعوده
فعداته في الصيف عين عداتها
عودي وسيري في العباب جديدة
ثم ارجعي للسحب بين بناتها
وتدفقي مطرا طغى وجداولا
تجري رواني السحب في مرآتها
وتمتعي بجديد عمر ثائر
لن تغنم اللذات بعد فواتها
وارضي بدنيا لا تدوم بحالة
فالعيش في التنويع من حالاتها
إلى صدقي باشا
أمودع الحكم العريض ولم يجد
بين الأنام مودعا وحميما
خدعوك رغم سياسة غلابة
والعقل زلته تضيع زعيما
قبرت مواهبك العظيمة مثلما
أنسيت من جعلوا العظيم عظيما
والحكم ما لم يستمد جلاله
من روح هذا الشعب راح ذميما
لهفي على وطني تضيع قواه في
هذا التناحر جانيا وأليما
حتى كأنا للشقاوة دائما
هدف، فما نلقى النعيم نعيما!
غب يا ربيع!
غب يا ربيع فلست من يهواكا!
طوي الغرام كما طويت هواكا
لمن العطور وكل عطر سابغ
ألقاه آلاما كما ألقاكا؟
عد للذين تعشقوك وخلني
في عزلتي أتأمل الأشواكا
أو صر إزاء الهجر جدبا شاملا
إني أحس الجدب حين أراكا
الشاعر المكلوم تصدف عينه
عن كل ما تهدي ولا ترضاكا
لمن العبير وكل أنغام الهوى؟
لمن الدلال تحايلا وشراكا؟
هذي الشباك الفاتنات مخايل
للوهم مذ ناجى الحبيب سواكا
أعددت مجلى نعمتي، ونأى كمن
جافى، فجن الحب حين رآكا! •••
غب يا ربيع! كفى بمهزلة الهوى
أجد النعيم مناحة وهلاكا
أبكيت في هذا الندى؟ أبكيت في ال
قطر المضاع؟ لأنت من يتباكى!
أنا وحدي الباكي الشجي بعزلتي
ولو أن حولي عالما وشباكا
ضاع التجاوب بيننا، وكأننا
خصمان، أو أني جمعت عداكا
يا خالقا أمم الجمال وجاهلا
من يستقل بها وليس يحاكى
فرقت بيني والتي بفتونها
أدركت في ماضي المنى معناكا
مضت المنى، ومضت معاني طيبها
ومضيت أنت، وقد سمعت خطاكا!
هتاف الربيع (أملاها صاحب الديوان على صديقه الفنان شعبان زكي.)
هتف الربيع فما يكون نشيده
والظلم يعبث حوله ويبيده؟
أتراه سخرية لسالف عهدنا؟
أو عهدنا الحالي، فنحن عبيده؟
حتى الجماد يرف في حلل له
والنبت يرقص وشيه وجديده
ونفوسنا كالصخر ليس يسوسه
نغم، وليس له بعيد عيده
صلدت من الجبروت حتى أصبحت
كالوهم في الضعف المديد مديده! •••
غني عصافير الربيع، وإنما
كل امرئ منا الأصم شريده
غني ولا تتلفتي لنفوسنا
فالفقر حاكمنا ونحن جنوده
وهبت له والظلم زكانا فما
يجدي الفقير من الربيع وجوده
دنيا الفنون هو الربيع، وحالنا
دنيا الهوان، وللهوان شهوده
ديست كرامتنا ومات رجاؤنا
أترى يكون من الربيع معيده؟
هيهات! والنفس العليلة جدبة
إن الربيع ربيعها تجديده
هيهات إن لم تنتفض لحياتها
وتثر على موت تشد قيوده
والشعب لم يقتله من ظلامه
إلا التهيب، فالكفاح خلوده!
خطيب مصر (نظمت لمناسبة الخطبة الاجتماعية الرائعة التي ألقاها الوطني الكبير السيد مكرم عبيد في افتتاح نادي المحامين بالقاهرة.)
خطيب «الوفد» أنت خطيب مصر
وشاعرها المبجل والمفدى
بودي لو أصونك عن جهاد
تسوء به السياسة من تصدى
وأن ألقاك مصلح مصر فيما
نداؤك فيه ينقذ من تردى
سئمت من السياسة فهي جرم
على الأخلاق تبقي الحر عبدا
خطبت فكنت أحكم من تنادى
بمكرمة وأشرف من تعدى
تحارب عثرة الأخلاق فينا
وتهتف بالذي تلقاه أهدى
لعمري ذاك أجدى من جهود
تطيح بها السياسة من تحدى
إلى الشاكين
شكوت كما تشكون من زعمائنا
وقد كثروا لكن مآثرهم قلت
فهلا شكونا من تهاون أمة؟
وهل هي خافت في المعارك أم ملت؟
أينتقد القواد والجند محجم
عن الحرب؟ أم هذي موازيننا اختلت؟
عرفت الرجال الرائدين مكارما
فإن لمتهم فالعيب من بيئة ضلت
إذا خذل «الوفد» الممثل أمة
فلا عجب في أمة بعده اعتلت
فكونوا جميعا وحدة أي وحدة
وإلا فذوقوا الويل من وحدة ولت!
غمرة الموت
فوق هذا العباب، في ظلمة اللي
ل، أقضي الحياة لهفان حائر
لم يزدني الضياء من طلعة البد
ر سوى ثورة على كل ثائر
فكأن الضياء أرواح موتى
جمعت في السماء بعد المقابر
وإذا بالضياء ميت، وحسبي
أن أرى الموت غامرا كل غامر! •••
يا حياتي! أيهزأ القدر العا
تي بكل القوى وكل المصائر
أم تري أنت وحدك الحسرة النش
وى فتفنين دائما في المخاطر؟!
ضحك الناس من شعوري وقالوا
إنما هذه هواجس شاعر
بينما من صميم دنياي شعري
ولكم ضللت حكيما وساحر!
قصة الدنيا
لمن هذه الدنيا وهذي المغانم؟
أللخير؟ إن الخير في الناس غارم
إذا أقبلت دنياك لا تغترر بها
وإن ظلمت لم يبق غيرك ظالم
أتطلب منها أن تجدد خلقها
وتحلم؟ إن الشر ما أنت حالم
خذ العدة الكبرى لها غير واهم
فليس غبينا غير من هو واهم
لقد مزج الشر الذي أنت تتقي
مع الخير، حتى حار حبر وعالم
ولو فصلا ما كان دين ولا دنى
فبينهما موج الورى متلاطم
وقد جمعا كالكهرباء: فسالب
مطيع، وعات موجب الطبع راغم
إذا افترقا ماتا، فدنياك عيشها
حياتهما، والعدل كالظلم هائم
وأين وأين الصيرفي مخلصا
فيغنم إبريز ويطرح غاشم
1
وأين جهود الكيمياء فإننا
نعيش بجو خيره المحض جارم؟!
لقد حير الألباب كنه وجودنا
كما حار في تفكيره الرث نائم!
رغوة العصور (1)
الأصل للشاعر الإنجليزي اللورد بيرون:
Between two worlds life hovers like a star,
Twixt night and morn, upon the horizon’s verge.
How little do we know that which we are!
How less what we may be! The eternal scurge
Of time and tide rolls on, bears afar
Our bubbles; as the old burst, new emerge,
Lash’d from the foam of ages ... (2)
الترجمة المرسلة لصاحب الديوان:
ما بين دنيا ودنيا وبين صبح وليل
نرى الحياة كنجم في حافة الأفق رفا
ما أصغر العلم منا بمن نكون وجودا
وأصغر العلم عنه بما سنمضي إليه!
المد والجزر يمضي والدهر في جيشان
وقد حملنا بعيدا في موجه كالزبد
وكلما انهد فان منها تجلى سواه
مجددا ومسوطا في رغوة للعصور!
رسالة الشاعر
مرحبا بالنشيد بعد النشيد
في معان من الزمان المديد
ومعان تزف للزمن الآ
تي ... ألسنا له جدود الجدود؟
هات يا صاحبي أغانيك ألوا
نا فإنا بحاجة للمزيد
هات من كل لوعة وغرام
خمرة عطرت بورد الخدود
إنما نحن في قيود وفقر
لشعور يفكنا من قيود
لسري الأشعار من كل ناي
وأغاني فردوسنا المفقود
نحن نحيا وليس فينا الذي يح
يا قريرا كبعض هذا الوجود
جمعتنا الآلام دون حدود
وسجنا بعالم ذي حدود
فالتفتنا كما تلفتت الدن
يا إلى الشاعر النبي الشهيد
ليس إلاه يفهم النور
والظل معناهما بماضي العهود
وابتسام الأشجان في نظرة الفج
ر وإن كان في شعور الوليد
وأنين الغروب في الشفق الدا
مي وإن لاح رائعا من بعيد
واختلاج الآلام في كل شيء
فاتن من جماله المعبود
صور حولنا لصفو وبث
في حنو يخال مثل الصدود
فإذا الشعر من يترجم عنها
عازفا للورى أماني الخلود
وإذا الشاعر الذي يحسن الف
ن حري بمجدنا المنشود
رجوع الكروان (نظمها الشاعر في السحر وقد أيقظه غناء الكروان الشجي.)
أتعود بعد الشيب يا كرواني؟
أترى الكهولة كالشباب الثاني؟
هيهات! لم تبق السنون لعاشق
مثلي سوى الأصداء من ألحاني
كنت الرسول
2
إلى جميل حنانها
فمضيت ثم مضت بكل حنان
وتسمعت أذني إليك فلم تفز
أبدا بغير صدى بعيد عان!
والآن بعد كهولتي في عزلتي
تأنى برجع نشيدها الفرحان
وتلح إلحاح المبشر بالهوى
فالحب فوق منازل الأديان!
أهلا بمنقذي الحبيب! وهل درى
أني على الإنقاذ جد معان؟
لم يبق للقلب المذاب بقية
تحيا وقد ألقيت في النيران
إلا حياة الذكريات وكلها
أشجان ذي حرق على أشجان
قد جئت من بعد الأوان وإن أبى
زهدي، وعق تجملي بحناني
وكأنما الحب النقي حياته
أبقى من الإنسان والأزمان
ردد إذن وحي الغرام مجلجلا
حيا كشدو شبابها الفتان
كانت تغرد لي وكان نشيدها
جم العطور منوع الألوان
تمشي الطبيعة في خلال حروفه
بمشاعر ومشاهد ومعاني
فأعد لوجداني وقد أيقظته
تلك الحياة تعد شبابي الثاني!
إلى الزعيم الأكبر (حيا بها الشاعر دولة مصطفى النحاس باشا.)
خبرت زعامات البلاد فلم أجد
سواك على دين الوفاء يقيم
تصون إخاء الشعب رغم تنابذ
وما كل يوم للبلاد زعيم
وأنى الذي يشجيه والخطب داهم
تفرق أحزاب تظل تهيم
كأنا خصوم لا تآلف بيننا
مدى الدهر أو أن الفلاح خصيم
ولكن دمي يهديه والليل قاتم
وفاؤك: فهو النور، وهو عميم
سكنا إلى نجواه في حيرة الأسى
إذا ما تجنى باطش ولئيم
وكم قد سألنا الحاكمين انتصافهم
فما كان منهم منصف وحكيم
3
سألناهمو باسم المودة تارة
وباسم جلال الحكم وهو عظيم
وباسم أماني العلم والعصر نير
وما العلم للعصر المنير غريم
وباسم صداقات الأبوة والعلى
بعهد كريم ما سلاه كريم
فما لمحوا من زفرة الحق شعلة
وعشنا وعاشوا والظلام بهيم
ودالت حكومات وما زلت حاكما
وأنت قصي عنه وهو يتيم
يتيم، يتيم - حينما الحكم ما له
نصير من الشعب الأبي - عديم
فبجلت فيك النبل ... يا ما أقله
بدنيا جناها مجرم ووخيم
وقدست فيك الحب للشعب بينما
تجنى عليه فاسق ولئيم
ورددت أمداحي وإن كن نقمة
علي بعهد ليس فيه رحيم
ولكنما دين الإباء سجيتي
وإني على دين الإباء أقيم
النافذة المغلقة (منقولة عن الأغنية الإيطالية الشهيرة وقد ترجمها نثرا لصاحب الديوان الأديب محمد أمين حسونة.)
امنحوني أيها الخلان عذرا
ليس لي ذنب بغلق النافذه
ليس لي ذنب، فكم قد ملأتها
بغرامي أغنياتي الآخذه!
إنها الآن إلى الشارع تمضي
وهي من غيرك تفنى يا جميله
هي تفنى دون إشراقك إن لم
تسمعيني ليلة الحب الظليله
لم لم تنفتحي من بعد غلق
أيها النافذة المخفي فيها
وجد قلبي المشعل المجنون سكرا
من غرامي في هموم يشتهيها؟
بلغيها أنني عبد هواها
أنني ما زلت نشوان محبا
إن تشأ خدعي فلي بعد يد
لانتقامي لم تهب حسنا وحبا
أصدقائي وأعزائي! وداعا
بعد ما قد ماتت الأوتار كسرا
فمحال مرة أخرى لمثلي
عزفها مذ طار ذاك الحسن طيرا
أتركوني ها هنا في عزلتي!
ودعوني أنشد اللحن الأخير
رافعا صوتي قويا داويا
وهو كالموت لمعبودي الحقير!
قطعت قلبي بوحشيتها
فاسمحي نافذة الحب اسمحي لي
بغنائي لك أنت المنتهي
إن يدم روح شباب لي منيلي
نور قلبي! ... نار حبي!
موسيقى المعاني
عجبت لمن ترنح من رنين
ويجهل أين موسيقى المعاني
ولا عجب، فكم لب أصم
وليس الفن حيلة ترجمان
وهذا الكون أنظمة تناهت
هواتفها بأنظمة الأغاني
تحف بنا مواكب ساحرات
وكم متخلف في المهرجان
يخال وجوده صمتا عميقا
وأن وجوده في الأسر عاني
وما الحركات والسكنات إلا
أناشيد منوعة البيان
وما تلك الشموس وما إليها
سوى الأصداء من شعر الزمان
قبسنا من ملاحتها وصغنا
عواطفنا كأنجمها الحسان
وصيرنا القريض عباب كون
يعج وموجه كالدهر باني
يصافح أعمق الأعماق وحيا
ويصعد بالعواطف والجنان
ويندمج النشيد به كيانا
وكم بين المظاهر والكيان
فإن يدركه مسمع عبقري
تبين فيه روعة الافتتان
وإن لم يلق غير سماع قوم
نفوسهمو هوان في هوان
فغايته الضياع، وإن تولى
ليخلد في الطلاقة كالأماني!
الربات الراقصات (يحيين أبناء «رع»)
رقصن، ورقصة الربات معنى
من الإلهام يجهله التمني
تثنين انسيابا واجتذابا
فأنطقن التجاذب والتثني
وغنين الحياة جديد لحن
فصيرن الحياة جديد لحن
وقد ركع الإله «خنوم» عبدا
يطبل والجمال له يغني
تراه شبيه مذهول قرير
على ظن يداعبه وظن
ونافخة بمزمار عجيب
يبذ عجائب الوتر المرن
فتخلق منه موسيقى خيال
وأخرى للخوالج قبل أذن
لبسن من الثياب فنون وهم
فكل جسمها أحلام فن
شكول اللون كالشفق المرجى
وكم علق الرجاء ببعض لون
وأمواج الحياة بهن نشوى
كأمواج الصباح المطمئن
سريعات التجاوب للأغاني
وفتنتهن تجعله التأني
وهذي العمد والأصباغ فيها
تشارفها بروح قبل عين
وهذي الأرض ملمسها خداع
كلمس الحب أو لمس التجني
تنكر حسنهن، وكم إله
تنكر مثلهن بكل حسن
وهبن «رعا» قداستهن لما
سحرن بنيه بالرقص المغني!
المسرح الأكبر (إلى الصديق الشاعر خليل شيبوب صدى رثائه لبنية عزيزة لديه.)
أخي في الحب والأدب
عزاء من أب لأب
عزاء ليس ينصفني
فما شعري وما أدبي
وهذا القلب يضربني
كموج ساخط لجب؟
قرأت سطورك اللهفى
فوالهفي! وواحربي!
أنا الحاني على ولدي
حنوك أنت في كرب
أنا الباكي على زمن
مآسيه من اللعب! •••
مصابك لست تحمله
وحيدا خائض اللهب
فكم من شاعر - مثلي
بنار - جد ملتهب
يرى الأرزاء راقصة
على الأيام كالحبب
ويلقى الدهر كالجبا
ر بالأرزاء في طرب
خليلك يا «خليل» بما
تعانيه، فما بك بي! •••
هي الدنيا عدالتها
فنون اللؤم والكذب
تعززنا وتقهرنا
وتدفعنا إلى العطب
وتزرعنا وتحصدنا
بلا معنى ولا سبب
كأن الفن خدعتها
بما تجني، فلم تعب!
فنحن شخوص مسرحها
وكم من مشهد عجب!
ملايين الشخوص به
تساووا في مدى الحقب
فما حي بمشهود
وما ميت بمحتجب!
سفينة الشمس (نظمها الشاعر لمناسبة زيارته صحبة الأستاذ سليم حسن وأعضاء «المجمع المصري للثقافة العلمية» سفينة الشمس المقدسة في جيرة الهرم الرابع بالجيزة.)
سفينة الشمس قد أخفيت في الظلم
كما اختفى القدر المعبود في القدم
نسبت للعالم السفلي ناقلة
شمس الغروب على بحر من العدم
في كل ليل تعاني الشمس ميتة
أو شبه ميتة ما جل من ألم
حتى تعود إلى الدنيا مجددة
مع الصباح كمولود من الحلم •••
حتى الشموس لها الأعداء قد رصدوا
حسابها فتعاني من حسابهم
تجتاز فيك من الويلات أظلمها
كما يعاني الورى بالموت والهرم
وما تزال، وكل الناس أمثلة
منها، وما اختلفوا عن سالف الأمم •••
سفينة الشمس قد جئنا على لهف
إليك قبل وفود الشمس في الظلم
نحس فيك بأنوار محجبة
كما نحس بألوان من الألم
وذلك البحر - بحر الموت - مضطرب
لا يستقر كجند جد منهزم
أشيمه بشعور لست أعرفه
كأنه ليس من حس ولا كلم
والرمل كالموج زخار ومحتدم
وإن بدا غير زخار ومحتدم
على سكون كأن السخر يشمله
وحاله حال صخاب ومبتسم
والدهر يسبح فيه بين منتظم
للحادثات وجمع غير منتظم
كأنما هو يلقي بالرذاذ على
وجهي ويوقظ وجداني من الصمم
فأشهد العالم السفلي محتشدا
حولي بمختلف الأسياد والخدم
وأرقب الأمس في أقصى مصارعه
مجددا والغد المنظور عن أمم
والموج يهمس بالأحداث أجمعها
وكلها بين مغرور ومنحطم
قد عمرت وهي أشلاء مبعثرة
كما تعمر أشلاء من الرمم
كأنما الخوف في الأدهار حنطها
فلم تمت رغم هذا الموت من قدم
تجري حيالي وأخشى من مشاهدها
وكلها كالضحايا خضبت بدم
والماء كالوهم لا شيء، وأعجبه
رذاذه كشرار جد مضطرم
لولا رعاية «هاتور» لأحرقنا
وكم لهاتور من بر ومن نعم! •••
سفينة الشمس نمضي الآن في أسف
على فراقك بعد العطف والكرم
يبذ عمرك عمر الشمس دائرة
كأن عمرك عمر الخلق كلهم!
ضحية الكهرمان (شاهد صاحب الديوان ذبابة من نوع منقرض في حجر من الكهرمان.)
يا بنت آلاف السنين سجينة
مضت القرون وما عرفت فكاكا
هي عثرة لك في مسيل خادع
حتى تجمد للحياة شراكا
فحفظت تحفة جوهر لم تعتقي
وتخذت فيه عزيزة مأواك
وبقيت ماثلة بنوعك بيننا
فكأنما يحيا على مرآك
وحييت ميتة كتحفة عالم
حي، ونحن نعيش كالأموات
بلع المحيط الدهر عالم نوعنا
ولسوف يجمد بعد دون حياة!
أهلا أبو قردان!
أبو قردان
أهلا «أبو قردان»
يا منقذ الفلاح!
كلاكما قد هان
واستمرأ الأتراح
إن قدروك الآن
لم يعرفوا قدره
لم يفهموا الإنسان
إن يفهموا غيره
تعيش بين الحقول
مستأصلا للضرر
بناقر لا يحول
وناظر من شرر
وقد لبست البياض
في صورة الناسك
وتارة مثل قاص
يقضي على الهالك
تتابع الحرثا
وتلقط الديدان
وترفض النكثا
بالعهد للإنسان
تلوح كالوسنان
والحالم العابد
لكنك اليقظان
والباحث الساجد
في صفرة البرتقال
رجلاك والمنقار
كلاهما في جمال
نراه أبهى شعار
شعارنا للنضار
شعارنا للغنى
والريش ريش النهار
لو صار طيرا لنا!
عش يا صديقا يكد
دليلنا في الحياه
يرجوك عان وعبد
فأنت بر الإله!
مناحة الفن (رثاء المثال محمود مختار)
محمود مختار (بريشة الفنان أسطفان).
روائع الفن! مات الفن والعيد
وماتت اليوم في الجو الأناشيد
4
أنت اليتيمة والأعمام
5
شأنهمو
شأن اليتيم، فلا عون ولا عيد
مات الذي روح مصر في تفننه
حتى تجلت بنجواه الجلاميد
الجاعل الصخر حيا في أنامله
ونبضه بشعور الفن مشهود
والخالق المثل الأعلى وإن خبئت
رموزه، وكأن الكشف تبديد
والمبدع الحسن أعضاء وأنسجة
تشف، فهي معان وهي تجسيد
رزء له يخرس الإفصاح من وله
فعاد ينطقه حب وتمجيد
أنا الطليق بأصفاد ... فواعجبا!
وكم شجاني تحرير وتصفيد!
إن التجاوب إشراك وإن بعدت
أسبابه ... ليس في التبعيد تبعيد
لئن رثيت فشعري من مناهله
والشعر كالنحت إحساس وتخليد
ما بال شعري وما بالي بلا أمل
كأنما التهمت تأميلنا البيد؟!
كأنما في صحاري الدهر غيبته
6
كما تحجب مكنوز ومعبود
واحسرتاه! فقد ضاعت بضيعته
7
من ذلك السر آيات وتشييد
وقد تعثر أحجانا وأحصفنا
كالأدعياء، فما التسديد تسديد
وليس كل غنانا عند حسرتنا
إلا الخصاصة، والتفنيد توكيد
كأنما روحه أرواحنا، فمضت
دنيا من الفن، فالموجود مفقود!
وا لهفة الأدب العالي بملهمه!
مضى الجمال، فهل تغني الأغاريد؟!
أيقتل الدرن
8
العاتي مجددنا
بالفن، والفن إحياء وتجديد؟!
لمن تعيش «عروس النيل»
9
بعد أب
العيش من بعده ذل وتشريد
ترى الرشاقة فيها كلها حزن
تود لو يفتديه الحسن والجود
مثال «مصر» بمعناها وروعتها
فاليوم للأمس مرآة وترديد •••
مشيت في الموكب المصدوع منصدعا
وقلب «نهضة مصر» منه مفئود
والنعش كالهيكل المرفوع حف به
من المناجين إيمان وتأييد
سرنا ولسنا عديدا بينما طفحت
نفوسنا بأسى يعدوه تحديد
كأننا نحن «مصر» رغم غيبتها
أو أننا للأسى الصخاب تمهيد
أسى سيشمل «وادي النيل» أجمعه
وقد أناخت به أيامه السود
أسى ولا كالأسى، فالفن ميتته
أقسى من الموت، لو في الموت محمود! •••
يا مرعش الحجر البسام في صور
من الأنوثة! ... هذا الصخر محسود!
وآسر النظرة العجلى بلا أمد
الموت كالناس مأسور ومجدود!
أين التي زدتها وحيا وتكرمة
وكيف لم تزدحم في المأتم الغيد؟
وكيف لم ينتظمن الناس في حرق
وتلك «طيبة» أحزان وتسهيد؟
و «الرمسيوم» كأرماس بها دفنت
خواطر لك خانتها المواعيد؟
أين التي قدها الممشوق ثورته
في فنك الحي إثراء وتعييد؟
ونهدها ذلك الوثاب من حجر
وجيدها صخرك الفتان لا الجيد؟
أحرى الأنام بأحزان وتعزية
منا، فهل ردها أو صدها العيد
10
لو تحمل النعش زكاها وقدسها
كأنما هو تكريس وتعميد
مت الشهيد لمغزاها وفتنتها
وذاك حبك تغنيه الأسانيد
ولو رفعت شهيدا فوق هامتها
فمن سوى الفن جبار وصنديد؟
روح كروحك غلابا ومنهزما
هو الكمي، ومن عاداه رعديد
وهو الحري بمجد الحب إن عطلت
دنيا الأنام وخانته التقاليد
داء البيئة
مباهج النيل ما للنيل مضطرما
كأنما هو في الصحراء كالآل؟!
نظرته بفؤاد كله حرق
فزاد حرقة قلب ثائر بال
لم يبق لي من حياة كلها ظمأ
إلا أعاصير آلامي وأهوالي
ولا من الحلم إلا ما يؤرقني
ولا من الحسن إلا روعة البال! •••
أسير وحدي بأثقال مروعة
وليس يدرك غيري كنه أثقالي
أنا الشريد ونفسي كلها شمم
وعزة بين تشريدي وأحمالي
لا أستطيع فكاكا من مطالبها
وما مطالبها في حظها العالي
لكنما حظها في حظ بيئتها
ومجد أمتها المأمول والحالي •••
وجاحد طالما أوليته ثقتي
ولا أقول جهادي الجم أو مالي
فليس ثمة أغلى لامرئ فطن
منها، وما كل غال دونها غال
لم ألق منه سوى هجوي مكافأة
أو التطاول في أوهام مختال
أبا الجحود! وكم تغني أبوته
عن عمه الأحمق الممرور والخال!
يا سائل الناس إنصافا وغابنهم
وناصح الناس وهو المفسد القالي!
عد للذين تغذيتم سواسية
بالغدر في غنية عن كل دجال
كم تصخبون وكم تشكون بيئتكم
يا ويحها بيئة منكم بإذلال!
كدنا نسامح دنيانا فقد خدعت
فيكم، وقد وضعت منكم بأغلال!
أنتم أساتيذها الشاكون ضلتها
فيا لدنيا تعاني خبث ضلال!
ويا لآلامنا اللهفى! فقد وئدت
من غدر أمثالكم آمال أجيال!
عيد الحياة (شم النسيم)
عيد الحياة! أمنك بعض حياتي
في بيئة خلقت من الأموات؟
الكون ينبض بالشعور وها أرى
فرح الوجود بمبدع الآيات
والميت يبعث في جديد معجب
فكأنما الماضي البعيد الآتي!
فرح الطبيعة فيه فرحة خالق
ببنيه، لا فرح الزمان العاتي
رقصوا جميعا في تحرر نعمة
حتى الجماد له حبور ذاتي
وتمثلوا البيض المحلى رمزهم
لهوى الحياة وغاية اللذات
حاكت بشائره التغزل بينما
سبق الهوى فجرى إلى الغايات!
عيد لمصر، ومصر في إعجازها
أم العجائب في عجيب صفات
طبعت صباحتها الشعوب بما اشتهت
في الحب والأعياد والخطرات
فنسيمها عيد الربيع، ويومه
يوم الحياة لعالم أشتات! •••
اليوم يخصب كل معنى حافل
بالشعر خصب الجدب والفلوات
وتبث في الأحياء نشوة عيشهم
ونرى الموات يلوح غير موات
ونرى الطبيعة بين لهو طفولة
جذلى وبين أنوثة الخطوات
ونرى الحياة تقوم بين تجارب
شتى ولكن كلها لحياة
الميت منها لا يموت وإنما
يهب الحياة سواه عند ممات
وشعرت وحدي أنني في عزلتي
عن وصل من أهوى فقدت حياتي
والميت ليس له شعور بينما
أقسى الممات الحس بالأموات!
الهدهد في القرية (ذكريات ريفية)
مرحبا بالهدهد الوافي الأبر
ملأ القرية حسنا وخطر!
عد كل الناس أتباعا له
غير أهل الشعر أو أهل الصور!
جاءني منه رسول كله
في شعاع الشمس نور ما استقر
حائما حولي، وفي ترحيبه
من نهى الشمس ومن معنى المطر
جمع الأصباغ في زينته
من حلى القوس
11
ومن وحي السحر
ثم ولى منبئا رفقته
فإذا هم ملء فكري والنظر
لابسو التيجان أبهى زينة
من نضار هو أضغاث البشر
عن «سليمان» لهم حكمتهم
حينما عافوا الغرور المحتقر
12
وأبوا تيجان تبر مرهق
فإذا التيجان ريش وشعر! •••
مرحبا بالفن في أعلامه
بين آداب غوال وصور
كل فرد منكمو مهجته
وحلاه من ضياء وزهر
تنفقون العمر في البحث، فكم
تشتكي منكم حقول وحجر
دائمي التنقيب حتى جلسة
لكمو في الشمس ما فيها مقر
كل ما حولكمو فيه وطر
بينما ليس لكم فيه وطر
صورة الفنان في أخلاقه
كلما نال أمانيه نفر
الهدهد في القرية. •••
مرحبا يا هدهدي! حسبي إذا
زرت هذا الريف مرآك الأبر
نحن صنوان بروح ودم
وحنان وأمان وذكر
غير أني رهن جسم آسر
بينما أنت عزيز ما أسر
وأنا الباكي على عمر مضى
بينما تضحك من معنى العمر!
لك دين أوحدي خالد
حينما المؤمن منا قد كفر!
إلى زينب
ودعتني توديع حلم خاطف
ورحلت - للبلد الجميل - رواء
من حدث القلب الغيور فإنه
ضرب الضلوع تطلعا وإباء؟
لم أدر من أرقي ولوعة وحشتي
معنى إلى أن فسر الأنباء
يا غربتي وأنا المقيم بمؤئل
كالسجن ألفته تزيد جفاء!
ودعتني في غير توديع سوى
وهم يردده الصديق عزاء
فلعل صوتك كان ملء أشعة
لطفت فرددها الصباح ضياء!
قبلتها وشممتها فكأنها
نجوى الجمال لخاطري تتراءى! •••
يا حظ شاطئ «أفرديت»
13
بفتنة
تهب الخلود وتلهم الشعراء
وقف الزمان على الرمال مشارفا
عينيك وهو يحذر الأحياء
كتب الحوادث في الرمال وقائعا
وكتبت أحداث الغرام سواء
وقتلتما أغلى المنى ونشرتما
لهبا تناول أنفسا وسماء
وجرى الهوى فوق القلوب كما جرى
فوق العباب فجيعة ودماء
مرأى هو الهول الحبيب، ومن يعش
في غيره لم يعرف الشهداء! •••
ناري! وريحاني! وأنس شبيبتي
وكهولتي! من لي سواك رجاء؟
مضت السنون الجانيات كأنها
لمحات أخيلة تطيب جلاء
لم أشكها إلا وقلبي عبدها
يستعذب الحرمان والأشقاء
عيناك لم أذق السلاف سواهما
فحييت في سكري صباح مساء
ما الهم؟ ما الهجر المبرح إن أعش
لهما، كما شاء الغرام وشاءا؟
عودت أشجان الصموت ومهجتي
كالبحر يحجب صمته الأنواء
كم مرة ألقاك فيها لم أبح
بالوجد وهو يحز قلبي داء
ألقاك والحب الدفين معذبي
رغم اللقاء فلا أراه لقاء
وأغص بالحالين غصة شاعر
قد لونوا بأساءه نعماء
ويثور حسنك بالحنان جوارحا
وخوالجا فإخالها بخلاء
فإذا رحلت الآن جد بخيلة
فلتحشد الدنيا لي الأعداء
لا شيء بعد الهجر نار جهنم
فالهجر أقسى شعلة وقضاء! •••
طيبي ربوع الرمل! طيبي وانعمي!
وتنفسي منها الهوى أنداء!
لطفت كنوار الربيع نضارة
وصفت كناصعة الثلوج نقاء
جمعت ملاحتها الفصول صباحة
وحرارة وتقلبا ووفاء
حتى تكاد تطيب قسوة هجرها
طيب الوصال تمنعا ورضاء
وكأنما الدنيا ترف بأسرها
من روحها فيسر ما قد ساء
طيبي ربوع الرمل واستوحي بها
فن الجمال وجسمي الإغراء
وتأهبي للعاشقين بنشوة
حتى يروا مجد السماء الماء! •••
مضت السنون وكنت طفلا لاهيا
أهفو إليك وكم أذوب حياء
وأقمت في الرمل العزيز قريرة
وأنا البعيد أتابع الأصداء
والآن عاد الدهر عودة ساخر
يشجي القرير ويقتل السراء
فإذا عناء الطفل عاد مناحة
لفؤاد مبكي يعاف بكاء
يستقبل الأتراح في أغلاله
متبسما متقطعا أشلاء
وكأن «أوزيريس» أوفر في الردى
حظا وأبلغ في الممات نداء
والبحر يسكب نائيا تهداره
في مسمعي اللهفة الخرساء
فأعيدها بين الغيوم تألقا
وأذيبها بين الصخور غناء!
مصر هبة النيل (استيحاء اللوحة الفنية الرائعة للمثال المصري إدوار زكي خليل، وقد مثلت مصر بشكل جبار جميل متناسق الأعضاء مفتول العضلات وهو خارج من بين أمواج النيل الذي ينساب إلى اليسار بين المعابد والآثار التي تقابله عند دخوله إلى مصر عند معبد أبي سمبل، وتظل تزين ضفافه من طيبة والكرنك إلى أبي الهول وأهرام الجيزة. هذا عن مصر الفرعونية، أما عن مصر الحديثة فقد خصص لها الركن الأعلى إلى اليمين من لوحته فمثل زراعة القطن والري والقوافل والصناعات القروية الوطنية والسواقي وغيرها. وهناك زهرتان تزينان اللوحة إحداهما زهرة اللوتس رمز مصر الفرعونية، والأخرى زهرة القطن رمز ثروة مصر الزراعية الحديثة.)
مصر هبة النيل (للمثال المصري إدوار زكي خليل).
يا سورة الفن في منحوت آثار
كرمت للفن معبودا وللدار
ما أروع «النيل» جبارا وطلعته
كروحه آية من روع جبار
أو أنها روح «مصر» لا يعادلها
بأس، وقد بسقت من مائه الجاري
لاحت بجلسة معتز بدولته
في سؤدد من عنايات وأقدار
ينساب في دعة، لكنها دعة
فيها سماحة غلاب وقهار
والماء ينصب كالتاريخ منبسطا
للقارئين ويشجي الشاعر القاري
تفيض أمواجه جياشة أبدا
بالفتح لا شعثا أنضاء أسفار
بين المعابد والآثار زاخرة
يا طالما عبدت في ظل آثار
لدى «أبي سمبل» مسنود ساعدها
ورأسها بين أزهار وأزهار
وتلك أعضاؤها أعضاء مملكة
غناء ما بين جنات وأمصار
ما بين «طيبة» ناجتنا روائعها
و«الكرنك» الفخم في وحي وإضمار
وبين «بلهيب» و«الأهرام» رافعة
رءوسها آخذات الدهر بالثار
شتى المفاتن تشجينا وتلهمنا
وكلها في المعاني آي أبكار
مختارة من عصور للعلى غبرت
وكل عصر لمصر شبه مختار
فيها الحياة دواما جد كامنة
كالنار في النور أو كالنور في النار
تألقت رغم أستار وأستار
وطهرت رغم أوزار وأوزار
وأشرقت مصر بالريف السعيد بها
فالريف كالنيل حر وابن أحرار
هذي صناعاته، هذي سوائمه
جميعها شبه ألاف وسمار
عاشت من الزمن الخالي تحدثنا
عن الخلود لأحياء وأشعار
عاشت فأنضرت القطن الذي غرست «مصر الحديثة» كالأضواء للساري
كأنما القطن ينمو قبل تربته
بالذكر من مهج صينت عن العار
واللوتس الخالد المحبوب زامله
كيما تجمع آصال بأسحار
وكي ترى «مصر» في مرأيهما صورا
للمجد ما بين أحلام وأوطار
وكي ترى وحدة التاريخ ماثلة
ووحدة الفن في نبت وأحجار! •••
يا «مصر) يا هبة «النيل» القرير بها
كما تقر به في جوده الباري!
خلقت من مائه المعسول حالية
معشوقة بين صواغ وعطار
كأنما الجنة الموعود نعمتها
سبقتها أنت للعباد لا الشاري
فكنت أم جنان الخلد في طرف
و«النيل» خير أب ناه وأمار!
البناء الأعظم
فؤاد الأول البناء الأعظم (للمصور المصري ناجي).
في عصرك الذهبي من لي أن أرى «مصر» العزيزة قوة وبناء؟
لم تأل سعيا في سبيل كمالها
حتى سمت فتصدعت أجزاء
لا خير في الجهد العظيم إذا انتهى
بالهدم أو لم ينصف البناء
دب الشقاق بها، وكم من منعة
جعل الشقاق إباءها استخذاء
كالطود أو كالصرح في تصديعه
معنى الفناء وإن سما وأفاء! •••
من لي وقد بلغ الشقاق صميمنا
بالمنصف الآباء والأبناء
في وحدة قدسية علوية
لا أن نبعثر هكذا أشلاء؟
من لي ومن للشعب غيرك قائدا
أعلى وإن لم يعدم الزعماء
حتى نرى الصدع المروع منعة
ونرى الكرامة تصحب الكرماء؟ •••
مولاي! كم من مادح لك حينما
أنت الغني عن المديح علاء
فاقبل رجائي فهو أنبل غاية
عن كل مدح لا يبث رجاء
واسمع لصوت الشعب من فم شاعر
يأبى رياء المادحين إباء
واسلم لمصر مؤلفا وموحدا
أبناءها حتى يروا آباء
في ضاحية المطرية
دعاني الفجر دعوة مستقل
بما أحياه من صور المعاني
فقمت ملبيا، وكأن نفسي
له سبقت بأجنحة الأماني!
أطوف على الحقول كأن فيها
كنوزا خبئت عن كل ران
فأنهبها ولم ألمس خبيئا
ويجني اللحظ ما تخشى اليدان!
وأنظر للنخيل بوجد عان
كأن ظلاله إنقاذ عان
وأرسل في الفضاء الطرف يجري
وراء الطير سباق الرهان
أفتش عن سعادته وألقى
من الأصداء أفصح ترجمان
وأخطف سره من كل لون
من الحب المنزه عن مكان
كأني حيث سرت وحيث أبقى
تنفسه شعوري أو جناني
ولما فاض نور الشمس حولي
رأيت النور لا يثنيه ثان
تغلغل في الضمائر والخفايا
تغلغله بآباد الزمان!
ترى الذرات ترقص فيه حيرى
كرقص الموت في بحر الطعان!
مشاهد للحياة، وكل مرأى
مشاهد للفناء وللتفاني
روائعها هي الحب المصفى
وملء الحب أقسى الموت داني
تمر مصارع الأحياء بينا
ترى الأموات تبعث في ثوان!
فأف للتأمل يا حياتي!
وأهلا بالغباء وبالجبان!
ولو أني وقد حكمت عقلي
أبى عقلي السعادة في الهوان
طبعت على الكفاح كأن سلمى
كفاحي للعظائم غير واني
وأحببت «الطبيعة» فهي أمي
يمجدها الهوى قبل اللسان
يمجدها وقد نثرت لشعري
أزاهر قد حكت قبل الغواني
تعف يداي عن لمس وآبى
على قدمي منثور الجمان
جواهر للحياة فكل زهر
يضم من الحياة غنى البيان
فكيف وهذه الطرقات شتى
جداول من أزاهرها الحسان؟
عوالم تسكن الترب المسجي
لها من بعد صحبتها الأغاني
14
وترضى باصطباغ الماء حتى
إخال الماء فاض بلا أوان!
15
وقد ضحكت لأخيلتي سماء
بدمع اللهو من سحب تراني!
ورف الطحلب الثاوي قريرا
على ماء يحن له حناني
قد احتقرته أنظار البرايا
وحيته الفنون على احتضان
وجمع عنده الأصباغ شتى
تمنتها أفاريز الجنان
كأن من الربيع حلى تناهت
فما تلقى المهين على امتهان!
زمج الماء (من مشاهد النيل)
زمج الماء
يا زمج الماء
16
عبر «النيل» مطلبه
في حين مطلبه أنأى عن الماء
حاكت جناحيك فوق الماء أشرعة
بيضاء عن طرف في الأفق بيضاء
لم انتقالك في هم وفي تعب؟
ومن حمى أي قطر أنت رحال؟
تطير كالسائح المحزون غايته
فوق الظنون، ولا صحب ولا آل
كأنما الأفق فيه من مفاتنه
ما صار يغنيك عن أرض وعن ناس
تطير ... يا قلما أرض تهش لها
وشائق بين وجدان وإحساس
كأنما أنت روح «النيل» طائرة
تطوف من عالم المجهول والسحر
نلقى معانيه في الماء زاخرة
ونحن أجهل من يلقى ومن يدري!
تمضي بلا وجل والماء مبتسم
فهل تضيع كما يمضي هوى الماء؟
للماء أحلامه العظمى كأن له
في البحر حظين من موت وإحياء!
وأنت هل لك عند التيه أخيلة
أجدى عليك من استقرارك الهاني
تهنيك من نغم الملاح أدعية
أم تحسب الزورق المزجيه كالعاني؟!
وأنت كالشاعر اللهفان في قلق
لا ينتهي، وكذاك «النيل» في قلق
ملكتما الآن طرفي حينما همست
نسائم الحب بالمحجوب في الأفق!
دنا الماء وما أصفاه من زمن
للحور في الماء والأجواء في سحر
دنا الماء وما أغنى ثلاثتنا
17
بالشعر في عالم قد فاض بالشعر!
في السباق
في السباق (للرسام دومرج).
يا للملاحة في السبا
ق وللتطلع في السباق
من كل زي خلته ال
فن المفصل للعناق
ما بين زركشة وأل
وان وأفواف رقاق
تغزى بأنظار الرفا
ق وقد تعز على الرفاق
وترى السواعد كالنهو
د من الأناقة في وثاق
مثل الأسيرة، وهي تأ
سر باشتياق واشتياق
دنيا الطراوة والتجمل
في ائتلاف وائتلاق
دنيا من الترف العجيب
كأنه أحلام ساقي
تسقى على نظرات
مفتون بتأميل مراق
وتعيش للوهم الحبيب
ووهمها كالحق باقي
وكأنهن معربدات حين
هن على اتساق
حتى الرجال تحولوا بالوهم
بين فنون راقي
فإذا الخشونة لا تبين،
فإن تبن فعلى نفاق
وإذا الجمال مؤمر
وإذا الخلاف من الوفاق
وإذا السباق أحب للفنان
في تلك المراقي
18
تجري العواطف فيه جري
الخيل في جهد مطاق
متتابعا متواصلا
بين انسياب واصطفاق
حتى إذا ختم السبا
ق ذهبن للكأس الدفاق
ولبثن في روح السبا
ق ... ألسن من خيل السباق؟!
تسبيحة
في طي وجداني إلهي
شاملا روحي كله
لم أدره إلا بنجواي
ونفسي المستقله
19
ما قيمة الدنيا وما الأخرى
وفي الإلهام مله؟
حسبي ضميري فهو منه،
بالغا أسمى محله
ما عمره
20
عمري ولكن
عمر آباد مطله
بل عمر غايات الخلود
السرمدي كمن أظله
21
ما الكون إلا بعض إحساسي
وليس الكون أصله
وأنا الغني عن المباحث
والغني عن الأدله
فمن الصميم إلى الصميم
نداء نفسي والجبله
لم أحي إلا في نهى الرب
الذي قد بث شمله
لم أفن إلا في وجود
ما درى الإنسان مثله
ما أعجب التشكيل في الدنيا
فينسى المرء شكله!
فصميمه هو كل شيء
وهو لا يدرك أهله!
وضميره الأزل المقيم
إذا أباح الموت عقله
والحب من روح الألوهة
والمنية أن تمله!
أبولو ودفني (دفني هي الحورية الحسناء التي أحبها أبولو إله الشعر، وقد تبعها فلما أدركها استحالت إلى شجرة الغار.)
أبولو :
يا حياة الفنون! يا حسن! مهلا!
لست للصد يا مملك أهلا
ها أنا عبدك الذي ينشد الشع
ر معانيك، فامنح الشعر وصلا
أنا لهفان يا جمال، ولكن
لهفتي كالصلاة مغزى وأصلا
لا تخف يا جمال! لست سوى الحا
ني على سرك المصون المعلى
كيف تخشى تهافتي؟ كيف تأبا
ني حبيبا؟ وهل ترى الصد سهلا؟
كل إعجابي الذي أنت تخشا
ه وروحي عواطف تتملى
قد يراها الجهال معنى سقيما
ومن الغبن أن تطاوع جهلا
كم أباحوا الحرام باسم حلال
وأباحوا عجائب الظلم عدلا
لا تصخ يا جمال «دفني» إليهم
أو تذر هذه العواطف قتلى
هي دنيا النفاق يا حسن لا تر
ضى عن الفن مخلصا مستقلا
عابدا فيك عبقريتك العظ
مى، ومستوحيا سناها الأجلا
تدعي لهفتي إباحية الجا
ني وتنسى لها خداعا وختلا
كل شوقي إليك يا حسن ألحا
ن وأنت الخلود نورا وظلا
كل شوقي إليك معنى من الفن
عزيز، ومن جنى النحل أحلى
ليس فيه خشونة أو ضلال
بل هو «الذوق» ما بنى الكون قبلا
قاطفا منك للوجود نعيما
في نشيد من القداسة يتلى
دفني :
لا تنلني إلا لتتويجك الفخ
م، ودعني أحول كالغار شكلا!
نحن للفن، غير أنا نعادى
كعدوين أشبعا الفن قتلا
نحن في عالم الحياة غريبا
ن، فيا بئس أهلها اليوم أهلا!
الذروة
ضجرى زلتي وزهدي مربأ
وهدى أرتجيه أو أتفيأ
يا إلهي! دنياي حسن بلا ح
د، إذا ما عرفت حسنك ملجأ
كم نقدنا ونحن في الجهل حيرى
لا نرى الحق وهو أسنى وأضوأ
ما اندمجنا وما انطوينا على الرو
ح، فلم ندرك الخلود المهيأ
حسنك الحر ماثل لنفوس
قد تناهت إليك نشوى لتهدأ
في انسجام يستشرف الحب في الكو
ن عميما ونابضا يتلالأ
ما صلاتي إلا خشوعي لنجوا
ك وإفناء زلة تتهيأ
مستمدا من عقلي الباطن العل
م بما في الوجود عقبى ومنشأ
نبع إلهامك الذي يتناهى
لمحيط الألوهة المستمرأ
فإذا بي من روحك الخالد السا
مي قريب ومن فيوضك أملأ
عرفت عندها مثالي نفسي
ومثال الإنسان روحا ومبدأ
وحياة الآباد حتى كأني
ذروة الكون مشرفا أتبوأ!
ربيع الأدب (ألقيت في حفلة تكريم الدكتور زكي مبارك بمسرح ألهمبرا بالقاهرة يوم الأحد 29 أبريل سنة 1934.)
شدا أدب الربيع بكل لحن
تشربه الحبيب من الحبيب
فهل لي أن أساهم في نشيد
يزف إلى العصامي الأديب؟
لقد جمع الوداد لنا قلوبا
كما جمع الربيع من القلوب! •••
أخي في حبك الأدب المعلى
جهودك أنت تغني عن خطيب
لها عبق الأصالة وهي بكر
حصان لا تخاف من الرقيب
تحدتنا ملاحتها وسادت
بروح من تكبرها الأريب
تنافح عن محاسنها وتأبى
معاندة المكابر والحسيب
يجاذبها جمال الريف طورا
وكم في الريف من حسن وطيب
وآنا روعة الأسفار فيما
يزينه التغرب للغريب
وحينا آية العصر الخوالي
يلوح بها البعيد مع القريب
مفاتن للفنون، وكل فن
يساغ كأنه حلو النسيب
وكم خلف التبسم من عناء
وخلف اللهو من ألم صبيب
جهود كلها قربان مجد
ونعم المجد بالجهد الخضيب
كأنك قد كتبت دماء قلب
فنلت بما بذلت هوى قلوب
فمن هذا الذي يغضي جفاء
لما أبدعت من أثر حبيب؟
ومن ينسى كفاحك يا أبي
لمصر بذلك اليوم العصيب
22
ومصر تنوء بالجهل المسجي
لها، وتنوء بالظلم العجيب؟
كفاحك للتنور في عذاب
كفاحك للتحرر في لهيب!
فزكتك المعارك وهي كثر
وحسب الفتح تزكية الخطوب
وحسب الجيل أنك من بنيه
لنمدحه على رغم الذنوب
كأنا إذ نكرم فيك فضلا
نكرم منجب
23
الرجل النجيب
فعش رجل المآثر في زمان
مريض عق إحسان الطبيب
فمثلك من يعزينا ويحيي
خصيب الفضل في الوادي الخصيب
أوزيريس والتابوت
كأن «ست» الخئون وقد تمنى
ممات أخيه رغم حمى الألوهه
زعيم منه قد عرف التجني
أصيلا في الألوهة والأنام
وأن العدل في الدنيا طريد
طريد في حمى الذمم النزيهه
وأن الكون يملؤه ضباب
فضل الخلق في مثل الزحام
وهاموا في اصطدام واصطدام! •••
أعد له مخادعة عجيبا
هو التابوت في ملهى لديه
وقال: وهبته لمن اصطفاه
إذا ما لاءم التابوت حجمه
فخودع «أوزيريس» من احتفاء
وعند رقاده قفلوا عليه
24
وألقوه بمجرى «النيل» غدرا
فمات، وقدس التيار جسمه
وقدس ماؤه فهوى وضمه! •••
تأمله المعزز والمضحى
ودنيا المجد تخدعه خداعا
وهاتيك المراوح والجواري
وهاتيك الكئوس وحاملوها
وناظرة النجوم وكل رسم
يطل عليه أو يثب ابتداعا
برهبة لحظة كالحظ حيرى
ويأبى أن يحرر خالقوها
فقد خلق «الممات» بها ذووها!
الكون الهاتف (مهداة إلى أديب الطبيعة الصديق مصطفى عبد اللطيف السحرتي.)
سماعا! فهذا الكون بالحب هاتف
وكم فيه مسحور أسير وطائف
سماعا! سماعا! وانفض الهم والشجى
وعمرا مضى، فالهم كالعمر زائف
وجمع بهذا اللحن نفسا شتيتة
وجدد وجازف، فالحياة تجازف! •••
يمامة صبحي المستعز بنوره
كلانا مصيخ للتحية عارف
كذا فليكن شدو الغرام مرجعا
مديدا كما يشكو المحبة تالف
فعن أي دهر سالف فيك حرقة
وأي غرام غائب عنك عازف؟
سمعتك حتى كان لحنك كالصدى
من الزمن المفقود أحياه خاطف!
أتى والربيع الطفل حتى كأنما
تغذى به وهو الجنين المشارف
25
فجاء لنا كاللحن سحرا وروعة
فمهما نصفه لا يف الوصف واصف
تقدس حتى ما أكاد أظنه
أمامي، وحتى ما تحساه راشف
وأنسيت نفسي في اندماجي بنوره
وأطيافه، والنور كالطيف واجف
لقد ملكتها رعشة من حبورها
وماج بها جو من الحب عاصف
فأغمضت عيني في ذهول ونشوة
كأني بهذا الحلم راض وآسف! •••
ويا ملعبا
26
تأبى العصافير غيره
وكل بأسرار الطبيعة عازف
أعندك للهفان سلوى جديدة ؟
فعندك ترجى بل تنال العوارف
سواء تقمصت الحياة التي خلت
أم الزمن الآتي وفيه الطرائف
فإنك للآباد أشجى رموزها
وخلف أغانيها قرون هواتف
وأغمض عيني والأزاهر شعلة
أمامي كأني قبل صيفي صائف
فأستروح اللذات في غمضة المنى
وألقى فصول العام فيما أشارف!
إيزيس والطفل الأمير (لما غدر ست
Set
بأخيه أوزيريس
Osiris
ودفنه حيا في التابوت أمر بإلقاء التابوت في النيل، فحمله التيار إلى أن بلغ شاطئ ببلوس
Byblos
فاستوعبه جذع شجرة. وقد أعجب ملك ذلك القطر بتلك الشجرة الرائعة الجمال فقطعها واتخذ من جذعها عمودا من أعمدة قصره، وهكذا بقي تابوت أوزيريس دفينا في أحد عمد القصر الملكي في ببلوس. وحزنت إيزيس حزنا مبرحا على فقد أخيها وزوجها أوزيريس وشردت باحثة عن تابوته إلى أن بلغت ببلوس، وثمة استراحت إلى جانب نافورة، فرأتها وصيفات الملكة وتحدثن إليها، فكلمتهن بلطف ساحر وعطرتهن أنفاسها، حتى إذا عدن إلى الملكة دهشت لما فاح من عطرهن العجيب، فحدثنها عن هذه الحسناء الغريبة التي وفدت على المدينة. وقد أدى هذا بالملكة إلى دعوتها إلى قصرها حيث اختيرت مربية لأحد الأطفال الأمراء، وكان هذا الطفل يتغذى بمجرد مص إصبعها نظرا لقوتها الإلهية الخارقة ... وفي الأبيات الآتية تصوير للموقف المرسوم في اللوحة الملونة من ريشة إفلين بول
Evelyn Paul .)
هل ترى «إيزيس» والطفل الأمير
في حماها كشذا الزهر النضير؟
حملته وهو في اطمئنانه
كقرار الحب في طهر الضمير
نشوة الصبح على هندامها
وانكسار النور في القلب الكسير
يلمح الحزن على وجنتها
لمحة الأسر على وجه الأسير
والجواري رانيات حولها
كزهور في صلاة حول نور
ومعاني الملك في ألوانها
زاهيات وأفاويح العطور
كل لون رائع من ملبس
ونقوش هو لون من شعور
كل عطر ذائع إلهامه
شائع كالفن في رسم القدير
وقفت في حسرة من غربة
غربة التشريد والثكل الخطير
في حنان لاذع إن شابه
ذلك الحزن فنور من سعير
قدمت «ببلوس» تبغي زوجها
في خفي النعش بالقصر الكبير
وارتضت في القصر تغدو مرضعا
ترضع الرحمة للطفل الأمير
ترضع الرحمة من إصبعها
وتذيق الحب في الوجد الطهور
وتضحي في ارتقاب وأسى
تضحيات الشمس عن قتلى الدهور
وكأن العبد إذ يرنو إلى
نورها كالليل في الحلم الأخير
صورة اللوعة في عصر له
حرمة الفن ومرآة العصور!
إلى ناجي الشاعر (لمناسبة تحية صدور ديوانه «وراء الغمام».)
تغنى بهذا الشعر قبل وجودنا
وفي بدء خلق الكون شاعره الأسمى
فصرنا نرى فيه نشيد ألوهة
ونلمح فيه روح آياته العظمى
مفاتن سحر العبقرية بعضها
فماذا وراء العبقرية لا يسمى؟!
حبيبة قلبي: كلما ذاق ظامئا
سلافتها يستصغر الروح والجسما
يرى أنه معنى سوى ما أحسه
ولكنه معنى شأي الحدس والفهما
كأني يتيم إن حرمتك شاعرا
وفي صحبتي إياك لا أعرف اليتما
كأني غريب في وجود معذب
وعندك ألقى عالم الحب والنعمى
عواطف تزري بالزمان، وعمرها
هو الكون: لا ندري لغايته علما
لئن عد حبي من جنون ونشوة
فللفن حمى لن تقاس بها الحمى!
عبد الجمال
ما لي وللأحلام ما لي
وأنا المعذب بالخيال؟!
عبد الجمال وما أرى
عبدا سوى عبد الجمال
فكأنني رهن القرو
ن الزاخرات بكل غال
متلهف متطلع
بين التوجس والسؤال
أتصيد الخطرات من
دنيا الغرائب والمحال
وفؤادي الظمآن يخ
فق بالحنين وبالضلال
يهفو إلى خافي الجما
من الأشعة والظلال
فكأنه طير حبي
س حن للوطن الموالي
وطن الجمال بلا حدو
د في نماذجه الغوالي
فيراه بالطبع الأصي
ل وحيث لم يخطر ببال
حتى لتبكيه المنا
زل من عناء والمعالي
جاب الوجود بأسره
بين افتتان وابتهال
وكأن كل جماله
وهم من الإحسان خال
أو أنه روح الدلا
ل يضيع في نغم الدلال
فإذا الممتع كالمعذ
ب والوصال كلا وصال!
إيزيس تغادر ببلوس (كانت إيزيس ترضع بأصبعها الطفل الأمير أثناء قيامها بتربيته بالقصر الملكي في ببلوس. وكان من عادتها كل ليلة - حينما يذهب الجميع إلى مضاجعهم - أن تجمع كتل الخشب وتشعل النيران ثم تلقي بالطفل وسطها، وإذ ذاك تتحول إيزيس إلى سنونو وتزقزق في لوعة راثية زوجها الفقيد، وقد نقلت وصيفات الملكة إليها إشاعات هذه الوقائع الغريبة ، فصممت الملكة على مراقبة مربية ابنها لترى مبلغ هذه الإشاعات من الصحة، وعلى ذلك اختبأت الملكة في البهو الكبير حتى إذا أقبل الليل جاءت إيزيس والطفل الأمير وفعلت إيزيس ما نقل عنها للملكة، وحينئذ هرعت الملكة إلى الطفل صارخة وأنقذته من اللهيب، فما كان من إيزيس إلا أن وبختها بعنف قائلة لها: إنها بصنيعها هذا قد حرمت طفلها الأمير حظ الخلود! وثمة أعلنت إيزيس عن شخصيتها وتمنت على الملكة أن تعطيها العمود الشجري الحاوي تابوت زوجها وجثمانه في القصر الملكي، فأجيبت إيزيس إلى طلبها واستخرجت هذا التابوت وعادت به إلى مصر. وبقي العمود الشجري الذي كان يحتويه مقدسا في ببلوس. واللوحة الفنية تمثلها في بدء عودتها إلى مصر.) (فوق العباب) إيزيس تغادر ببلوس.
في وفاء الحب والحزن الجميل
أشرقت «إيزيس» كالبدر العليل
وعليها الشف في ظلمته
ظلمة الأحزان للحب القتيل
نزلت باسطة ساعدها
بسطة الإيمان والصبر الجميل
وكأن الجسر إذ يحملها
بعد طول اليأس جسر المستحيل
نزلت والمركب الراني لها
عاشق يستلهم الحسن النبيل
يحمل التابوت قد كلله
زهر اللوتس في حرص البخيل
كلها تهفو إليها مثلما
قد هفت في نشوة الفجر البليل
وكأن اللوتس الصبار من
يحمل التابوت في صبر طويل! •••
وقف الجند وفي طلعتهم
أسرة الملك يحيون سناها
حيرتهم روعة من حسنها
خفضت إذ رفعت تلك الجباها
وتراءى صدرها العريان في
صورة الرحمة غذاها أساها
مشهد اللوعة والحب كما
يتراءى الوجد والحب إلها
جمع الموت وفيا - بعد ما
غدر الموت - هواه وهواها
كم قلوب خفقت في خفقها
ودموع لم تكن دمع سواها
وشجى للبحر في أمواجه
وكأن البحر أشجاه شجاها
تصرخ اللوعة في كل الذي
حولها، لكنما الصمت صداها!
على قبر المثال مختار (ألقيت في اجتماع الفنانين على قبره يوم 10 مايو سنة 1934.)
مختار! يا ابن الفن، والفن
حى على الآباد خلاق
هل خانه أم خانك الزمن
فلقيت حتفك بين من لاقوا؟!
جئنا نحج إليك في لهف
نحن الذين نعيش للفن
جئنا وكل غير معترف
بالموت أو بالناس والزمن !
أيضم هذا القبر معجزة
للعبقرية بين أرماس؟
حاشا! فأنت تعيش أخيلة
في عالم الإبداع لا الناس
في عالم نحن خلقناه
بالحب والإيمان والذهن
الكون رمز أنت معناه
لا شيء غير العالم الفني!
يا قبر لست سوى الشهيد على
دنيا الأسى، دنيا العداوات
يا ملجأ يثب الغريق إلى
مأواه من أحياء أموات!
بحر الفناء هو الذي نحيا
فيه بأجسام من العدم
أمواجه أحداث من نشقى
بخداعهم، والموت في الألم
آويت جثمانا لذي خطر
غاب الضحية بين من جهلوا
كم أنت ذا عبر لمعتبر
لكن تولى العقل والأمل!
غرقا كما غرقت عواطفنا
في هذه الأمواج والتيه
ما الناس؟ كم منهم متالفنا
في كل حرمان وتسفيه!
يا قبر! قد أودعت مفخرة
لكنها بعض من الكل
ما مات من نلقاه مأثرة
في هذه الأنوار والظل!
مختار! هذي الأرض حافلة
27
إن كان جسمك مات مغبونا
أمم على أمم مقاتلة
فيها، فساوى الحي مدفونا
جئنا إلى مثوى رفاتك، لا
مثواك أنت فلست محدودا
مثل الأثير تعيش منتقلا
صورا، وتحيا الدهر مشهودا
يا ليت بين الجمع فاتنة
لتصوغ فيك الشعر والحبا
قد كنت في دنياك عاطفة
وخلقت قلبا عاشقا قلبا
تلك النماذج كلها فتن
وتفنن لمليحة الوادي
ما بالنا قد صدنا شجن
عنها، وأين جمالها الهادي؟
خلدتها أضعاف ما خلدت
بجمالها، يا ليتها تدري!
يا ليتها وافت هنا وشدت
شعرا لها، لا اليأس في شعري!
مختار! هذا الصخر نشهده
صورا من الإعجاز في المعنى
يا ناحتا ما بات يعبده
شانيك، مثلك ليس من يفنى!
لذة الهدوء
لم أدرها في حياتي لذة أبدا
كأنما في هدوئي غاية الأجل!
أعارك الدهر من يوم ولدت به
فلست أذكر إلا الجهد في عملي
حتى الطفولة أعداء أحاربها
من السقام
28
وحتى الوهم في أملي
أنا الكدود المعاني غير متهم
إلا لدى رجل ما كان بالرجل!
سخرت من بيئتي والعزم يحفزني
فوق الصعاب إزاء المطلب الجلل
وقد تمرست بالآفات أرضخها
بالصبر والحزم لا بالختل والحيل
حتى تركت خصيمي يائسا وجلا
من همة إن شكت لم تشك من وجل
أوتيت من قوة في النفس غالبة
ما صغر الدهر في لهوي وفي جدلي
وقد صبرت على الأحداث مضطلعا
بالخطب، حتى كأن الخطب يبسم لي!
أقولها قولة في الحق صائبة
لمن يظلون في جهل وفي خبل:
مهما صنعتم فما الأحداث بالغة
مني وما صدمات الغدر من شغلي
وإن لي ثقة شماء صارمة
بغايتي من حياة النفع لا العلل
فليس يخضد من عزمي، ولا تلفي
وليس يبليه موتي لو هواي بلي
فإن روحي معنى لا حدود له
يغزو السحاب ويعدو قمة الجبل
ويترك اليأس فيمن أحكموا تلفي
وقد خلعت عليهم رحمة البطل!
الوحدة
وحدة تفجع النفوس الحزينه
حيث يبقى الحزين يرعى حنينه
لم تطقها فوسدت رأسها العا
ني وأخفت عيونها المسكينه
وبكت والبكاء هذا دماء
لجراح المنى الغوالي الثخينه
وارتمت دون ملبس غير هم
يجعل النفس عنده كالسجينه
رقدت في شجى وليست تبالي
راحة الجسم أو تبالي أنينه
مثل ما بعثرت رسائل حب
بعثرت قربها الدموع الثمينه
كلها ذكريات ماض عزيز
قتلتها يد الشجون الدفينه
والضياء الذي يفيض عليها
كضياء الممات جم السكينه
والجمال الذي يعاني غبينا
هو كفارة لدنيا غبينه
هو يشقى لنا، وأنفسنا الله
فى بما قد جنت عليه رهينه
نتملاه في الحياة وفي الرس
م، كأنا نئن صدقا أنينه
ليت أنا نطارد الوحدة الكب
رى ونقصى عن الهموم جبينه
كل نفس تطيب في لوعة الحس
ن فليست إذن عليه أمينه! •••
كل هم يهون في الدهر إلا
وحدة تسحق الأماني الكمينه
وأمض الشجى عذاب دفين
للجمال الذي نقدس دينه
وأشق الأسى أسى الفن وال
فنان في لوعة المعاني المهينه!
الجنة الأرضية
جنة للخيال في كنف الدو
ح حبتها السماء بالحسن شتى
فوق دنيا القبور تزخر بالوح
ي وبالحب قد أبى الموت موتا
شخص الملهمون نحو ذراها
وإليها يحج موتى وموتى
والسراب الرقراق يزجي إليها
أتقياء الأنام من كل مأتى
سيجت بالملائك الزهر والزهر
وبالحلم لا يرى الصمت صمتا
خلقتها الأوهام لكنها عاشت على
الدهر، وهو قد عاش ميتا! •••
جنة تملأ الأنوثة معنا
ها فيبدو النعيم ذاك المعنى
سكنت في الجمال والناس صرعا
ها، وعادت لهم ثوابا وفنا
في نظيم من النماذج حال
كمعين غمر يشوق العينا
وثياب نقية من بياض
وكأن الضياء فيها استكنا
وجسوم رشيقة في حنان
كالأماني إذا تحررن عنا
جنة كلها عجيب ولكن
كل ما أبدعته عنا ومنا
29
الحسن المشتعل
إذا اشتعل الحسن أردى الحياة
ولم تغتنم منه آثاره
كما عاش في ناره «المشتري»
وعاشت تناجيه أقماره
وفي الأرض من قبل خلق الأنام
جمال تحاربنا ناره
نحوم عليه فنفني الرجاء
ويحيا الجمال وأشعاره!
منطقة الخطر!
حبيب إلينا عقاب الجمال
ففي قربه يستطاب الخطر
30
ولو أننا قد لقينا الممات
فبعض الممات ممات القمر
تبعثر أفئدة حوله
كما بعثر الحب ملء الشرر
تموت ولكنها لا تموت
فإن الجمال ضمين العمر!
عمر الأرض
ثلاثة آلاف الملايين
31
لم تكن
بعمرك بل يا أرض عمرك وجداني
لقد كان من قبل الثرى فيك ماثلا
وقد جاء من كون كأصلك نوراني
ولم يرض إلا أن يكون محررا
عن الشمس في معنى كحسنك فتان
فما زال حتى جانب الشمس معلنا
وجودك في رسم كرسمك فنان
وغنى بشعر الحب والفكر مثلما
تغنيت في هذا الفضاء لكيوان
32
الإشعاع
وما زلت رغم الشيب بالحب خافقا
فؤادي، وهل لي أن ألوم فؤادي؟
ينوء من الإشعاع للحسن مثلما
ينوء بسر للملاحة عادي
33
وكم ضغط الإشعاع
34
ضغط مسود
وأسرف حتى في حياة جماد
فكيف ألوم القلب والقلب بضعة
من الحسن، أو أنسى وجود فؤادي؟
النظام الشمسي
أي شمس تلك التي هدت الشم
س فأحيت شمسين في معنيين؟
35
هربت بعد جرمها فإذا الجر
م حياة تموج في بيئتين:
بيئة الشمس جدة الخلق في المن
شأ في نورها النضارى اللجين
وسواها من نسلها وهي كالشم
س وإن أطفئت على غير غبن
قسمت للجمال تقسيم إنصا
ف وحسن منوع مطمئن؟ •••
أي شمس تلك التي هدت الشم
س فأحيت شمسين في معنيين
غير روح عزيزة كنتها أن
ت، ولكن رجعت إلهام فن؟!
ندرة للوجود هذي وإعجا
ز إله بكوننا مفتن
كل سيارة من الشمس أحلا
م جمال بقلبها مستكن
غير أن الأرض الفقيرة أغنا
ها وقد عدت بعد طول التمني
فجعلت الحياة معنى جديدا
وجعلت الوجود هذا المغني!
الطاووس
فدى لعينيك ما تهواه عينان
من الملاحة في ذا العالم الفاني
فدى لصدرك ملء العين زرقته
وحي السماء بأصباغ وألوان
فدى لريشك ما في الزهر من ملح
عند الربيع وما في نقش فنان
فدي لقنزعة زانتك فتنتها
ما للمفاتن في ترصيع تيجان
فدى لرعشتك الخلاب منظرها
من رعشة الحور أحلامي وإيماني
فدى لما أنت باسم الفن تعلنه
من عالم الزهو في ذيل وأردان! •••
يا جائلا مارحا لكن على شمم
وعزة قلما تلفى لإنسان
وفي رشاقة فنان على قلق
جم التعابير في محسود إتقان
تعال! إني أنا الراجيك في شغف
بما تمثله من روح هيمان
فيك الهوى جائش والذيل منتفض
والنور يسقط منه فوق بستان
وفاخر الريش كنز لا تنافسه
كنوز «كسرى» ولا دنيا «سليمان»
والشمس بين تعلات تغازله
وضوءها بين حيران ونشوان
وأنت تختال دوارا وتعجزنا
في نبلك الفذ عن وصف وقربان
تعال! يا جامعا دنيا منوعة
من كل معنى غريب السحر محسان
تعال أنت إلى صدري! فإن به
إلى الفنون حنانا فوق تحناني
إلى الطبيعة في ما أنت تحجبه
وأنت تعلنه في غير إعلان
كأنما كل ما تبديه من عجب
شتى الرموز بدت من عالم ثاني
إنا رعاياك! أهل الفن مذ خلقوا
لم يعرفوا غيره معنى لأوطان
ومجتى مهجة الفنان إن شخصت
إليك تشخص إلى إحسان ديان
عبد الله الأنصاري (رثاء أستاذ من أساتذتي الذين غذوني بحب الأدب العربي وقد تلوتها على قبره في يوم الجمعة 8 يونيو سنة 1934م.)
أيها الراحل عنا في غنى
عن وداع، وقفة ترضي الوداعا
نحن أهلوك جميعا، كلنا
يعرف الحزن دفينا ومشاعا
لم نودع فيك إنسانا مضى
بل دفنا العلم والفن الصناعا
أنا بعض منك في إلهامه
فلتدعني أنظم الحزن ابتداعا
أنت ممن أظمئوني أدبا
بينما الناس يردون الخداعا
متعة الروح التي قد آمنت
بك لا متعة من يرضي السماعا
فوق موج الدهر تمضي باحثا
مثل من ولوا ومن جاءوا تباعا
إن يخنك الدهر والناس معا
فلقد ريعوا وتأبى أن تراعا
كنت معنى للتسامي ذائعا
كالأثير الحر ملء الكون ذاعا
كم تتبعنا مراميك التي
ألهمتنا المجد خلقا واتباعا
علمتنا الفن حبا وغنى
فاقتبسنا الفن روحا وشعاعا
وجعلنا الأرض أسمى منزلا
وأبينا أن نراها تتداعى
وعرفنا «الذوق» شعرا صافيا
كم ترنحنا به ساعا فساعا
إيه أستاذي الذي قدسته
قدر ما أرهقني النعي التياعا
علم الله فؤادي ثاكل
رب ثكل لم يكن إلا التماعا
ونظيمي ليس إلا حرقي
رب نور كان للنار قناعا
من معيدي لزمان كنت لي
فيه عما وأخا برا وباعا
معجبا تزهو بما أنظمه
وتراعي منه لحنا لا يراعى
وأنا تلميذك الوافي الذي
يجمع الحسن الذي تاه وضاعا؟
من معيدي؟ آه من دنيا الأسى!
هيأت لي الآن والموت اجتماعا
فتلاقينا على قبرك في
مأتم ضاق عن الحزن اتساعا
وتعثرت بشجو لم يكن
في اتزان غير ما كان اندفاعا
فأنا الآن بكلي لوعة
تسكب الشعر دماعا ودماعا
وأنا الراثيك أرثي مهجتي
وزمانا كنت لي الخل المطاعا
وأنا الباكيك أبكي صادقا
هذه الدنيا كما أبكي اليراعا!
في المحكمة الشرعية
يا ليتني في فضولي لم أطع قدمي!
يا ليتني! كما أعاني الآن من ألمي
إن أنس لن أنس سوقا لا تباع بها
غير الكرامات والأخلاق والذمم
حيث النساء ضحايا في جوانبها
وفي مسالكها في ذلة الرمم
حيث السماسرة المرهوب جانبهم
ما بين بائسة تدمى ومتهم
يضاعفون من الويلات أسقمها
ويؤجرون على الويلات والسقم
في كل ركن صراخ لا مثيل له
وفي التراب عزيز الوعد والقسم
وكل طفل يتيم دون ميتمة
لكنه في شقاء صورة اليتم
وللذباب ألاعيب منوعة
عليه لا ينتهي منها إلى سأم
والخبز غطته دون الأدم أتربة
كأنما هي ألوان من الأدم
والمرضعات بأثداء مجعدة
من سورة الجوع والأحزان والألم
دار العويل ودار المشجيات، وما
أقسى العويل بدار العدل في الظلم
ممن يطالبن بالقوت الضئيل وما
ينلن إلا صنوف اللوم والتهم
يلحن أشباه أشباح مكفنة
وكل ران إلى أكفانهن عمي
وينتهين إلى ظلم على ظلم
يا أمة لم تزل من أعرق الأمم!
الهواجس
تداعبنا الهواجس كل حين
كأن لها من الهرمون
36
داع
خفايا النفس أغرب في خفاء
من الغدد السجينة في ابتداع
تحكم في الجسوم وهن أسرى
وتحكم في الدوافع والدواعي
وتلك هواجس الأحلام فينا
لها الأثر العميق على الطباع •••
لقد عابوا خيال الشعر حتى
تمادى في الملامة كل ناعي
فهل علموا نفوس ذويه قبلا
وهن مع النجوم على اندفاع
وهل فهموا خواطرهم بعهد
تولتها الأشعة بالرضاع
وهل عرفوا أمانيهم وفيها
أواهل ذلك الرحب المضاع
37
غدا هذا الخيال الحر روحا
كروح الكون والحق المشاع
فألهم كل ذهن عبقري
ومزق ما تكاثف من قناع
ولولا ذلك الإلهام ماتت
عزائم للحياة بلا انتفاع
فما كان الخيال سوى سبيل
إلى الفن السماوي الصناع
يمهد لابتداع وابتداع
وليس خداعه مثل الخداع
ويكشف عن خفايا الكون حتى
لتظهر للعيان وللسماع!
وراء الغمام (ألقاها الممثل الفنان إبراهيم الجزار في حفلة تكريم الدكتور إبراهيم ناجي يوم الجمعة 15 يونيو سنة 1934م لمناسبة صدور ديوانه «وراء الغمام».)
ناجي! تناجيك الحياة بسرها
فتبوح أنت بسرها أشعارا
ما سرها إلا الجمال مع الهوى
فتلاقيا فيما نظمت وثارا
يا شاعر اللهفات فجر دمعه
وزفيره حتى تدفق نارا
ما كنت إلا للحياة مجاريا
فإذا بشعرك كالحياة يجارى
ناجي! يعيب الشائنون وما أرى
إلا السمو بما نظمت شعارا
ملأت عواطفك الوجود فأطلعت
أصداؤها الأضواء والأزهارا
دانت بدين الحب وهو إلهنا
لولاه لاصطدم الوجود وبارا
فوهبت للدنيا الحزينة ما اشتهت
بيد العزاء وما اشتهيت مرارا
يا آسي القلب الجريح بجرحه
ومطهرا بدموعه الأطهارا
كم في دموعك قوة علوية
نبع الحياة بها يفيض مثارا
كم في أنينك غضبة قدسية
تحمي الخيار وتزعج الأشرارا
أيعيب شعرك حاسد بأصالة
وسواك يمدح إن أعاد معارا؟
هيهات! والدنيا تفيض محبة
وصدى لحبك ساحرا جبارا
هيهات ! ما هذي الأزاهر كلها
إلا الغرام مصورا أنوارا
ما هذه الأجرام في دورانها
إلا الغرام الخالق السحارا
ما كل ما في عيشنا وخيالنا
إلاه منتظما لنا قهارا
وأراك أنت رسوله وحبيبه
تستأسر الأفلاك والأطيارا
جمعت مواهبك المواهب مثلما
جمع الوجود بروحه الأدهارا
فبدت لأحلام الكبير كبيرة
وبدت لأحلام الصغير صغارا •••
ناجي! همومك كالغمام تراكمت
وسناك من خلف الغمام توارى
فبعثت شعرك كالسهام رشيقة
والبرق يلمع أثرها مدرارا
وجذبتنا جذب الحبيب حبيبه
فتناجيا وتساقيا الأشعارا
وتناسيا الدنيا وما في أهلها
من عابثين وماكرين حيارى
ظنوا الجنون بنا وليس سواهمو
أهل الجنون، فإن أبوا فسكارى!
إنا لنكبر فيك أنفس ما نعي
في الكون حين تفوتنا إكبارا
قران الزعيم (تهنئة ودية أرسلها صاحب الديوان يوم 13 يونيو سنة 1934م إلى الزعيم الأكبر صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا.)
تهنيك الزعامة في قران
وكم من فرحة حول الزعيم
وحسبي حين أزجي تهنئاتي
هواي يزف للعم الحميم
عرفت له المكارم في زمان
عريق اللؤم داس على الكريم
فعاش مبرءا من كل ذام
إذا الدنيا تغنت بالذميم
تهاوى الحاكمون وأنت باق
على شرف بمنهجك الحكيم
لمصر تعيش مفديا تفدي
عظائمها بإيثار العظيم
وكم في مصر من علم عليم
وليس على الشدائد بالعليم
تناسى الشعب حين بقيت فردا
تراعيه بإيمان الرحيم
ففرحته بعرسك في وفاء
كسكر الروض بالطل العميم
مدحتك قبل
38
ثم أعيد مدحي
بأنفاس من الود الصميم
وقد وزن الرجال حجاي حتى
غدا حكمي يقدسه غريمي
فلست بمن يجرح لي شعور
ولا حكم لإيماني السليم
وعندك من ألوف النحل عني
صدى حي
39
لتكريم الزعيم
أحلام الظلام
ولما حان توديعي ولاحت
على النور الموشى بالظلام
تحف بنا الرياحين اللواتي
ترف من ابتسام لابتسام
ويحجبنا السكون بلا حجاب
ويفضحنا الحنين على احتشام
وقفت كوقفة الدنيا إذا ما
أطاح بها السلام إلى الحمام
وما هي غير لحظة مستعز
ولكن قلبه دام ودام
ويجري النور في لون عجيب
على وجناتنا جري المدام
فنسكر في صموت اليأس حتى
كأن اليأس من سكر الغرام
ويغلبها الحياء وفيه معنى
حفي بالتواضع والتسامي
فأرقبها على لهف كأني
أطبب بالسهام من السهام
وأشرب حسرتي الكبرى دواء
وإن كان الدواء من الضرام
وهل غير العذاب شفاء روحي
أنا العاني بلا أمل أمامي؟
وقفنا لحظة هي كل عيشي
وموتي في السلام بلا سلام
ففرقنا الزمان بلا وداع
سوى اللهفات أشربها هيامي
كأن تناسي التوديع أولى
بدنيا الهم يا دنيا الأنام!
الأشعة الكونية (مهداة إلى الصديق فؤاد صروف محرر المقتطف وصاحب كتاب فتوحات العلم الحديث.)
من أين مصدرك الكريم الباني
يا مأمل الأحياء والإنسان؟
من أين طاقتك التي لا تنتهي؟
من أين حين الكون فان فان؟
أترى الحقائق كالرموز فليس في
معنى الفناء سوى الوجود الثاني؟
أمن الخواء أتيت منح عناصر
تبنى فكنت لها شهود عيان؟
أم من فناء الأيدرجين محولا
فيعود في النترون ذاك الباني؟
أم من صميم الشمس بنت كهارب
صدمت بذرات الهواء الجاني؟
وتحيط بالأرض الحنون كأنها
رسل جزين حنانها بحنان
وفدت من الأم التي في بعدها
لم تنسها أبدا مدى الأزمان
أعجزت آيات الأشعة قوة
وسخرت من رأي ومن برهان
وطفقت جائلة كروح حرة
هي فوق أرواح الورى والجان
ذخر الملايين السنين وربما
حملت طيوف مشاعر ومعان! •••
من أين مصدرك الكريم الباني
يا مأمل الأحياء والإنسان؟
من نفح خلاق الحياة فروحه
روح الحياة وشعلة الإيمان
ليست رحاب الكون غير رحابه
والكون غير فتونه الفنان
جعل التفجر مبدأ لفنونه
كتفجر الأطياف بالألوان
فإذا انبثاق الكون يوم أول
وإذا المجرة منه يوم ثاني
وإذا نظام الشمس يوم ثالث
خلقته صدفة ساحر فتان
وإذا الحياة قصيدة علوية
من هذه الأيام والأوزان
وإذا خيال الشعر يلهم وحده
معناك بل معنى الخلود الساني
وإذا العزاء لنا وجودك بينما
لولاك لم تغن الوجود أماني!
وحي الصحراء (مهداة إلى الدكتور أبو شادي محرر أبولو.)
شعري تألق للطبيب الشادي
فنشيده مجد له إنشادي
إن الينابيع التي فاضت بما
أشجاه من شعر يذيب فؤادي
قد ألهمت روحي العزيز من المنى
فأبيت إلا أن أطيع عنادي
وطفقت حيرى - والمعاني جمة -
فيمن أسلمه زمام قيادي
فإذا إله الشعر يهبط هاتفا:
هيا إلى السحر الجميل الشادي!
ووجدت في الصحراء رجع مشاعري
بغموضها، ومن الغموض البادي
والرمل منبسط إلى أن يلتقي
بالأفق بين تهلل وتهادي
والشمس تبكي لوعة وكأنها
محزونة لفراق هذا الوادي
والأرض تشجي والنسائم حلوة
تهدي السلام لرائح ولغاد
وتقول: يا من بالجديد ترنموا
هلا ذكرتم لي قديم ودادي؟
والآن والأفق البعيد قد انبرى
يرنو إلي بقسوة النقاد
أرسلت من قلبي تحية من رأت
هذي الطبيعة عزة الزهاد
وتصوفت في عالم لا ينتهي
حتى على الآباد والآباد!
حكمت ش ... «الآنسة حكمت شبارة» (مهداة إلى الآنسة الشاعرة حكمت شبارة.)
إلى العزيزة «حكمت ش ...»
أهدي تحية إعجابي
الفن عندك غير غبين
فالفن حلية أرباب
أهديت لي وحي الصحراء
وهو الحياة لأحلامي
يظما بنجواه الشعراء
وبه ارتوى روحي الظامي
دنيا من الفن الفتان
بين العبوسة والبشر
تستأسر الحر الفنان
بالسحر في أثر السحر
دنيا تقلبها يوحي
للشعر ألوانا شتى
جريحها غير جريح
وميتها غير الموتى!
رسمتها لي لوعات
من ذلك الشفق المخضوب
والأرض بين سعادات
منها وبين دماء قلوب
وفتني يا من بهرت
بشعرها الحي الوضاء
دنيا التصوف ما سحرت
إلا خيالك والصحراء
أما أنا فعلى فقري
باق وفي عجزي أمضي
من لي بروحك في شعري
حتى أبين عن الأرض؟!
الجواهر المجنحة (وحي دراسة عن الحشرات والطيور الزاهية.)
أغنيت هذا الجو مثل العباد
من كل لون عسجدي منير
أغنيته بالطيش قبل الرشاد
في عالم الحب الشرود الغرير
ما هذه الأصباغ يا طائرات؟
يا راشفات الشهد! يا ساحرات!
هل تلك أحلام المنى الماثلات
للحس، أم تلك رموز الحياة؟
أشباه زهر أو ثمار ترام
ما اخترته من كل رسم حبيب
أوحى «كيوبيد» بها، فالغرام
نلقاه في كل مثال عجيب
نلقاه هرمون
40
الجمال البديع
في ذروة المجد لهذا «الربيع»
قد جاوز الوهم بما يستطيع
وأشعل الجو بسحر منيع
جواهر الحب، ومن روحه
تطير في الجو عزاء الفقير
فتنفح الفنان من نفحه
وتطلق الفن العزيز الأسير!
بلوطو (السيار التاسع الذي تنبأ به الأستاذ برسفال لول الأميركي بحسابه الدقيق وكشف عنه كليد تمبو سنة 1930.)
يا شقيقا لأرضنا كيف أنت؟
خبأتك الشجون حين اختبأت
41
أبعدتك الأقدار في خلقها الدن
يا، ولكن عن شوقها
42
ما بعدت
خفت الضوء والحرارة إلا
لمحات الحنين لما لمحت
قدر العلم وحيها قبل عين
تكشف الغائب المحجب ثبتا
أمك الشمس لم تزل تبعث الن
ور وإن صار أغلب النور ميتا
وكفاها الحنان في ذلك البع
د دليلا على وفاء تأتى
لا أنيس لديك إلا شريد:
قمر يائس رأى البؤس شتى
قد عرفناك، غير أنك في البع
د غريب، وإن تكن أنت أنت
ليت شعري: أنحن في الوهم لا ند
ري وأنت الهنيء بعدا وصمتا
أم ترى أنت في شجون جسام
تبعث النور لوعة ثم موتا؟!
ما وراء المجرة
عوالم لا تحصى ولا هي تعرف
ويا ربما المجهول منها المعرف
تناهت تناهت في الفضاء إلى مدى .
يقصر عنه العالم المتلهف
فما قنصتها بؤرة العلم مرة
وإن لم يفتها الشاعر المتصوف
رأى من وراء الكون آيات غيره
بلحظ من النور الإلهي يخطف
رأى النور أصداء الحياة وصوتها
ومن روحه الجذاب للروح يرشف
مجاميع آلاف النجوم تبعثرت
وهيهات عين الشعر عنهن تطرف
بدت شبه فوضى وهي شتى نظامها
ولكن من الأكوان ما ليس يوصف
نمت في ملايين السنين التي خلت
من الغاز كالأنواء تنمو فتعصف
نمت ونمت بين اتساع حدوده
حدود من الوهم الذي لا يكيف
كأن اتساع الكون فقاعة نمت
ولكنها مهما نمت ليس تتلف
ونخشى ممات الشمس والشمس في غنى
عن الخوف كم تعطي ولا تتخوف
وبحسبها في وقفة وهي لم تزل
على نشوة الجوال بالبحث تكلف
43
تدور كما دارت شموس عديدة
يجاذبها من عالم الغيب ملحف
تقاسمت السدم العديدة حظها
وفي أسرها تزكو وتزهو وتلطف
تشتت هذا الكون حتى فضاؤه
ومن خلفه عقل دقيق ومنصف
كأن رحاب الكون وجدان شاعر
فكل فضاء فيه حي مثقف
وفيها «كونتات»
44
الحياة أجنة
وفيها من الذرات ما لا يؤلف
ولكنما للشعر من لبناتها
عوالم باللحن السماوي تعزف
تخيلها جمعا، وأبدع غيرها
وما زال في إبداعه الحر يسرف!
وحي الراديو
سمعناك سمع الجان في صوت آدم
وقد صارت الأحفاد شيعة جان
تعددت الأوقات والوقت واحد
وكم من فم يحكي بألف لسان
وصغرت الأرض التي طالما أبت
على الناس إسراء بكل زمان
لقد جبتها في طرفة العين
45
فاتحا
ورددت أصداء ببضع ثوان
فمن أي دنيا قد أتى ذلك الصدى
وهل هو والإنسان يلتقيان؟
أوحي غبار الكون ما أنت معلن
وإن كان لم يقرن بأي بيان؟
أم الزمن الماضي يردد نفسه
وأصداء موتاه لوعظ زماني؟
محال محال ضيعة الروح والحجا
لقد سكنا الأمواج مثل معاني
وما ذلك الصوت الجديد بمعجز
إلى جنب ما لم يستبنه جناني
قد اكتظ هذا الجو من كل شارد
ومن كل دان وهو ليس بدان
كأن أحاديث الخليقة ما وعى
فيحجبها عنا حجاب غواني
يخاف عليها من تبذل عالم
دنيء، ويأبى مسها بهوان
كما يشتهي الفنان كل مليحة
تصان لأهل الفن أي صيان
فليس سواهم يفهم الحسن فكرة
ويعبده في رحمة وحنان
أصخنا إلى نجواك غرقى خواطر
وأمواجها تطغى بكل مكان
ومن خلفها أمواج أخرى تكاثفت
تكاثف منسى من الحدثان
ولولاك خلنا الصمت يغمر جونا
وقد بث فيه الصوت بث دخان
ولكنما الألباب شتى كأنها
مسامع شتى الحس والهيمان
46
مخلب الطاووس
في عزة محسودة متبخترا
يمشي كما يمشي الغرام الملهم
طبعت جلالته بلطف جماله
وحماه مخلبه القوي المرغم
فكأنما هو أنت لولا أنه
ما بات يقطر من مخالبه الدم
نهوى أناملك الرشيقة بينما
نخشى أظافرها
47
التي لا ترحم
إن لم تكن تلك الدماء خضابها
فخضابها بفتونها يتضرم!
الأثمار
يا شمس! لا تأسي على نور مضى
النور معبود بكل مكان
ملأ الوجود وإن يكن من جله
ما لا تراه كعهده العينان
سكن المشاعر والعواطف وانتهى
لقرارة الوجدان والإيمان
واستمتعت صور الحياة بشمه
وبطعمه وبلونه الفتان
ما كانت الأثمار غير مثاله
أو كانت الأثمار غير معان
48
فبأي موشور وأية حيلة
جمعت فتون ضيائك الفتان؟!
تتموج الأصباغ في قسماتها
كتموج البلور بالألوان
وأذوقها فأذوق طعم أشعة
خلقت حلاوتها لكل زمان
وأجرب الفن السماوي الذي
جعل الحياة حليفة الدوران
كل المشاعر وحدة لخواطري
متبادلات الحس والعرفان
49
فلي الحياة تضاعفت بفنونها
وبعمقها وبلطفها النوراني
وأعيشها صورا بكل جوارحي
فكأنني أحيا بكون ثان
وأذوق من هذي الثمار مصدقا
وكأنها رسل إلى وجداني
ولقد أطير إليك فوق خواطري
وأعب من ينبوعك المحسان
وأعيش في نور شعاعا صافيا
وأعود في نور وفي نيران!
المريخ ينتظر!
صدفنا عن «القمر» المرتجي
زيارتنا في سهام تطير
وهل كان إلا ابننا في الوجود
يسير مع الأرض أنى تسير؟
فما بال «مريخنا» العبقري
ينادي؟ أم السمع ضل النداء؟
وكم وهم العلماء الكبار
كما وهمت لغة الكهرباء
لقد أصبح العلم شعر الخيال
كما أصبح الشعر نفح العلوم
لقد مزجا بالعجيب المحال
وقد سبحا في مجال النجوم!
الصوفي
الصوفي (من رسم إيمانويل فوجيرات).
ممعن الفكر يشبه الدهر في النظ
رة للعالم الصبي الجديد
حين تلميذه مصيخ إلى النج
وى بروح من الفتون الفريد
ممعن الفكر، مشرق الوجه من ظل
مة ليل لعالم مفقود
ومشير إلى الحقيقة فهي ال
فرد للباحث الحصيف العنيد
وكأن الكتاب تحمل يسرا
ه رموز لا مبحث للوجود
قال ما قال، وهو يمعن إمعا
نا كمن نال رؤية المعبود
وفتاه الصغير يتبع بالخا
طر حلما إلى الكمال البعيد
جمع الحب للحقيقة روحي
ن على الرغم من خلاف شديد
وكأن الفتى بملبسه الأب
يض في حالة التجلي السعيد
وكأن التأمل الصادق السا
حر قربان قلبه الغريد
وكأن الإله في هذه اللح
ظة في مظهر التناجي المجيد
نشر الحب للألوهة نورا
وظلالا فواتنا للقصيد
وكأن الإيجاز أبلغ في الوص
ف، ووحي الأصباغ وحي النشيد
البداية والنهاية
من صميم الضياء، من وهج النو
ر، ومن كهربائه قد خلقنا
شحنة الكهرباء في عالم الذرا
ت سر الحياة مبنى ومعنى
كل شيء لولاه ما كان شيئا
فالضياء الضياء لب الوجود
لبنات الوجود منه، وفيه
يتناهى الفقيد كالمولود
رتقا
50
كانت الحياة، ولكن
وزعت بعد في ألوف الشمائل
فإذا النور واضحا وخفيا
لم يزل سرها بباق وزائل
لم يزل غاية لكل نظام
مثل ما كان للحياة البدايه
صور ما لها انتهاء، وللنو
ر معاني بداية في النهايه
فاعذروا الشاعر الذي قدس النو
ر إذا ما رآه وحيا مقدس
أي شيء سواه نم عن الخا
لق في مثل لطفه أو تلمس؟
فمن النور قد بدأنا، وللنو
ر سنمضي كما بدأنا شعاعا
كل ما في الوجود نور بأموا
ج تناهت دقائقا وابتداعا
السير
لروحي في عزة المستقل
حياة سمت فوق جسمي وعقلي
تخلص من شهوة كم تلح
ومن خطرات الخيال المذل
ومتعني بينما صانني
من القهر: قهر الغرور المضل
فما عشت عبدا لهذي الحياة
وما عفتها بين زهد وشغل
وكيف وقلبي من قلبها
وإن خالفتني بمرأى وشكل؟
توحد روحي بكل الوجود
فروحي منه وفي الروح أصلي
لئن ثرت من ألمي المستبد
فكم ثار خلق «الطبيعة» قبلي
وإن لم أثر فهو طبع العنيد
أعد افتئات المقادير هزلي
وفي مهجتي رحمة لن تغيب
كعفو الحليم لخصم وخل
شملت بها جهل أهل الزمان
فرغم التباين هم بعض أهلي
بيت الأمة
طالت على الحصر السنون
والحصر في شرف يهون
زرناك في تقديسنا
هيهات تمنعه العيون
51
أنصد عنك وأنت أن
ت مباءة الشرف المصون؟
ويباح ما أولى به الهد
م المدمر والمنون؟
يا «مصر» يا أم العظا
ئم! أين ما يرضي «أمون»؟
ثوري بوجه الظلم! ثو
ري! وليكن ثأر القرون «الواجب» الدين المق
دس كيف يجهله البنون؟!
لا خير في أحلامهم
إن كن أحلام السكون
لا خير في دنيا المرا
ح تسف أو دنيا البطون
يا بئس عهد كل ما
فيه جنون في جنون
كم حرقة في طي قل
بي من معاناة الشجون
ما زلت أطلقها وأن
فثها كما تدوي الحصون
لم أستطع كتمانها
إن أستطع غمض الجفون
ما كنت بالجاني على
وطني وإن زعم الخئون
لا بد للشعر الأبي
من القساوة في اللحون
لا بد من تقريع جي
ل مغفل عظم الشئون
نسي الكرامة وانتشى
بين السفاسف والمجون •••
يا «بيت» إن طال الحصا
ر سلمت من ذل وهون
لا شيء حولك ما يس
ر، وخيره شر الظنون
إن كان دينك باقيا
فلقد تراكمت الديون
من ذا يوفي «سعد» ما
حملته للخلد السنون؟
أم مصر (الخطاب موجه إلى صاحبة العصمة صفية هانم زغلول.)
عانيت ما عانيت من إيلام
حين الرجال ضحايا الاستسلام
52
يا أم مصر ويا صفية سعدها
من ذا سواك أحق بالإقدام؟
تكفيك غضبة «مصطفى» أو «مكرم»
صوتا لمصر، فمصر ثأر نامي
هيهات تقبل للهوادة ناعبا
مهما تذق حربا
53
بكل خصام
إن الأخوة ملة محبوبة
أتسيء للوطن الجريح الدامي؟
أسفي! تفرقنا الهواجس هكذا
في زهو مخدوع وطيش غلام
ينسون ماضي الذكريات وما بنى «سعد» على كتفيه للأيام
أو لا، فما معنى الشقاق وقد جنت
مصر الأذى بتعدد الأحزام؟
يا بئست الأحزاب! بئست أينما
وجدت بشعب ذاق حكم لئام!
هيهات ينقذه سوى إقدامه
ورجائه وإبائه البسام
ولديك منبعها السليم، وحسبنا
أن نستقي من ذلك الإلهام
ضريح سعد (وهو الضريح الذي أبت حكومة صدقي باشا أن يخصص لجثمان سعد الطاهر.)
مررت على الضريح فهاج دمعي
فهل سكنت مشاعره الضريحا؟
أحظ المومياء أجل قدرا
و«سعد» أنقذ الوطن الجريحا؟!
مررت على الضريح وكل نفسي
شجون في شجون في شجون
على نوب الخصومات اللواتي
أبحن كرامة الوطن الغبين
مررت على الضريح كأن سمعي
تلقى منه تبشيرا وحبا
كأن غدا تقدم فيه يومي
فبشر مهجة حسرى وقلبا!
في الميدان (الخطاب موجه إلى صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا.) «يا مصطفى»! عش رمز شعبك آبيا
رغم الأذى وتألب الأحزاب
في الغرب ما كان التحزب ضلة
وبمصر نلمحه بكل خراب
ما «الوفد»؟ ليس سوى تجسم فكرة
عليا من الأجداد والأحقاب
روح من الشمم العظيم مخلدا
بيد القرون لعزة وصواب
يسمو على الأحزاب في إيمانه
بالحق يرفعه على الأرباب
إن خانه المتنطعون فحسبه
مثلي يبجله وليس يحابي
وأنا الذي يأبى الهوادة قلبه
في الحق، وليس خصومه بصحابي
لم أنس لوم عداك في جبروتهم
وأنا رهين البطش والإرهاب
لم أنس سيدهم وإن هو عاتبا
وضع الصداقة موضع الأنساب
54
ضحيت إنصافي وقد بلغ المدى
ظلمي وصرت مشارفا لخرابي
ضحيته في لذة موصولة
لما أمض الظالمين جوابي
55
ضحيته وكأن كل خسارتي
غنم، فإن سماءهم لترابي
وبقيت في همي العميق بنعمة
وعددت في الحرمان كل طلابي!
المجاهد الكبير (الخطاب موجه إلى الوطني الكبير السيد مكرم عبيد.)
ضحكوا على لقب «المجاهد»، ليتهم
ضحكوا على أحلامهم وغرورهم!
كم ضيعوا أمل البلاد بلؤمهم
كم ضيعوا خيراتها بشرورهم
باعوا نفائسها وعابوا عاملا
صان النفائس هازئا بكبيرهم
ووفى لسعد ثم آزر مصطفى
بوفائه الباقي على تقديرهم
المحرس الناعين عزة شعبنا
والمنطق الشادين شعر حبورهم
غنمتك ألوية السياسة بينما
حرم الشداة من ابتداع أميرهم
56
المكنسة (قالها الشاعر في ثورة يأس، والخطاب فيها موجه إلى الوطني النزيه محمود فهمي بك وكيل وزارة الأشغال.)
لم تبق مكنسة في الأرض صالحة
لكي تطهر «مصرا» من أعاديها
لقد يئست، وليس اليأس من خلقي
إن الفساد عميم في نواحيها
هذي الوزارات صارت كلها بؤرا
من الخبائث ترديها وترديها
تغلغلت في صميم الحكم هادمة
مثل الجراثيم تعديه فتعديها
لقد خبرت الرزايا من محامدها
وقد سئمت المآسي من ملاهيها
وصار إحسان ظني كله جزعا
مما يجرح سمعي من مخازيها •••
يا منصف الحكم في طهر وفي شمم
مثالك الشهم من يرجى لراجيها
لو كان مثلك متبوعا لما عدمت
وسائل الحكم ما يسمو ببانيها
لكن بلينا بأقوام زعانفة
صاروا الأعالي وقد كانوا أدانيها
فأفسدوا الحكم إفسادا وإن ذهبت
وزارة وأتت أخرى تعاديها
لا خير في الحكم دون الشعب يسنده
ولا بخير يرجى من أعاديها
التضحيات
قومي جموع التضحيات وحدثي
عدد السنين لجاهل وطفيلي!
لولا اعتلال «النيل» من أحزابه
لم تعل صيحة فاسق معتل
عشنا إلى زمن نرى ساداته
في غير منزلة وغير محل
ردي الجبان إلى ظلام وجوده
وكفى من الصدق المنزه حولي
عمر أبحت لموطني ولأمتي
بالبذل لا ينفك شاهد عدل
لم أرج يوما أن أكافأ بل مدى
حظي ذيوع النور فيمن حولي
لو كنت ...
لو كنت من أهل التحزب ضلة
لغنمت أضعاف الذي أعطوني
لم أعط إلا بعض حقي بينما
خلقت حقوق للخسيس الدون
مسخ الذكاء فبات كل مسود
بذكائه رمزا لكل جنون
ويعيش مثلي في كفاح دائم
ما بين حساد وبين عيون
57
ومن العجائب أن كلا مادحي
وأنا الغبين لهم وأي غبين!
بئس السياسة! لا تناصر عالما
وتهش للجاني وللمأفون! •••
أنى يحين لمصر عهد رجائها
لا عهد أحزاب وعهد ديون؟
ومتى نكون بوحدة وبعزة
فنعز تاج «منا» ورمز «أمون»؟
ومتى يكون العلم حرا سيدا
لا طوع أضغان وعبد بطون؟
ومتى يصان لمثل جهدي حقه
من كل مغتصب وكل خئون؟
لو كنت من يرضى الهوان لنفسه
لنعمت لكن في ظلال الهون
حسبي إذن أني أقاسم أمتي
هذي الشرور بحظي المغبون!
بأس الشعب
هو الشعب رب البأس في كل حالة
ولو حكم الشعب الوديع عظيم
محال محال أن يسود خصيمه
وإن هو فذ حازم وحكيم
سينصفه
58
مر الزمان فإنه
59
خبير بأهواء الحياة عليم
وليس العتي الرأي للنصر كافلا
إذا الحق للرأي العتي خصيم
لقد راح «محمود» و«صدقي»
60
كمن مضوا
مع الظلم، فالظلم السخيف قديم
ولم يبق إلا الشعب رغم وداعة
وعدم، وما الشعب الأبي عديم
فوا أسفى كم من ذكاء مضيع
وكم من ذكي في الضلال يهيم!
غدر الدخيل (قيلت في الموقف الوطني المشرف الذي وقفه القاضي عبد السلام ذهني بك.)
عفاء على دار على أهلها تجني
إذا بات أهل الدار يرضون بالغبن
بني وطني! هذي حمية واحد
فأين إباء الشعب يهدم أو يبني؟
أتنسون ماضي سخطكم أو إبائكم
وكلكمو «سعد» وكلكمو «ذهني»
لقد ثار في وجه «العدالة» عندما
رآها مثال الظلم في كل ما تجني
وقد حرموا للفرد رقا وحللوا
أذى الشعب في رق من الزور والمين
بني وطني! ثوروا على الضيم مثلما
أبيتم إباء سالف الضيم والهون
61
شغلتم بأنواع الخلاف التي جنت
وأنسيتمو غدر الدخيل بعهدين
62
فلولاه لم نعرف خلافا ولا أذى
ولولاه لم نرهق من الحكم والدين
ولو قد شغلتم بالذي هو كائد
عن الكيد من حزب لآخر مفتن
لساد الإخاء السمح بين صفوفكم
ونلتم مكان الشمس لا منزل الغبن
في مكتبتي (نكب صاحب الديوان بضياع الكثير من المؤلفات المستعارة من مكتبته.)
أصدقائي
63
لكم كما لي عذر
في بكاء الفقيد من أصدقائي
هذه هذه مجالسها صا
رت خلاء من بعد ذاك الرواء
كتبي أنت بعض نفسي فما كا
ن اختياري إياك إلا رجائي
كيف فرطت؟ كيف فرطت
في الود ومثلي يعد رمز الوفاء؟
أنا كالثاكل الذي عدم السل
وان والصبر في مجال العزاء
ما كتاب ينوب عن غيره إلا
زميل ينوب عن زملاء
كل سفر شخصية لا يحاكي
يها تماما تشابه الأسماء
كل سفر من بعد صحبة نفسي
هو منها جزء من الأجزاء
ما سمي له وما توأم ير
ضي شعوري وما يلبي ندائي
إن فقدي يحسه الشاعر الحر
وإن غاب عن هوى الجبناء •••
أصدقائي وجوهكم لائماتي
في سكوت القضاة قبل القضاء
كلما زرتكم تألمت حتى
خلتكم كالغلاظ من أعدائي
بعض عذر وبعض صفح إذا كا
ن أجل الذنوب عندي حيائي
قد تعلمت من دروس حياتي
كيف مات الحياء في الأحياء!
الزارعون (من قصيدة «القرية المهجورة» للشاعر الأرلندي أوليفر جولدسمث.)
ويل لأرض هوت
فريسة للسقام
حيث الغنى قد نما
حيث الرجال الحطام
يا ربما يزدهى
أو يمحق الأعيان
فنفخة خلقهم
64
كخلقهم كل آن
لكنما الزارعون
فخر البلاد الجلاد
إن هدموا مرة
فما لهم من معاد!
ديانا وأكتيون (كانت ديانا معدودة في الأساطير الرومانية إلهة الحرب والقنص والقمر، كما كانت تعد مهيمنة على الولادة. وكان كاهنها عبدا آبقا لا ينال منصبه هذا إلا بمحاربة سلفه في ذلك المنصب محاربة فردية وجها لوجه. وكانت ديانا تمجد في عيدها في مساء الثالث عشر من أغسطس إذ يكون بدر الصيف متجليا وإن استعمل عبادها المشاعل في حفلاتهم، وكان الحوامل يستعن ببركتها ويبتهلن لها. وكان يؤذن للعبيد في عيدها - الثالث عشر من أغسطس - بالراحة إشارة إلى منزلتها في الحرب ورعاية لكاهنها.
أما عن قصة ديانا وأكتيون فتتلخص في أن من عادة الربة ديانا بعد انتهاء رحلتها الليلية في مركبتها القمرية أن تأخذ قوسها وسهامها وتذهب في صحبة حورياتها لصيد الحيوانات الآبدة في الغابة، وحدث في عصر يوم من أيام الصيف بعد أن تعبت ديانا وصاحباتها من مطاردة الصيد أن لجأن إلى إحدى البرك الجبلية الهادئة التي كثيرا ما اتجهن إليها للاستنقاع. وكانت المياه الشبعة تتموج داعية لهن، فلم يستطعن إلا تلبيتها بنزع ثياب الصيد القصيرة وغسل أعضائهن الحارة. ولكن لسوء حظهن لم يكن وحدهن حينئذ في تلك الجهة، إذ إن المصادفة قضت بوجود أكتيون الصياد الذي كان يطارد الوعل منذ الفجر، وقد أحس بالظمأ والتعب فاتجه هو أيضا إلى تلك البركة الجبلية المشهورة. وبينما كان يقترب إلى تلك البقعة المألوفة خيل إلى أكتيون أنه سمع جلجلة ضحكات فضية، فأخذ يتسلل نحوها بحذر شديد مفسحا بلطف ما بين الشجيرات التي تعترضه، فإذا به يرى مدهوشا ديانا وصواحبها. وفي تلك اللحظة كانت ديانا قد التفتت لتتحقق من سبب الحفيف الذي سمعته أذنها المدربة المرهفة، فإذا بها أمام نظرة الإعجاب والدهشة من ذلك الصياد الشاب! وحينئذ أخرسها الحنق لرؤية بشر لها على هذه الصورة، فألقت بحفنة من الماء في وجه أكتيون مهيبة به في تحديها أن يذهب ويعلن - إذا استطاع - أنه قد رأى ديانا عريانة! ... وما كادت قطرات الماء المتلألئة تلمس وجهه حتى قفل لينفذ أمرها، فإذا به يجد أنه قد استحال إلى أيل ولم يبق من شخصه السابق سوى شعوره التعس بهذا التحول! ... وبينما هو في وقفة اليأس والرعب سمع أصوات كلابه، فازداد رعبا على رعب وحاول الخلاص منها فإذا به يقع فريستها وإذا بها تقضي عليه بعد أن تحول إلى صورة أيل ولم يعد في صورة صاحبها.)
65
يا شهيد «الجمال» يا سيد الصي
د ستحيا الفريد في الشهداء!
ما أبى أن تراه، لكنه خا
ف قصور الجمال في عين رائي
حرمت رؤية «الجمال» على غي
ر ذويه من أهل دنيا الفنون
فذهبت الضحية التي إن تعد بع
د ففي فتنة الورى والجنون! •••
تنفق الليل عند زورقها الفضي
66
في رحلة «ديانا» الجميله
فإذا ما أتى الصباح تولت
67
صيدها بين باسقات ظليله
بين أترابها الغواني اللواتي
تحرس الحسن من شرور الحياة
سائرات بجذبها ساحرات
في تجن على المنى وافتئات
لم ينلهن في الطبيعة حي
بل وجانبن كل طيف وخاطر
غير طيف ينبث في النور والظل
عجيب من روح فن وشاعر
وتولين مرة بعد صيد
نحو إحدى الجداول الجبليه
فنزعن الثياب في غير خوف
يتبردن بالمياه الحفيه
وتمتعن في هدوء وقد نا
ل عناء الطراد منهن قبلا
فإذا البركة التي قد جمعتهن
فتون على فتون تجلى
غير أن الأقدار في هذه اللح
ظة خانت هدوءهن الحبيب
فلقد سار «أكتيون» إليهن
وما كان عندها بالرقيب
سار نحو المياه والظمأ الطا
غي ملح يسوقه كالشريد
حاسبا نفسه الوحيد وما كا
ن، ويا ليته الشريد الوحيد
عندها ران للصدى ضحكات
كأغاني الأضواء شتى البيان
فمضى شطرها على حذر الصا
ئد في فرط خفة واتزان
مفسحا بين ذلك الشجر اليا
فع نهجا فثار منه الحفيف
فإذا بالحفيف مسترعيا سم
ع «ديانا» كوقع ريح عصوف
مرنت أذنها، وقد جسم الصو
ت نفور من الغريب الدخيل
أفسد الراحة التي نشدتها
ورأى جسمها العزيز البليل
فأبت أن ينال ذلك إنسا
ن إذا لم يكن بروح الألوهه
أين هذا من ذلك الصائد الفج
ولو كان ذا أمان نزيهه؟
أدهشته في هذه اللحظة الفت
نة بالمشهد العجيب العجيب
بينما أغضبت «ديانا» وقد ري
عت مع الصاحبات للمستريب
فرمت ملء راحتيها من الما
ء عليه بلعنة وتحدي: «سر - إن اسطعت - وأخبر الناس عني»!
فإذا «أكتيون» ممسوخ صيد!
حال كالأيل الذي لفظته
رحمة الكون للأسى والعذاب
وأتته كلابه وهو في الرو
ع فأمسى غنيمة للكلاب! •••
يا شهيد «الجمال» يا سيد الصي
د ستحيا الفريد في الشهداء!
ما أبى أن تراه، لكنه خا
ف قصور الجمال في عين رائي
حرمت رؤية «الجمال» على غي
ر ذويه من أهل دنيا الفنون
فذهبت الضحية التي إن تعد بع
د ففي فتنة الورى والجنون!
شعر النجوم
شعر الكواكب والنجوم
شعر تنوء به الفهوم
جعلت صحائفها القرو
ن من السديم إلى السديم
نشرت على هذا الفضا
ء براحة الأزل القديم
فإذا النظيم من الأشعة
يثقب الليل البهيم
ويسطر الوحي الفري
د من الكواكب والنجوم
ويفسر الموشور مع
ناها ومغزاها السليم
إلا خواطر لم تزل
وقفا على الشعر الحميم
ملأت نوازعها الطيو
ف، وكلها شجن أليم
الراثيات منى الحيا
ة الباكيات خطى النعيم
كم حاولت
68
فتح النجو
م فكان مصرعها الوخيم
كم في الفضاء مناحة
والموت أخاذ مقيم
قتلى الأشعة كالكوا
كب والنجوم بلا رحيم
والكون تملؤه العوا
طف وهو في قلق اليتيم
فأحسها نبض الأشع
ة في تألقها العليم
وأجسها وأشمها
بمشاعر الدنيا الرءوم
فأرى بها جرح الزما
ن وطعنة الدهر الأثيم
وأرى الضحايا بينها
لجلالة الرب الحكيم
الجاعل الموت الحياة
فما الرميم بها الرميم
والكون يتسع اتسا
ع البر والخلق الحليم
69
وسبيله الرشد القوي
م وحظه المجد القويم
الفرد والسمكة
أمشبها بالقرد من هو ربه
فضلا، أبيت لمثلك التشبيها
فالقرد جل مثاله ووفاؤه
عن أن يكون له الخئون شبيها!
أعلمت أنك مثل أسماك
70
لها
قاع المحيط مباءة وحياة
فإذا سمت ماتت كأن هوانها
عيش، وغايات السمو ممات؟!
تكريم الفاجر
ونادى مناد: «كرموا العلم، كرموا!
فذلك للعلم الكريم زعيم»
ما كان إلا فاجرا أي فاجر
وحسبك منه في الفجور نظيم
71
لقد جاء فيه واصفا لؤم نفسه
ووصف لئيم ما يقول لئيم
عجزنا عن التصوير تلقاء معجز
لمرآته فيما يرى ويروم
عجزنا ورحبنا بطعن وخسة
فإنا بعهد يزدريه كريم
وأضحكنا من خودعوا في مديحه
وكم يخدع الحر البريء أثيم
ولم أر جمعا مثل هذا إذا التقى
تشابه فيه عاقل وبهيم
كذا جرت الدنيا فنون مهازل
وأغلبها للهازلين سقيم
وكل امرئ في وسعه حبس نفسه
غنيا ولاقى الناس فهو غريم
طرطوف (مهداة إلى نقيب الدجالين.) «طرطوف» يا دجال «مص
ر» العبقري بلا جدال
من لي بمليير العظيم مصو
را فيك الضلال؟
إن ترحم الدين البريء
فعندك الأدب الستار
يا فاقد الأدب الصحيح
وتاخذ الأدب الشعار
خادعتنا زمنا كما
خادعت أعلام الرجال
فكأنك الشيطان في
ختل إلى أقصى المحال
من ذا نلوم وكلنا
ذاك المغفل والسفيه
من بعد ما أضحى مثال
ك صورة البطل النزيه؟!
لولا محبة أرض «مصر»
ونيلها الشبم الكريم
لعددت هجرتي البعي
دة من نهايات النعيم
أفسدت يا «طرطوف» دنيا
الناهلين من الأدب
حتى كأن السم في
هذا المعين لمن شرب!
في الطريق الحزين (نظمها صاحب الديوان وهو يجتاز قرية المطرية القديمة.)
يا طريقي الحزين! عرج على الغر
س وسر بينه بروحي وحسي
في صميم الحقول سر بي وخذني
من وجود وهبته كل يأسي
في جوار المياه تجري فتروي
قبل ري الغراس قلبي ونفسي
في جوار النبات يخفق من خف
قي ويفضي بهمسه مثل همسي
في جوار الأنيس من طيرها الأب
يض
72
جس الثرى حريصا كجسي
في جوار الأعشاب يلمسها الما
ء برفق والنور في شبه لمس
في جوار النوار قبله النح
ل بشوق المدله المتحسي
في جوار الأحلام في خضرة الأر
ض وقد أينعت
73
بغرس وغرس! •••
يا طريقي الحزين! ما عالم النا
س لمثلي، فليس مثلي بأنسي!
أنا بعض من الوجود الذي يأ
بى وجودا على فساد ورجس
من أغاني الضياء، من طهره السا
حر، من خمره كياني وأنسي
من نجوم السماء والأرض أحلا
مي ومن روحها المشعشع كأسي
من معان خفية نشوتي الكب
رى ومن مقبلي البعيد وأمسي
أسمع الصمت كالأغاني التي تن
هل في الجو دون سمع وحس
قد حواها
74
كما حوى من قرون
خلجات النفوس من كل جنس
أقتنيها بنشقة ثم لا أر
ضى سوى كل مستعز وقدسي
من جمال الألوهة المتناهي
في جمال الأثير يضحي ويمسي •••
يا طريقي الحزين! إني غريب
والغريب الغريب رهن لتعس
ربما قدر الثرى ثم إحسا
سي إذا ما أباه أبناء جنسي
ربما الذكريات رفت عليه
كرفيف الندى الشفيق المؤسي
نجني من تعثري بين أشباح
ومن نقلتي لرمس ورمس
نجني! إن في الطبيعة نجوا
ي ففيها لبي وشعري وطرسي
في حماها الفنان يسمعه الخا
لق ما كان في خفاء ولبس
في حماها يعيش للشاعر الحب
فتونا من كل نجم وشمس
في حماها أنام والعشب وجدا
ني وقلبي زميل «عباد شمس»
وأناجي حتى الجنادب في زه
و، وفي نشوة أوسد رأسي
والرغام الذي يحجب عن غي
ري قرونا عزيزة رهن حبس
رقدتي عندها كسكرة فرحا
ن بدنيا تختال في صفو عرس
بينما العالم المؤصل في الغد
ر قرير بكل جان وجبس!
الزعماء
عفوا لقسوتي التي لا أبتغي
منها سوى الغايات من إحسانكم
ذمم الرجال لها المكانة في العلى
ويزيدها قدرا مدى إيمانكم
وإذا الأمانة لم تسد فجميع ما
حكت المواهب سخريات زمانكم
أغفلت كل مسود لم يقترن
حظ له بالحظ في أوطانكم
وجعلت إكباري لمن تقديسه
للشعب ميز شانه عن شانكم
مصر المنتجة (أهديت إلى دولة النحاس باشا لمناسبة عنايته بالنهضة الاقتصادية.)
شعري! لك الإنصاف غير مرائي
فاهد الثناء وكن أحب ثناء
أهد الثناء إلى ممثل أمة
بالخلق قبل مكانة ونداء
بلغت نزاهته النزاهة كلها
حتى يعاب بخلقه الوضاء
وبحلمه حين السياسة ما لها
إلا الدهاء، ولم يكن لدهاء «المصطفى» المعتز من إخلاصه
بين الورى في الصحب والأعداء
عبثا نحاول أن يكون لمثله
خلق الدهاة ومنهج اللؤماء
وكفاه رمز طهارة قدسية
هي قدوة للشعب والزعماء
كم من زعيم غيره متعثر
بذكائه المتذبذب الأهواء
وكفاه فخرا صدقه ووفاؤه
في بيئةلم تكترث بوفاء
إن ليم كان اللوم رمز محبة
وتطلع في المحنة السوداء •••
أحسنت يا من لا يرد نداؤه
في ذلك التشجيع والإنشاء
هل «مصر» إلا أهلها ونتاجها
وتراثها ومكارم الأنباء
فابن العظائم بالفعال موفقا
ترفع لآتيها أجل بناء
رثاء شيخ العروبة
أحمد زكي باشا (نشرت يوم وفاته).
أيها الموت لقد هنا خداعا
قد خطفت النبل والفن الصناعا
ما ملكنا منه حتى موقفا
لوداع ... كيف حرمت الوداعا؟! •••
باني الجامع
75
لا يرضى له
ما ارتضى الناس جمالا وابتداعا
أنتما مجدان حيث اجتمعا
غمرا الناس سلاما وشعاعا
رقدة الخلد التي ترقدها
لم ينلها الناس من قبل سراعا
76
نلتها في خطوة لكنها
خطوة الجبار فتحا واندفاعا
خلفها الأجيال من علم ومن
أدب حي ومجد ما تداعى
ذكريات كنت حامي عزها
فرأيناها وقد كانت سماعا
من لها اليوم سوى ذكراك في
حبنا الجم فيرعى وتراعى؟
77
كنت تستفتى فتفتي دائما
بالصريح الحق علما واتباعا
تنصت الدنيا لما تفضي به
من حديث يغمر الدنيا اتساعا
ريعت الآن ولكن روعة
سوف نحياها مع الدنيا التياعا
إنما العرب لسان أيد
وتراث كنت واقيه انصداعا
شيخهم في كل أمر حازب
تنقذ البر إذا ما البر ضاعا
ما أقل الناس في روادهم
حين يفنون مع الجهل صراعا •••
يا سميي وصديقي! ليت لي
في وفائي أن أفي العلم المضاعا
ليت لي قدر وفائي قدرة
كشعاع الشمس جوابا مشاعا
علني أرضي المعالي راثيا
قبل أن أرضي حزني واليراعا
إنما آثارك الحسنى التي
تفحم الدهر كما تمحو الدماعا
الشعر والوطن
تنادى الناظمون بما دعوه
عزيز الشعر للوطن الغبين
ولم يك غير تلفيق سقيم
ووأد الشعر للغرض المهين
إذا طغت السياسة واستحلت
نفاق الشعر للأحزاب مبدا
فلا كنا ولا كان افتتان
به، إذ لن يكون الذل مجدا
وهل شعر بلا قلب أبي
زعيم ينصح الحر الزعيما
يقول الحق موفورا عزيزا
ولا يخشى صديقا أو خصيما؟
لكم عنفت من أحببت، حبا
بمصر، وإن أسئت لمحض حبي
فعشت أنا الوفي لخير شعبي
وإن ضل الورى، ولعهد قلبي
عام الباذنجان! (من مشاهد الريف الأليمة.)
يا من تجفف باذنجانها جزعا
للعيش ... ما حظ هذا العيش في الذل؟!
أصبحت يا بنت مصر جد مجدبة
وجد محرومة ما طال من ظل
والمال ينفق في إيذاء مضطهد
وليس ينفق في تطبيب معتل
هوى رجالاتنا في ما يدنسهم
وحملوك الذي قاسيت من حمل
وصرت سائمة ترعى، وربتما
عانيت في البؤس ما فاتته من ذل
هذا كساؤك أسمال ممزقة
كأنما رشقت والحظ بالنبل
78
وذا نهارك مثل الليل في عمه
وما الحياة وهذا النور كالليل؟
وتلك أسرتك المهدوم هيكلها
كأنما غذيت بالصاب والخل!
فأين أين بنو مصر الألى مدحوا
جهودك اليوم في إرهاقك الكلي؟
ناموا وخلوا غنى الفلاح مسغبة
فضيعوه وضاعوا في مدى الذل!
القواد والجند
أمتي! كم نشبع القواد لوما
بينما نحن على الذل نيام!
كلنا المذنب! كم نرسل ذما
وكأنا أبرياء دون ذام!
أصلحوا القواد نقدا أصلحوا
إنما لا تسرفوا في لومهم
ربما يفلح من لا يفلح
لو تجنبتم دواعي هدمهم
آه! كم يعشق قلبي وحدة
ترجع الوادي إلى عزة أمس
لو عقلنا ما عرفنا شدة
هي كالميتة في أعماق يأس
أمتي! إنا جميعا إخوة
وغريب الناس فينا الجبناء
كيف لا تدفع «مصرا» نخوة
تخطف المجد وتحيي الشهداء؟!
لوعة الغروب (في بورسعيد)
تولى النهار بلا منقذ
حبيب ولا مأمل ينتظر
وجازفت الشمس قبل الغرو
ب بآخر إشعاعها المدخر
فما صدم الماء حتى هوى
وما عانق الموج حتى احتضر
وغابت كما غاب سر الضمير
فما كاد يدرك حتى استتر
وما البحر إلا خضم الحياة
وما الشمس إلا رسول القدر
لقد جمعا في الخفاء العميق
وإن لمحا في مجال النظر
ونم السحاب الحزين الشريد
عن الوجد في ساعة من ضجر
ولم يحمل الأفق من صبغة
سوى لوعة لفؤاد شعر
أحس بها نفحة من جمال
مروع على لفحة من شرر
قد اتفقا في اجتذاب العيون
كما اختلفا في فنون الصور
وكانا صلاة ضحايا الغروب
وبين ضحاياه دهر عبر
تجددها رحمة في السماء
وإن خفيت عن شعور البشر
ويفرح في موتها العاشقون
كأن النهار حبيب غدر
فماتت أشعته المحسنات
وإن بعثت في ضياء القمر
وأنشدت وحدي رثاء الجمال
وقد غرق الناس بين السمر
ملاك أم شيطان؟! (الرسم للفنان الفرنسي ماناسيه.)
الجمال الجمال في هذه الدن
يا هو الخالق الصريح المحجب
لست إلا رموزه لعيون
لمحت فيك نوره يتوثب
في مثال الهدوء جلستك الحس
ناء لكنها شعور تلهب
جمعت حولك الطيوف فكانت
كاجتماع الطيوف من حول كوكب
كل لون له معان دقاق
كمعان إلى السماوات تنسب
أين أين الشيطان من ذلك الحس
ن ومنه الحياة في الكون تسكب؟
ما نزعت الستار إلا وفاء
حينما الفن للجمال تعصب
منك نستاف نشوة الفن ألوا
نا ومن نبعك المقدس نشرب
يا لآي الإبداع في ذلك الجس
م فمنه الإيحاء للشعر يطلب
هو شعر ومن جناه تداعى
صور للخلود لا تتذبذب
كل جزء له نشيد حبيب
في هتاف وفي خفوت محبب
جمعت كلها فكن عجيبا
قد حواه تصوف فيك أعجب! •••
ذاك حلم الجمال نشوان لا يد
ري نفوسا بحلمه تتعذب
عصب الرأس في جلالة سحر
لا يدانى، وفي تحد مؤدب
وإذا الشعر في تموج مأسو
ر وفي رقصة الطروب المعذب
وإذا وجهك الحيي أفاني
ن من الظفر والرجاء المخيب
وتراءى نهداك كالحارسي حس
نك في روعة تشوق وترهب
وهما فتنة من النسق الزا
هي بإعجازه العتي المهذب
لم يزدني تأملي فيك إلا
صورا من عبادة لا تخيب
أنعشت خاطري وقد ذاب شعرا
في حنان والدهر بالناس يصخب!
الطاووس الأبيض
أنت في الحسن مضمر اللون والحل
ية كالنور يضمر الألوانا
إن يعبك الذين لم يشعروا بع
د فيكفي اجتذابك الفنانا
وحي البحيرة (نظمها الشاعر في الصباح الباكر في عودته بالقطار من بورسعيد وقد لمح عن بعد قوارب الصيد في بحيرة المنزلة.)
هذي الأهلة
79
ما لها مذعورة
فتلوح في الأفق البعيد حيارى؟!
جمعت وعززها السحاب كأنما
تخشى إذا اشتعل النهار النارا
وإذا المياه ملاعب جنية
شتى وأعشاب المياه عذارى
وإذا المشاهد في تحول سكرة
منا، ونلمحها كذاك سكارى
كالعالم المجهول نخطف حلمه
بعض الحظوظ وعندها يتوارى! •••
يثب الخيال بنا إلى أكنافها
ويثور في شغف يظل مثارا
ويعود مدحورا، فإن رموزها
شأت الخيال وفاتت الأسرارا
إن يدرها أحد فطير شاعر
قد أفحم الشعراء والأطيارا
يقتات بالألوان قبل غذائه
متعا وتشرب روحه الأنوارا
يقضي الليالي عابدا متبتلا
يدعو النجوم ويسأل الأسحارا
وينوح للغرقى، فكم من نجمة
خدعت وقد غرقت ، ويطلب ثارا
علقت به الثارات حتى أنه
ليعيش في عمر يراه معارا
وكذاك قلبي طار حول خيالها
قلقا يراود حسنها السحارا
يجري القطار ولا أحس به كما
أحسست بالصمت البعيد جهارا
وكأنه مرأى الفناء محببا
بسكونه، وكأنه ما ثارا
تتناوب الخطرات ملء تناقض
لبي كما تتناوب الأدهارا
تجري وتنتظم الوجود بأسره
وترى البحيرة كنية وشعارا
هي مسرح تخذ الخفاء جماله
فطنا وأرسل رغوه الأشعارا
فجمعتها بيد الأثير ضراعة
للحسن حين الموج أن مرارا!
على حافة الترعة (في ضاحية المطرية)
أمتعت بالماء المهفهف ناظري
وبه الظلال عن الغصون تشف
وكأنما هي في الحياة أصيلة
والأصل ظل في الهواء يرف
سحر تكفل موجه بوجوده
وقد احتواه وما احتواه الطرف
ورشيقة الحشرات تلعب حوله
وتطير وهي من الحبور تخف
دنيا خيال والحقيقة عندها
ما يلهم الوهم الحبيب ويصفو
سكن الغرام بها فكل مليحة
بحبيبها تعتز أو تلتف
من كل نبت لا يجل وإنما
الفن مجده ويأبى العرف
من كل طائرة بزي بعوضة
وحياتها دنيا عداها
80
الوصف
من كل غائصة يحارب عيشها
علم، وينصرها الجمال فتطفو
الفقر يشملها جميعا بينما
الفن يكسبها غنى فتعف
ونحس نحن بفقرنا وخشوعنا
فنظل ننهب حسنها ونسف!
القلادة المحسودة
يا ليتني الجعران في الجيد
متوثبا في كل تنهيد
مترنحا من لطفها الغالي
واللطف تشريدي وتبديدي
متسلسلا والقيد لي نعم
فالحسن تنعيمي وتقييدي
قد صيغ من ذهب ومن حجر
وكلاهما الفتان للغيد
وأنا المصوغ عواطفا كرمت
أترى أنال رعاية الجيد؟
فأنام في حلم على حلم
متيقظا في كل تنهيد!
التعاون (ألقيت في حفلة تكريم رجل التعاون والقلم الصديق الأديب محمد عبد الغفور يوم أول يوليه سنة 1934 بمدينة زفتى، وقد أقامها ممثلو الجمعيات التعاونية والأدباء في منطقته.)
أمحرر الفلاح من أغلاله
الآن ينشدك الوفاء جميلا
ذوقته معنى التعاون باذلا
فاقبل تعاون حبه مبذولا
كم من ليال قد سهرت لنفعه
حتى مرضت وما مرضت بخيلا
كالنيل يعطي الخصب رغم رسوبه
وكفاك أن ترضي أباك «النيلا»! ••• «زفتى!» يفارقك الأبي بروحه
إلا عليك مساءلا وسئولا
الغرس قبل راحتيه بنضرة
والماء أشبع سعيه تقبيلا
والجو في خطراته أنفاسه
توحي لأنفاس العفاة جليلا
المنقذ الفلاح يعرف أصله
هذا الثرى وذويه جيلا جيلا
فيظل يدأب كي يزيد شعاعه
ألقا، وكي يهب السلام ظليلا ••• «عبد الغفور» وأنت جم مواهب
كرمت فما تتطلب التبجيلا
جاءت تكرمك المآثر حرة
قبل الوفود، وتلك أبلغ قيلا
وكأن عمرك نفحة علوية
للشعر في زمن نراه عليلا
فأثار خاطري الكليل، ومن ينل
وحيا كوحيك لن يكون كليلا
وبعثت شعري كالصبي لأهله
فرحا يعانق راحلا وخليلا
يا ما أقل الناس مثلك قدوة
ومودعيك الأوفياء مثيلا!
الحقول (خواطر السفر)
أهلا سريات الحقول! أعود في
شغفي، ويأبى لي القطار لقاء!
ويطير بي هذا البخار كأنما
يخشى علي الفتنة العمياء!
ما باله يطوي الفراسخ بينما
هذا ابتسامك كالشموس أضاء؟
بعث الرجاء بكل زهر فاقع
للقطن وضاء غنى ورجاء
والجدول الجاري يصون ثراءه
أو يستحيل إذا رواه ثراء
والفالحون الزارعون حياله
أمراء لو لم يبلغوا الإجراء
وقفوا وقوف الذل عند نضاره
يتبادلون الحسرة الخرساء
في أمة هم مجدها لو أنها
رشدت ولم ترفع بها الجبناء
ساد الطغام بها وهان عزيزها
وسما البناء وخانت البناء
والشعب ما لم يستعز بذاته
بات الغنى والفقر فيه سواء
الأشجار الشريدة (صورة سريعة)
وقفت مشردة إزاء «النيل»
و«النيل» في جدواه غير بخيل
لكنها تلقى الهجير عذابها
والماء لا يروى ظماء ذليل
وقفت مشردة كصورة أهلها
متفرقين على أسى وعويل
وعويلها لفح الهجير، وذلها
ظل من الأغصان غير ظليل
فرحة الألوان (من مشهد فتاة ريفية ذات ملابس زاهية الألوان.)
سيري بفرحة لونك الزا
هي إذا افتقد السرور
لم يبق للريف الجمي
ل سوى الأشعة لا الشعور
سيري فألوان الثيا
ب غرورها أشهى الغرور
وإذا حكت لون الدما
ء فأي قلب لا يثور؟!
هذي كنوز للحيا
ة وأهلها أهل القبور
لم يبق من سلوى لهم
إلا التوهم في النشور!
الأرز الطائش (من إيحاء السفر من نافذة القطار.)
الأرز ماج على الحقول
فكأنه قلق الملول
مترنحا مترنحا
وكأنما الماء الشمول
في خضرة مصفرة
فاللون شمس لا تحول
ونضارة ذهبية
جمعت لتنشر في الأصيل
يروى ويروى وهو لا
يروى من الظمأ المهول
ظمأ الحياة إلى الحياة
وليس من ظمأ الحقول
متصوفا وهو الجمي
ل بكل مجهول جميل
متلهفا متضاربا
متطلعا للمستحيل
والأرض تأبى طيشه
وترده رد البخيل!
بنات الشفق (نظمت عند شاطئ استانلي.)
لبسن الجمال جمال الشفق
ووزعن أحلامه في الغسق
وسرن على خطرات النسيم
فأفعمنه بالهوى والعبق
عرايا تصوفن بين الفنون
وأشعلنها في النهى والحدق
تخطرن في صور من حنان
تشربها الموج بعد الأفق
وأرسلن في كل قلب حياة
وهذي حياة تحاكي الغرق
تشبعت من سحرها العبقري
وأكذبه في فتون صدق
فأنشق أنفاس هذه الحياة
ويملأ روحي هذا الألق
وأعبد أعضاءهن الغوالي
كأني أعبد رب الفلق
تموجن في روعة للجمال
وفي لهفة للأماني أدق
وفي سمرة من معاني الخمور
وفي حمرة من معاني الشفق
وفي جرأة للجمال العزيز
كأنا نقدسه من فرق
تواءم في كل أجزائه
وإن ثار بين الورى وافترق
نتابعه بعميق الخشوع
ونغنم منه الهوى والأرق
ونعبده في حنين يثور
وفي شعر قلب شجي خفق
وفي لثمات لنا في احتجاب
تراءى النسيم بها أو نطق
فيا معبد البحر عش للجمال
وعش للغرام وصن من عشق!
الراقصة ببا (سونينة)
يا «ببا» يا «ببا»
يا فتن الصبا
يا متع الهوى
يا نخب المنى
نهاية الغنى
سناك لا الغنى
يا رقصة حوت
ما عالم أبى
للوعة الصبا!
إلى ناقد الجمال (مهداة إلى الصديق الأديب حسن بهجت.)
يا ناقد الحسن الأصيل وما له
رد لأحكام ولا لغرام
آمنت بالذوق الذي أبدعته
من خالص الإلهام للإلهام
هات الحديث عن الجمال فإنني
لحديثك الفني أشوق ظامي
وصف العيون لنا وما حجبنه
من كل معنى فاتك بسام
وصف الجوارح كلها في قدرة
وصف الهوى والخالق الرسام
وصف الخوالج والعواطف والمنى
واليأس في الرقصات والأنغام
وجميع ما تختاره وتعزه
ونماذج الأشواق والأحلام
صف ناقدا ومحللا فلربما
أشبعت بالأوصاف كل غرام!
قصائد الحقول
مبدعات فيها الروي من الما
ء تلالا على الحفافي الحسان
والنبات السري والناس والحر
ث وشتى الحياة بعض المعاني
أتملى الذي تمثل فيها
كتملي الفنان للفنان
ليت شعري: أتلك من مهجة الإن
سان شاقت أم مهجة الديان؟!
ذاك شعر الحياة ألفاظه الخل
ق وأحداثه فنون البيان
وهو بعض من عالم كل ما في
ه أناشيد شاعر فتان!
تصوف الطبيعة
تصوفت في فصول العام أجمعها
حتى الربيع وحتى الصيف أرضاها
ففي الربيع معان من تيقظها
ومن مناجاة من بالحب ناجاها
ويجمع الصيف ألوانا تعذبها
من التحرق في ترديد نجواها
حين الخريف صلاة كلها لهف
وكلها شغف ما كان لولاها
بينا الشتاء صيام، في تجرده
أبهى التصوف، أسماها وأغناها! •••
كل الفصول جمال في تصوفها
لو أننا قد عرفنا بعض معناها
رأيتها مثل «سافو» في ملاحتها
يبوح بالشعر للأحياء مرآها
في زهوها الحلو أو في لفح غضبتها
أو عند ثورتها أو عند سكناها
هي الجمال بألوان منوعة
وحسبنا من مجاليه محياها!
المرآة العميقة (كثيرا ما يقف الشاعر في الصباح الباكر عند ترعة المطرية ينتظر السيارة بينما يقرأ في الماء أمثال هذه المعاني.)
المرآة العميقة: ترعة المطرية (من تصوير الفنان إسماعيل حافظ).
أرعشة الماء هذي
عواطف للغدير؟
وخضرة الماء هذي
رمز لروح قرير؟
تقيم فيه المرائي
حلى لغير انتهاء
غنى لراء ورائي
في الأرض أو في السماء!
قد مسها الحب حتى
صفت صفاء الحنين
فلست أعرف نعتا
لها يحاكي حنيني
قرأت فيها المعاني
من السماء تطل
وكل معنى أمامي
يجل عما يجل
لكن أحس بروحي
فيها المرائي الخفيه
كأنما الماء يوحي
رسالة العبقريه
ماذا تحجب فيه
وطبعه أن يبوح؟
حتى على عاشقيه
يخفي شعور الصريح
يا ماء كم فيك معنى
شأى المعاني العميقه
أحسه وهو يخفى
كما تحس الحقيقه
ذكرى ميت غمر
إن أنس ليلة
Bella Vesta
81
حينما
لاقى الصباح الليل بين يدينا
هيهات أنسى رحلتي وتمتعي
في الليل عندك لا أبالي الأينا!
سرنا إزاء الماء نطوي جسره
والماء في عجب يسائل عنا!
فنصون في أسماعنا تسآله
ونمر نخطف منه معنى معنى!
والليل كالصب الكتوم فسره
باد وخاف: في دجى وشعاع
وكلاهما متمازج متماثل
إلا على الفنان والإبداع
سرنا ووحي الليل يشملنا هدى
ووساوس الغرس الحفي الراني
وطويل أشرعة الزوارق بينما
هزت من النسمات والألحان
والماء في الرياح
82
ملء سكونه
قلق وعطف في سمات الشاعر
تخذ الحقول جواره ندماءه
وتخذنه رمزا لرب قاهر
ونرى مصابيح الزوارق حالها
حال الطفولة في التوثب نورها
المالحون حيالها في فرحة
بشعورها وغناؤهم تصويرها
حتى أتينا «ميت غمر»، دليلنا
نسماتها وعبيرها وضياؤها
دنيا عواطفها انتظمن حدائقا
وترف في صحف المياه سماؤها
وحنية القصباء تحسب عندها
همسا وتلمح في المخابئ «موسى»
والنيل في روع التقي نسيمه
وكأنما أسرى النسائم «عيسى»
ولقد جلست إلى صباحة رفقة
جعلوا المساء منورا مأثورا
فبكل لفظ من محبتهم غنى
كالنور، والإيناس بز النورا
حتى نسيت الوقت كيف أعده
بعض الوجود ونحن لا نرضاه؟
ربط الهوى بين القلوب فكل ما
عادى الهوى ننساه أو نأباه
وأتى النهار وكم حمته أطايب
غنى بها المجداف والملاح
والنيل يدعونا فنقبل جوده
وكأنما أمواجه أفراح
فرحت بنا فرح الكريم بضيفه
وتألق الزبد الوضيء عليها
وكأنه شعر الحنان مرحبا
وكأنما كنا نحج إليها!
في حمى الهدير (جلسة في حديقة دهتورة عند قناطر زفتى.)
ها هنا في حمى الهدير
ووثبة الموج ثائرا
نطلق الشعر والشعور
ونجعل الروض شاعرا! •••
ها هنا والعشب جم الظلال
نسائل الربوة عن حلمها
فلا نرى إلا معاني الجمال
تهفو من الأرض إلى أمها
والنيل يجري في ابتهاج عجيب
ورعشة النور على صدره
يجري كما يجري الشرود الغريب
في سكرة الجاري إلى قبره
بعثر الموج وسر سير ماء
يا نيل! لكن قف بروح الحبيب
ما أروع الحمرة مثل الدماء
في هذه اللهفة بين القلوب
يا راويا تهداره ما روى
من سيرة الناس وسير العصور
إن يحجز الماء ففيك انطوى
من هذه الأسرار وحي الأثير
يا نيل حر أنت مهما سعوا
في حجزك اليوم فأنت الأبي
تفيض بالحب لمن قد رعوا
عهودك الحرة فيض العتي
وهذه الأشجار مثلي لها
في نظرة نحوك نجوى الحنان
وهذه الخضرة في سمعها
من صوتك الداوي معاني الأمان
رويتها بالصوت أو بالمنى
من قبل ماء عسجدي منير
والراحل الماضي - كن قد مضى -
قلبي، فهل يغنى بهذا الهدير؟ •••
ها هنا في حمى الهدير
ووثبة الموج ثائرا
نطلق الشعر والشعور
ونجعل الروض شاعرا!
الصنوبر الكاذب (في حديقة دهتورة عند قناطر زفتى.)
عد يا غراب إلي! عد! لا تخشني!
كل الحنان لدي لو حادثتني
هذا الصنوبر كاذب في وهمهم
أتراك أنت مثيلهم في فهمهم؟
أخشيتني وخشيته أم أن ما
تهواه أنت من الملاحة قد سما
وأنا القنوع وأمة الغربان
في ذوقها جازت مدى الفنان؟
عد يا غراب! فللصنوبر دعوة
مثلي وللغرس المهفهف لفتة
ماذا أبيت صداقة الإنسان
فانظر إلى الشجر الصديق الحاني!
زفتى في المساء (لمحة من شاطئ ميت غمر.)
ألقت على «النيل» المغازل ضوءها
والضوء فوق حنانه مبهوت
لكنما يحيا على تحنانه
وسواه في الماء العتي يموت
وتلوح أخيلة الضياء غرائبا
فيهن «أوزيريس» والتابوت
و«النيل» حي كائن فشرابه
في الذكريات وفي الأشعة قوت
أرسلت أحلامي إليه سوائلا
فرجعن لي شعرا عليه حييت!
رثاء هندنبرج (توفي زعيم الأمة الألمانية وقائدها الأعلى في الثاني من أغسطس سنة 1934.)
يا شهيدا في «تننبرج» أفاء
83
هكذا المجد ووحي الشهداء!
عشت للشعب ومت المرتجى
باذل النفس شعاعا ومضاء
ليس من يمضي شهيدا في الوغى
فوق من يمضي شهيدا في البناء
ليس من يحفظ حق الأقوياء
مثل من يرجع حق الضعفاء
نم هنيئا أيها الشيخ الذي
جدد الشعب شبابا ودماء
نم هنيئا! ذاك حق نلته
بالخطير النصر بدءا وانتهاء
واسع الحيلة منقضا بها
فإذا الباغي هباء في هباء
نم هنيئا إن يك الموت وغى
فخلود الذكر حرب للفناء
نم بترب ناضر قدسته
بالضحايا البسلاء السعداء
كل شبر منه ذكر رائع
ومعان من تفان وفداء
ضمخته عزة روحية
ودماء قدرها فوق الدماء
شرف الأوطان من عنصرها
وإباء الضيم في يوم الإباء
حينما حاصرت جيشا مزبدا
بين نارين لأجناد وماء
حينما غطى البحيرات اللظى
وتراءى شعلة نفس الهواء
والعدو الضخم في مصيدة
فاتت اليأس ولم تعد الرجاء
لم يجد في الأرض أدنى مهرب
وتناءت عنه أسباب السماء
وهوى في الأسر لا عن ضلة
أو غباء، وهو في أسر الذكاء
إنما صادته من أحلامه
قوة فوق القوى والأقوياء
قوة الإخلاص في تضحية
عندما أحدق بالشعب البلاء
قوة تعريفها أسمى مدى
من تعاريف التفاني والفداء! •••
يا دفينا في «تننبرج» أفاء
هكذا المجد ووحي الشهداء!
بطل الحرب جريئا فاتحا
يملأ الرعب لذكراه الفضاء
والأجل الشهم في كسرته
يجعل التسليم كالفتح سواء
شامخ الرأس يفدي تاجه
ويصون الشعب صون الأمناء
يا عظيم الخلق سلما ووغى
وعديم المثل في يوم الوفاء
لم يغال الشعب في تكرمة
أو بقربان لحب ووفاء
كيف والنفس التي بددتها
هي أسمى من بروج وبناء؟
84
نعشك الهادئ ما أشبهه
بسكون الدهر من بعد القضاء
حاطه من كل ذكر أثر
ناطق قبل البرايا بالثناء
دائم الرهبة من شخصك في
حرم الخلد ومحراب البقاء
دائم الروعة في تقديسه
وكأن الحب هالات الضياء! •••
يا دفينا في «تننبرج» أفاء
هكذا المجد ووحي الشهداء!
لك في الموت الذي كنت تشاء
من وفاء، ولك الحي النداء
ولك المجد الذي أطلعته
لشعوب الأرض نورا يستضاء
معجز القرن الذي لم يحتفل
أهله إلا ببطش أو رياء
جئته المنقذ من أدوائه
بالعظيم الخلق حي الكبرياء
آه! من لي أن أرى في وطني
هذه العزة في يوم العزاء
نحن صرعى مأتم في مأتم
حرم الذل به حتى البكاء
بينما شعبك في لوعته
رافع الهامة محسود اللواء
ما زعيم أنجبته أمة
مثل من أنجب فيها الزعماء
إيه «هندنبرج»! هذي غاية
عظم الموت ووحي العظماء
إلواز وأبيلارد
Héloise & Abélard (قصة الحب الخالد)
85
كان «أبيلارد» من أشهر فلاسفة المسيحية في القرن الثاني عشر للميلاد، وبلغ مركز أسقف كنيسة «نوتردام دي باري» في شبابه بفضل معارفه وذكائه الخارق، كما كان معلما محبوبا ساحرا، فانتخب معلما للآنسة الحسناء «إلواز» قريبة الأسقف «فلبير» ومن ثمة بدأ الحب ينشأ بين «أبيلارد» و«إلواز»
Heloise & Abelard
حتى بلغ غاية العشق والشهوة، ففصل بينهما ونال «أبيلارد» من التعدي الوحشي عليه ما ناله بإغراء «فلبير» ... وأخيرا صار «أبيلارد» راهبا كما ترهبت «إلواز» وعانى «أبيلارد» الكثير من الاضطهاد ومات شقيا، وعاشت «إلواز» بعده سنين في عذاب الحب الغبين. وبعد وفاتها بزمن جمع الأبرار رفاتهما برا بذكراهما في مدفن واحد، وهما الآن مدفونان بمقابر «بير لاشيز» بباريس.
أي معنى من الجمال
أي معنى من الهوى
لم يخافا من المحال
حين خافا من النوى
في نعيم من الألم
وحياة من العدم؟!
نشدا جوهر الحياه
فإذا الحب صائنه
نشداه بلا انتباه
حين نادت مفاتنه
نافذات إلى الصمم
دافقات من النغم!
ما رعى الحب فيلسوف
إن للحب دينه
لا ولا العالم السخيف
وهو يرضي جنونه
بل دعا الحب عابديه
دعوة الخالق النزيه
قد هوى الأسقف العظيم
فتسامى وقد هوى
إيه «إلواز»! هل غريم
مرشد ضل ما ارعوى
وضلال الهوى هدى
وهدى غيره سدى؟!
كنت تلميذة العلوم
ثم أستاذة الغرام
فتساقيتما النعيم
وتناسيتما الأنام
في وجود حواكما
لم ينله سواكما!
ثرتما ثورة الغرام
وأتى بعدها اللهب
لم تخافا من الحرام
هل حرام لمن أحب؟
وأبى الدهر ما أبى
من وصال ومن صبا
فإذا الحرب معلنه
ويل حرب لعاشقين
ليس للدهر من سنه
عن حبيبين صادقين
سنة الدهر دائما
ساد في الحب ظالما!
أيها الدير مرحبا
إن غدا الحب كالشريد
ملجأ الحب إن أبى
عالم الأسر والعبيد
عزة الحب في الذرى
وهو من ألهم الورى!
فرقا بعد نعمة
في وصال هو الحياة
فتداوى بنقمة
والتداوي من الممات
في اعتزال كلاهما
نال ما نال منهما
وعدت قسوة الأنام
وعدت قسوة الزمن
و«أبيلارد» في الرغام
حين «إلواز» في المحن
وإذا الموت راحم
وإذا الموت ظالم!
مات والموت في العذاب
في اضطهاد على اضطهاد
شابه الوصل لا العقاب
إن يصن ذكره الوداد
فإذا الموت مغنمه
وإذا العيش مأتمه!
ومضت بعده السنون
في حماها نشيده
حين «إلواز» في جنون
دائما تستعيده
من أناشيد للنهر
في حنان من القمر!
وإذا الموت مشفقا
جاءها بعد قائدا
ما رأته منافقا
أو رأته معاندا
هو أصفى من البشر
هو أحنى من القدر!
فإذا الحب في الثرى
قصة جد خالده
قد عراه الذي عرى
وثوى الحسن عابده
رغم دنيا معانده
بقيا وهي بائده!
رقدا رغم فرقة
رقدة الموت في حنان
حقبة بعد حقبة
فإذا المذنب الزمان
ينصف الحسن والهوى
مثل من تاب أو هوى!
وإذا طاهر الرفات
يجمع الآن في الممات
بعد أن ذاق في الحياة
كل لون من الشتات
ذاك قبر مقدس
كل ما فيه يحرس!
رقدا الآن في وصال
رقدة الحب والجمال
واستباحا من المحال
كل غال وكل غال
ثم نالا من الدموع
كل شعر لنا يضوع!
نصير العمال (إلى الشريف عباس حليم في سجنه.)
مهما اضطهدت فثق بأنك غاية
للحب، لا لإساءة الأعداء
عادوك للشرف الرفيع وإنما
هو وحده الباقي على الأنواء
يا خادم العمال حسبك رتبة
في الناس هذا البر بالضعفاء
بئس السياسة! بئس! كيف تعيب ما
أولى به الإكرام في الكرماء؟!
إن حرمت لقب «النبيل» فإنما
أنت العظيم النبل في النبلاء
أو أودعوك السجن فهو مثابة
من وصمة الجبروت للشرفاء
ولسوف ترفع رأسك العالي غدا
في حين تخفض أرؤس «الرؤساء»
هذي الجناية من تفرق أمة
شقيت مرافقها من الزعماء
ما ضرهم لو ناصروا «الوفد» الذي
ما زال مطلع عزة ورجاء؟
ما ضرهم؟ وهل التفرق والهوى
إلا مهاوي الذل دون مراء؟
بئس السياسة! تقتل الخير الذي
يحيي الإخاء، فمات كل إخاء!
نور الشمس
تناولته الإعجاز من صنع خالقي
ألم يك بعض الشمس منذ دقائق؟!
86
تفجر منها كالينابيع دافقا
87
وفاض بموج كالعواطف خافق
وأفعمنا: لم ندر هل هو طاقة
تسيل أم الذرات من سهم راشق؟
88
يقبلنا في الصبح تقبيل وامق
وعند غروب الشمس في روع عاشق
ويضربنا في لفحة الظهر جانيا
كأنا تلقينا أراجيف حانق
وهل كان نور الشمس مرا وسائغا
سوى جوهر الدنيا ورمز الحقائق؟
قطار الفن (خواطر شعرية نظمها صاحب الديوان في قطار البحر يوم 18 أغسطس سنة 1934 وقد نعته بقطار الفن لما فيه من نماذج الجمال الكثيرة وأهل الفن وكان في صحبته الشاعران الدكتور زكي مبارك وعبد العزيز عتيق.)
سر يا قطار مجازفا ومغامرا
أو طر فحظك أن تكون الطائرا
89
حملت ألوان الجمال، ومن ينل
ما قد حملت يطير جريئا قادرا
هذي الحقول تلفتت لك بغتة
متعجبات كالسحاب شواعرا
يرقصن في وهج الأشعة مثلما
ماج الهواء عواطفا وخواطرا
وتمر بالشجر الذي في وثبه
وهو الأسير نرى المقيد آسرا
والنيل تعبره كعبر عواطفي
بحر الحياة وقد تمرد زاخرا
قد جاء بالفيض الكريم مبكرا
وكأنما قد خاض حربا ظافرا
وكأنما مصر الشقية في الأسى
والبؤس قد ناحت فعجل باكرا
90
متلاطم الأمواج، مشتعل الهوى
متوثبا، متجمعا، متطايرا
والنخل تروي ما يثير شجونه
فترى المياه الداميات ثوائرا
والأرز زاهي اللون، لكن زهوه
كممثل طرب يهز السامرا
وتدلت الصفصاف حين شعورها
في الماء غرقى تستثير الشاعرا
والجدول الآسي يئن لفقدها
وكأنما لم يأت ذنبا غادرا
صور الحياة الصامتات، وكلها
عبرن أفئدة وكن مشاعرا
وخطفن من وحي الجمال مصاحبي
والنور كم سرق الملاحة ساحرا
سر يا قطار ولا تقف! ما وقفة
لك حين تحمل للحياة ذخائرا؟!
سر يا قطار إلى الشواطئ فاتحا
واحم الجمال العبقري الثائرا
قد صرت بالفن الجميل مقدسا
وغدوت بالحسن المقدس قاهرا
حرب الشاطئ (استيحاء شاطئ استانلي)
أوما لهذي الحرب من آخر؟
يا عابثا بالشط! يا ساخر!
أوما سمعت الصخر في فرق
مستسلما كالفارس العاثر؟
أوما رأيت الرمل منصرما
مثل الأسارى في يد القاهر؟
هذي جنودك في تدفقها
جيشان مكسور على كاسر
جرحى العناء دماؤها زبد
لا يستقر وجرحها غائر
تترى صفوفا في حماستها
تكبو ومنها الصاخب الثائر
وتخالطت فكأنها فرق
مهزومها في حلبة الظافر
والشمس ترسل من أشعتها
حربا على إقدامها الجائر
فنرى اللهيب على المياه جرى
جرى الأسى في ثورة الخاطر
والسحب في جزع تراقبها
فكأنها مرأى لها طائر
والناس بين الموج في مرح
لا يشعرون بروحه الحائر
والحسن عن نجواه في شغل
فحروبه كوفائه الغادر
طافت نماذجه فما تركت
إلا فؤادا في الهوى صاغر
وتجردت من كل ملبسها
إلا ملابس روحها الساحر
يا بحر! يا مرأى الحياة ويا
حرب الحياة حييت للشاعر!
المهلهلة
هلهلت ملبسك الجميل كأنما
هو ملبس المأسورة المتوجعه
كتفاك قد عريا كأن موكلا
بالأسر مزق ما لبست ومزعه
فإذا نظرت إليك ثارت رحمتي
ومحبتي وغدت بحسنك مودعه
وفتنت بالحسن الذي أبدعته
في زي عربيد يقدس مبدعه!
الراية السوداء
رفي على الشاطئ في تحذير من أموا المياه
رفي وإن كان احتشاد الموج يكفي روعة
أما على الشاطئ والحب عتي كالعتاه
من ذا يصون الناس من بلوى مداه ساعة؟ •••
طاحت بنا أمواجه تطغى كما يطغى الخضم
وتتابعت منا ضحاياه فهانت كالرمال
بحر ولكن عمره عمر العواطف والأمم
قد بز في إيغاله الجبار آيات الخيال!
المسافر
من بين جون السحاب
أطل وجه القمر
كأنهن الصعاب
لمؤمن في سفر
سر يا ملاك السماء
ولا تبال الصعاب
ففيك روح الرجاء
وإن تسر في عذاب
ما نورك الحي إلا
رجع الهوى من قلوب
ترعاك نورا وظلا
كما تراعى الحبيب
فسر ولا تبتئس
وكن لنا بلسما
فكلنا قد يئس
لو لم يناج السما
فيضان النهر المقدس (نظمت عند «كازينو الحمام» بالجيزة في أصيل يوم 4 سبتمبر سنة 1934.) «النيل» - يا للنيل وهو مواف
حرب على الأحباب والألاف!
أوفى على الجزر الغريقة ضاحكا
وقضى على الشط الودود العافي
فإذا الغراس شهيدة وشهيدة
وإذا الضفاف غدون غير ضفاف
والموج مصطفق كخفق قلوبنا
في الروع أخفاهن ليس بخاف
متوثبا وثب الخيال مقيدا
بحقائق الزمن العتي الجافي
متجلببا من سمرة ذهبية
جمعت من الآصال والأطياف
في فرحة الشيخ الوقور شخوصه
وبرعشة المتمرد المتلاف
جاءت أساطير الجمال بمائه
من منبع الجنات لا الأعراف
فتقدست نفحاته حتى سرى
هذا النسيم بروحه الرفاف
الملهم النوتي في إنشاده
شعرا من الآباد دون قواف
مزج الروي به تموج مائه
والبحر وقع وثوبه الهتاف
وحي يسير إلى الجداول عندما
تشدو نواعير لها بزفاف
وتئن كالشادوف أنة عاشق
واف وقد بات الحبيب يوافي
91
هو عرس هذا «النيل»، في تجديده
عرس لأحلام لها ألفاف
عرس تباركه القرون حفية
وتحفه الأرباب في آلاف
وترى «الطبيعة» كالمصور عنده
نقشته في الأفق الحنون الصافي
حتى بدا سحر الغروب كسحره
في غير إغراق ولا إسفاف
ومضت مشاعرنا بلهفة شاعر
في الأفق طائرة كطير واف
وعلى خيالات المياه كأنها
تصغي إلى فيضانها الرجاف
وتبادل الأحقاب نجواها من ال
أحداق والأسماع والآناف
حتى نعيش العابدين بعالم
للنيل من سحر ومن أطياف
على رمل الشاطبي
الموج على الشط توالى
كاللهفة للنزق العاثر
والماء هدير يتعالى
كاللوعة في روح الشاعر
والعشب على الصخر تجلى
كالتوبة من قلب الكافر
صور للحس ممثلة
فإذاها كالمعنى الساحر
باللمس تحس فإن لمست
غابت في المهجة والخاطر
غابت أو عادت في صور
أخرى في ذاكرة الذاكر
والحسن على الرمل ترامى
كخيال الإصباح الباكر
أتملاه وكأن به
ألحانا من صبح آسر
حبست فيه فإذا صدحت
صدحت في إيحاء قاهر
وكأن النظرة تسقيني
خمرا من معناه الطاهر
فإذا الأجسام مقدسة
كمعاني الصوفي الحائر
تشتاق ولكن عزتها
خلقت للنظرة لا الناظر
تهوى الأهواء مبعثرة
وتثلم كالضوء الخائر
ويطوف الناس بكعبته
وهو المستأنس والنافر
بالى العباد وما بالى
فصلاتهمو قلق زاخر
وصلاة البحر صلاتهمو
كم يشقى البحر بلا عاذر
جذبته إلى الحسن معان
والشط به لاه غادر
ويبث الزفرة في زبد
يفنى كالشوق المتناحر
وإذا الساعات تمر سدى
إلا للفنان الماهر!
لفتة الوداع (عند شاطئ استانلي في 9 سبتمبر سنة 1934.)
حان الوداع فناج ما
سمح الجمال به وصل
يا قلب ما بعد الودا
ع سوى أسى العيش الممل
خذ ما استطعت من الأشع
عة في التأمل والتملي
ومن انسجام الحسن في
نور على ظل وظل
ومن الغروب، وشمسه
وهج على وهج أجل
والسحب تسبح فوقها
في قرصها الناري مثلي
حتى تغيب وعندها
أهوي إلى شجني المضل
أهوي كما تهوي إلى ال
بحر العظيم المستقل
متلاطما بالموج في
ظلم على ظلم وذل
خذ يا فؤادي وادخر
كالنمل من حسن ودل
فالحسن زادي والبعا
د رفيق حرماني وليلي
هذي كنوز لا تحد
وكلها بعثرن حولي
خذ وادخر منها! لعل
لي أستجم بها! لعلي!
البشبيشي الشاعر
92 (إلى صديقي الأديب الكبير محمود البشبيشي.)
يا صديقي الذي تجلى بألوان من النبل في معاني الأديب
ما عزائي الوفي في خطبك المدمي قلوبا في فقد هذا الحبيب؟
أسرة الشعر بيتكم وابنك الراحل من نفحة الخيال العجيب
كان رمزا للشعر في عيشة الحر وفي روحه الجميل الخصيب
أي لحن يرثيه إلا حنان من أب للأب العظيم الأريب؟
فاض من مهجتي كما فاض بركان بذوب من الحميم اللهيب
شد هذا الحنان من مهجة الشاعر في موقف الوداع الرهيب
صنته عنك ... إن محض عزائي ووفائي لون من التعذيب
وسألت الشموس أن ترسل النور معيدا لقلبك المسلوب
وسألت الجمال أن يبعث البسمة كالطب من حصيف طبيب
وسألت الحياة في كل شيء أن تغني نشيد هذا المغيب
وتميط اللثام عن ذلك الخافي من الحسن في رحيب الغيوب
لتشيم النعيم في ملكه الحافل بالحب لا الأسى والنحيب
في سماء من صحبة «الشاعر الأسمى»
93
وفي حسنه النضير القشيب
حيث يوحي لنا بما يبعث الرحمة والحب في الفؤاد الجديب
ويغني لنا بأسمى عزاء لبكاء الصبا ونوح المشيب
غول الحرب
ألا تستحي يا حاصد الناس بعدما
حصدت ملايينا حصاد خراب؟
ألا تستحي؟ لكن لمن أنت تستحي
إذا الناس ألقوا حظهم لكلاب؟!
لقد تركوا دنياهمو رهن عصبة
94
تهيئ للتدمير كل سبيل
وما فقهوا أن الحياة فنونها
فنون سلام لا فنون عويل
ولولاهمو كان التعاون ملة
تقدس والإنسان سيد نفسه
ولم نبق أشباه الضواري كأننا
أعاد، فكل في أحابيل رمسه!
خراب الفلاح (مرفوعة إلى الشريف عباس حليم.)
من ذا سواه المعاني
ونحن أهل المغاني؟
إذا شكونا فعدل
فكلنا شبه جاني
يا للضرائب باتت
هي الخراب الثاني
كأنما ما كفاه
عيش عديم الأماني
عيش؟ وهل ثم عيش
على ردي وامتهان؟
أبناء «مصر» المواضي
من البعيد الزمان
هذي القذارة رمز
لهم بكل مكان
هذي البيوت قبور
تموت فيها الأغاني
أما الطعام فوهم
أما الكساء ففان
والكل شبه مريض
يسام خسف الجبان
وما لهم من صديق
وما لهم من ضمان
فيا نبيل المساعي
لأنت أكرم باني
كم عامل في هوان
أغثته من هوان
فأنقذ أخاه وحقق
رجاء شعب يعاني
رسامة الآثار (إلى الآنسة الشاعرة جميلة العلايلي في منفاها بأسوان.)
رسامة الآثار تفتنها الدمى
أترى فتنت روائع الآثار؟
وافت رسائلك العزيزة بالهدى
والوحي من ملكوتها الجبار
قد كنت طائرة بنشوة ساحر
جاز السماء لعالم سحار
والآن في شكواك عدت قريرة
في جيرة تسمو بروح الجار
فإذا اكتئابك كالغمام مصفق
وإذا قرارك صار غير قرار
روح كروحك كالشموس تعددت
وتغيب إدراكا عن الأبصار
لا بدع إن شاقتك أطياف السنى
ما بين آثار وبين صحاري
عكست بمرآها السنين وما طوت
من رائع الأحداث والأسرار
وحنت على «أنس الوجود» كأنما
تحنو على معبودها المختار
الهيكل البسام بين حريقه
عند الغروب وبين دمع جار
فيه الحنين مع الأنين تجاوبا
كتجاوب الآصال والأسحار
غرق الجمال شهيدها في عثرة
ولو أنه حي على الأدهار
ويخال «أوزيريس» في إيحائه
قد عاد رغم عدوه الغدار
و«ست» الخئون على الصخور بذلة
جاث وتلطمه يد التيار
ودموع «إيزيس»
95
يحاول طهرها
تطهيره فيظل رهن العار
ما شئت عندك من فنون حرة
للشعر ما يزهى على الأشعار
فلئن نفيت - وللسياسة غدرها -
فالنفي بعض كرامة الأحرار
إنا سواسية بما نشقى به
وكأننا هدف لدى الأقدار
لم يبق من صور العزاء لمثلنا
إلا عزاء النفي والأسفار
إني بمنفى هائل من عزلتي
وكذاك أنت بلوعتي وبناري
لا سلم للقلب الأبي وحوله
دنيا من الأقذار والأكدار
لا سلم إلا في مخادعة المنى
بالفن نسدله على الأوغار
96
فلقد طغى الشر العميم وأصبحت «مصر» الحزينة دولة الأشرار
سؤال النحلة
جاءت تسائل نحلتي السمراء: «أين الزعفران؟
أين افتنان النرجس الغض وأين العيسلان؟
أينت حلى السيراس والسنبل، أحلام الحسان؟
97
أينت جواهرها؟ وهل ضاعت كما ضاع الزمان؟»
فأجبتها: «يا نحلتي للزهر أعمار تصان
عمر لنضرته وعمر في البذور على أوان
وسواهما عمر لأخيلة الفنون وللبيان
ولأنت شاعرة الشواعر والخبيرة بالجنان
ولأنت أدرى من خيالي بالجمال والافتنان
فتمثلي مثلي الربيع وجوه السلس الليان
وتمتعي في الحلم بالزهر الذي ولى وبان
الآن يحيا عطره في الذكر من بعد البنان
والآن داعب تبره تبر الأشعة في أمان
هو ملء أنظار الفنون وإن يغب دون العيان
فتأمليه، تأملي! وتناولي منه الجمان
وترنمي وكأنما عاد الربيع المستلان
خير لنا دنيا الخيال تعف عن دنيا الهوان
ومن ابتهاجك وابتهاجي قد تصاغ قصيدتان
أنا عازف بهما كعزفك إن أساء لنا الجبان!»
يوم في سنتريس (مهداة إلى الصديق الدكتور زكي مبارك ذكرى زيارتنا لسنتريس يوم الجمعة 19 سبتمبر سنة 1934.)
يا يوم إيناسي الذي لم ينفد
ما زلت في خلدي وإن لم تخلد
بل أنت في الخلد الأتم مشعشعا
في الذكريات موزعا في المشهد
نشوان من لقياك، لم أبرح كما
لاقيت أنسك في سناك السرمدي
جعل الصديق بك الضيافة نعمة
لا تنتهي، ومآثرا للمفتدي
خلقت من الإحسان حتى أنني
أنسيت ما يجني الزمان المعتدي •••
يا يوم إيناسي الذي لم ينفد
ما زلت في خلدي وإن لم تخلد
جئناك أشباه العفاة هواية
للحسن، لا كالبائسين القصد
فإذاه
98
ينهل فيك بين مذوب
شبم، ويلمس فيك بين مجسد
والحسن أكرم ما يكون لكارم
والحسن أبخل ما يكون لمجتدي
مثلت معاني الصفو في قسماته
وجرى الهوى جري المعاني الشرد
ما نالها إلا التصوف وحده
بنهى الآله العبقري الأوحد
هذي «الطبيعة» في جلالة ملكها
إن الجلالة بالسذاجة تبتدي
بسمت إلي فكان في بسماتها
من عالم المجهول آية موجدي
بسمت ورتلت الحياة نشيدها
وكأنني بنشيدها في معبد
أنى التفت فتنت من أطيافها
ولمحت ملء الغيب ما لم يوجد
وأصيخ للذرة التي وقفت كما
وقفت جنود الدهر للمتمرد
فتنم عن أسراره في صمتها
وتحن مثلي للخفي المبعد
وأراقب الرياح
99
يزخر موجه
بالذكريات وبالحنين إلى الغد
ونمر في الطرق الوديعة صانها
من شامخ الأشجار كل مجند
والجدول الجاري كمرآة لها
وبه من الآباد ما اشتاقت يدي
غسلت عذارى الريف جيرة شطه
حللا كأصباغ الخريف العسجدي
متضاحكات والخرير كأنه
أصداه فرحتهن في الماء الصدي
100
ونزور ساقية الصديق وعندها
للذكريات مدامع لم تعهد
ونرى الصبابة في النواح وطالما
بالأمس غنت بالنشيد المسعد
ونمص من قصب يطيب لنا كما
تلهو الطفولة في رضى متجدد
ونزور من تلك المنازل وادعا
لكنما خلقته عزة سيد
ونرى الجمال كأنما إفصاحه
عين الغموض لباحث متفقد
ندريه بالحس الخفي وإن يكن
ملء النواظر والمسامع واليد
ندريه من روح البصيرة قبل أن
يدرى بلحظ عاشق متودد
فإذا الجمال هو الحياة، وسره
هدي الموفق أو ضلال الملحد
وإذا الألوهة لا تلوح لجاحد
وتلوح للمتلهف المتعبد! •••
يا يوم إيناسي الذي لم ينفد
ما زلت في خلدي وإن لم تخلد
حفلت بمجدك «سنتريس» وعيدت
في كل ما يهواه قلب معيد
قد جئت من وطن الجمال مفوفا
بأشعة ومنمقا بزبرجد
فإذا بأهليها غنوا عن كل ما
يغني سوى شرف النهى والمحتد
حتى النبات له ازدهاء مسود
ولو أنه يلقى عناء مسود
والبركة الخضراء آسن مائها
في عزة من شوقنا المتردد
ومن الديوك على السطوح مؤذن
وكأنما هو في صلاة المهتدي
ومن السوائم ما يجل فتونه
بالمنظر الحالي وبالعشب الندي
حتى رجعنا في غنى لم ينفد
ملء العواطف والنهى متعدد
لم تفتقده
101
وإن نكن نؤنا به
كأحب ما يطغى الهوى بمصفد
سكنت إلى الرياح غير أسيرة
بينا انطلقنا في هوى المستعبد
والليل كالمسحور حيث تقلنا
سيارة طارت كطير ممرد
تتراقص الأشباح في أفيائه
ما بين عزاف وبين مغرد
ومنسق اللبخ المهيب برهبة
هي كالتأمل للأبي الأيد
وتعود ألوان المفاتن بعد ما
ذهب الغروب بها ذهاب مبدد
فكأنها بعثت من الأبد الذي
طاحت إليه على الخيال المزبد
وكأنها غمرت جميع كياننا
فرجعت في حلمي بأروع سؤدد
حلم طوى صحف الدهور ولم يدع
عند الطبيعة ما استسر بجلمد
أو ما تحجب كالظنون بخاطر
للكون في هذا الأثير المفرد
102
حلم هو الفن الجميل وإن يكن
إبهام إحساس بروح مخلد
والناس ترقبنا فتلمح نشوة
كبرى فتتبعها ظنون الحسد
وكأننا عدنا نبشر بالهوى
والحسن في دنيا العقوق لتهتدي •••
يا يوم إيناسي الذي لم ينفد
ما زلت في خلدي وإن لم تخلد!
في مولد السيدة زينب
ضحكنا للهموم وقلت: هيا
نضل همومنا بين الزحام!
فسرنا في مواكب حاشدات
تدفق كالظلام على الظلام
ولا يجدي عليها النور إلا
كما تجدي تهاويل المنام
فودعنا التنفس حين سرنا
فكيف إذن بتوديع الكلام؟!
وأظمأنا الزحام فما شربنا
سوى فرط الأوام على الأوام
وكنا قد نسينا السحب حتى
رأينا البدر يسبح في الغمام
ويشرب راحه، ولكم شربنا
من الأضواء راح المستهام
ولكن هذه ساعات وهم
تخلت عن تعلات الغرام
وقد ثار الغبار فصار معنى
لغير السلم في مثل القتام
ونحن نسير إعجازا كأنا
خلقنا للزحام بلا عظام
نسير ويدفع التيار دفعا
جسوما في موائجه الجسام
كأن «النيل» فاض فكان خلقا
وكان حطامه صور الطغام
وكم منهم ولي في ثياب
مضمخة بألوان الحرام
يشق الجمع مزهوا قريرا
وليس سواه من أهل «المقام»
كأن معالم الزينات قامت
تتوجه على المهج الدوامي
يبارك كل مكلوم عليل
ومن أمثاله علل الكلام
وتلثم راحتاه، وليس أولى
بلثمهما سوى حد الحسام
مهازل في المواسم صارخات
كأن الرشد نهزة الانتقام
إذا راجت بها الأسواق كانت
رواجا للرذيلة والتعامي
مواكب ما لها عقل وإلا
فأحلام تبوء بالاصطدام
كأن البعث أخرجها مرايا
لأنواع الخصومة والوئام
نسير ويزخر الميدان حتى
ليزخر بالكرام وباللئام
قد انسجموا على صور اضطراب
فساءت في اضطراب وانسجام
وألوان الطعام تفوح حتى
تخال سلاح أعداء السلام «فللأحشاء» ما شاء المنادي
تهاويل الدعاية للحمام «وللأرز» المفلفل في صوان
صياح جر أنواع الخصام «وللحلوى» على العربات نجوى
لشوق الأم أو شوق الغلام
تموج الطرق بالآلاف موجا
نشاوى أو ضحايا للسقام
فليس فيهم لمبتسم مكان
فإن يبسم تعثر في ابتسام
وتنبح بينهم بالزمر شتى
من العربات أو قطر الترام
كأن الحشد أرهقها جنونا
فلم تعبأ بمعنى الاحتشام
تعلق كل منكوب عليها
فما لاحوا بها مثل الأنام
وطبل غيرهم والرقص يدوي
وأعلام المشايخ في احتدام
وأمواج الجموع تصب صبا
إلى حرم الزيارة في عرام
وأخرى في تدفقها حيارى
وقد أودى بها عبث الحرامي
وهذا القرد يلعب في سرور
كأن سروره سكر المدام
وهذا البهلوان الطفل يمشي
على رأس تدحرج في الرغام
وهذي الطفلة الحسناء تلهو
برقص للأنوثة في اضطرام
مفاتنها بعينيها تراءت
فكيف إذا رأت دور اللثام؟!
وكم من باعة سرحوا وكانوا
شكول النابغين من اللئام
وكم فوق الحوانيت ابتهاج
بأضواء كأوسمة سوامي
وعند الجامع المعبود شتى
من الزينات مشرقة النظام
يضيع جمالها وكأن مرأى
مفاتنها حطام في حطام
كمرأى الجائعين وقد تهاووا
على قصع الدنيء من الطعام
ومرأى كل فلاح شرود
فما يدري الوراء من الأمام
ومرأى كل غانية لعوب
أحق من المهارة باللجام
ومرأى كل راضعة وباك
وساقي الشرب كالموت الزؤام
ومرأى كل شحاذ أصيل
يلوح بعزة البطل الهمام
ومرأى اللاعبين وإن منهم
لأحلام الطفولة كل عام
ومرأى التائهين وليس فيهم
سواي أضل في هذا الزحام!
رثاء الشابي
أبا القاسم الشابي! أبا القاسم الشابي!
مكانك في الأخرى مكانة أرباب
أبى الخالق الفنان جلت فنونه
لمثلك إلا الخلد في دار أحباب
وما المبدع الفنان إلا أشعة
من الله لم ترجع كرجعة غياب
سقتنا رحيق الفن صرفا وودعت
فأين مذاب النور يملأ أكوابي؟
وأين الجمال العذب ألحان شاعر
خوالجها للفن أسباب أسباب؟
وأين الذي يدري خفايا نفوسنا
على البعد وصاف الحياة بإسهاب؟
وأين الذي آياته في تصوف
فواتن أقطاب تفانوا وأقطاب؟
مضت ومضى! يا هول مأساة عالم
عجائبه
103
كادت تقوض إعجابي
كأن جمال الفجر لما تركته
104
تشكل في روح كروحك وثاب
فعلمني نوح الخريف ووجده
وأسهب في معنى من الشعر خلاب
وأشبعني حزنا عميقا مجددا
بأصباغه الحسرى وإن نلن ترحابي
وناولني هذا الرثاء أشعة
حبيسة ألفاظ، طليقة آراب
تبشر بالحب الأريج، وحظها
جمال من الأحلام والفكر والداب
لها لهفة مثلي، وكم عند لهفتي
من الأدب المعبود غاية أنساب
فكل عن الباقين يبكي بكاءهم
وكل له دمع دفين بتسكاب
تغلغل فيه الشجو صرفا كأنما
يفيض بوحي من غنائك منساب
أنوب عن الراثين مثلي ولم أنب
كذلك من نابوا فليسوا بنواب
تنوعت الأحزان فيمن حياته
وإنجابه أنواع حزن وإنجاب
وما الفقد للفن الجميل بهين
فمن عمره عمر لدنيا وأحقاب •••
أتاني كتاب الود منك وطيه
نعيك! يا للروع ينسف أعصابي!
أيفرحني دهري ويحزنني معا؟!
نعم! هو جان لا يبالي بإغضاب
لقد هدم الدولات من قبل هازئا
ولم يخش من خصم وغضبة حساب
وقد عاند الآمال حتى تعثرت
فلم يبق للدنيا سوى الأمل الكابي
وما «تونس» الخضراء بعدك جنة
ولا نجمك الخابي سوى نجمها الخابي
ولكن للشعر العظيم على المدى
من الثأر ما يقضي على عسفه الآبي! •••
صديقي! صديقي! أي حزن ينالني
وأي شجون تستهين بإرهابي؟
كأن أغاني الكون قد غالها الثرى
فطاحت كما طاحت أناشيد ألباب!
ألست الذي ناجى الطبيعة كلها
وترجمها سحرا سريا لآداب!
ألست الذي غنى الأنوثة كل ما
يعبر عن أسمى الصلاة بمحراب؟
ألست الذي قد عاش في الناس ساخطا
وفي الفن مسرورا وحيدا بأوصاب؟
ألست الذي قد مات في غربة الضنى
وبشر بالعود القريب لمرتاب؟
105
وما حجبنه عن رؤى الحكمة الورى
إذا خذل الأحلام سطوة حجاب؟ •••
رحلت صديقي بعد ما جئت موصيا
بشعرك، فارحل غير خاش وهياب!
أنا حارس الفن الذي أنت ربه
وهيهات خذلاني مواهب وهاب
ولكن لي فيما نظمت مدامعا
قصائد لم تعلن - وإن أعلنت - ما بي
تلوح بأثناء السطور لشاعر
فروحي من نفسي وأرواح أترابي
الرحيق الإلهي
في غادتي، في زهرتي، في نحلتي
وبكل حسن كالحنان لمهجتي
خمر الأنوثة: نشوتي بل فتنتي
وعبادتي، فعبادتي من فتنتي
شملت معانيها خواطر نعمتي
وشأت تعاريف الجمال للذتي
ما بين إبهام وبين إبانة
يا بني القبط!
يا بني القبط! يا بني مصر! هل مص
ر سوى الفن في جلال أبي
إن يفتكم تقديسه الدائم العه
د فلستم من مصر في أي شي
أمة الفن والحضارة والحك
مة والعلم والطموح العتي
من بنيها أنتم، فكيف غفلتم
يا بنيها عن روحها الفني
أين آثاركم سوى بعض ماض
جمعته يد الشريف السري
106
كيف لا تنهضون بالأدب الغا
لي وبالفن من دفين وحي
كلكم مشرق الذكاء فعودوا
بشموس من أمسنا العلوي
أين أين التصوير واللحن والشع
ر وإنصاف مجدنا العبقري؟
قد قنعتم بزخرف العيش حتى
قد نسيتم نداءه الروحي
هذه وحشة «الكنيسة» تشجي
أين ألحان عصرها الذهبي؟
كيف تبقى عديمة من غنى الفن
وهل غيره الوضيء الغني؟
زرتها أشتهي هناء لروحي
بشعور المنزه الصوفي
فإذا بي أعود في ألم الحس
رة من حالها الشجي الشقي
كل لحن يموت فيها قبيل ال
عزف حتى وإن يكن كالدوي
ومضت مثله فنون غوال
مذ تولت عن سحرها القبطي
فانفضوا غفلة القرون وهبوا
للجمال المقدس السرمدي
أنصفوا أمسكم فليس سوى الفن
جمال أو عزة من نبي!
بيت العنكبوت
قال لي العنكبوت: «يا صاحبي الشا
عر لم تدر أي فن بنيت
أنت من يدعي الضآلة والضع
ف لبيتي، والبيت بالفن بيت
أين هذا من شعركم أيها النا
س وما فيه من غرور ووهم؟
قد خلقتم من الخيال بيوتا
وأنا من صميم ذاتي وجسمي
ليس للفن من نصيب لديكم
وهو عندي اللباب في كل شي
تضربون الأمثال بالضعف عندي
وهو حذق المهندس العبقري
كم عجيب فيما بنيت جدير
باقتداء لو أنكم تبصرون
قد هزأتم بحكمتي وأنا الغا
فر في ضحكتي لمن يهزءون!»
في معرض الأزهار
كل زهر كأنه الشمس في القد
ر وفي سره العميق الخفي
عرضوه كأنما الناس أهلو
ه ولكنهم بجهل وغي!
أي بأس لنا على مهجة الشم
س أو النجم عند رصد ورسم؟
ذاك شأن الأزهار! ليست مباني
ها سوى الرمز للجمال الأتم
وقف الناس معجبين، ولي وح
دي صلاة خفية في ضميري
أتملى الجمال في صورة جا
زت حدودا للفهم أو للشعور!
الطبيعة والناس
لا تعجبوا ... حبي «الطبيعة» وحدها
قد صان من حبي لهذا الناس
107
هي ملجأي، كم في الحياة رواية
كرواية «الحلاج» و«الدباس»!
أعطى تعاليمي السخية في غنى
عن مدح كل مقدر تعليمي
فيعود من عشقوا الجحود بذمها
متنكرين كحال كل لئيم
متظاهرين بحليتي وجواهري
ومفاخرين بكل ما أعطيت!
يا للأنام وللضمائر! ما لها
موتى؟ وكيف يتيه فينا الميت؟!
سخرت بهم صور «الطبيعة» عندما
سرقوا فنون تخيلي وبياني
وتبجحوا كالمجرمين، فليتهم
عرفوا حقوق الفن للفنان
من كل جلف خلقه كنعاله
متنوع الألوان والترقيع
كم نال من جدواي في تعبيره
فهوى، وهل يرجى ثبات رقيع؟!
الأدعياء المارقون، وكلهم
غر ولذته مع الأغرار
لا يعرف النور العزيز وإن يكن
كالببغاء يشيد بالأنوار
هذي النفوس المظلمات، فما لها
والنور؟ إن النور لا يرضاها
ظلمت من الخبث الأصيل فأصبحت
فيها الأشعة تستحيل دجاها!
النور؟ ليس النور إلا مهجتي!
أنا من شدوت به سنين حياتي
نبضت بأمواج الضياء عواطفي
وانسابت الأمواج في ذراتي
وطلاقة الفن التي لم ينتصر
غيري لمبدئها وعرف كنهها
أيعيبها الأحلاس من فتنوا بها
قبلا ومن نهلوا وذاقوا حسنها؟!
عشنا إلى زمن نرى أمثالهم
ونرى السوائم بالفخار تصيح
ونرى المآثر للجحود غبينة
ونرى الوفاء يداس وهو جريح!
العيدان (في 13 نوفمبر سنة 1934 لمناسبة قيام الوزارة النسيمية.)
كم صحت في قومي، وصيحة مهجتي
فوق الهوى ونوازع الأحقاد
كم صحت أدعو للتوحد حينما
يتهالكون تهالك الأضداد
فرجمت حتى كدت أيأس من أسى
لولا توثب مهجتي وفؤادي
وشتمت ممن يجعلون همومهم
بذر الخلاف وإن أفاد العادي
فاليوم ينقطع النباح ويعتلي
خلق الرجال وحكمة القواد
ويصيخ رب العرش غير محجب
عن شعبه، ويسود صوت الوادي
ونرى البناء وقد تصدع عائدا
كمآثر الأمجاد في الأجداد
لا خير في بنيان قوم قائم
فوق الخلاف وفوق كل عناد
لا خير في الأحزاب حين رجاؤنا
عهد لمصر وللمليك «فؤاد» •••
من مبلغ الزعماء روح أخوة
في يومنا المعدود في الأعياد
عيدان: عيد للجهاد وللمنى
وكلاهما أحياه طول جهاد
العهد الجديد (إلى صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا لمناسبة فوزه الدستوري يوم 30 نوفمبر سنة 1934.)
صن عرش «مصر» وصن «لوادي النيل»
حرية تبقى بقاء «النيل»
يا منقذ الوطن الجريح ببأسه
وبحذقه المشهود والمكفول
هذا هو اليوم الذي رجيته
والشعب بين مصفد وذليل
وزعيمه الأسمى
108
يحجب صوته
وتحجب الأحزاب صوت الجيل
عن صاحب العرش المفدى حينما
ضلت صوالحنا بغير دليل
كن أنت باسم الشعب واسم العرش من
يرجى رجاء مؤصل ووكيل
كن مستبدا عادلا، فكفى كفى
أضغاث أحزاب وبطش دخيل
كن مستبدا عادلا، واعمل على
تطهير «مصر» بصدقك المأمول
وأعد لنا اليوم المرجى عيده
عيد يبز سناه كل مثيل
وزعيم «مصر» الألمعي زعيمها
في ندوة التمثيل
109
لا التمثيل
110
يا للسنين مضت أمام تجارب
ضاعت ضياع مهازل وهزيل
ضاعت كما ضاعت جهود حولها
ومضت بكل قتيلة وقتيل
ما كان أولاها بمصر بناية
وتضامنا نرعاه بالتبجيل
كم من مواهب سخرت لمقابح
ما كان أحراها بكل جميل
تلك السنون فدى ويا بئس الفدى
للحق منتزعا من التضليل
حتى تشارف «مصر» عهد أخوة
وطهارة كسماء «وادي النيل»
لبوا نداء الوطن! (قيلت في تعزيز مشروع القرش.)
لبوا نداء الوطن
لبوا نداء الحياه
لكل مجد ثمن
والمجد مجد البناه •••
أبناء «مصر» اطرحوا
هذا الجمود السقيم!
هل يرتجى مطمح
من غير جهد عميم؟
لا شيء في الكون يحيا
بغير حزم ودأب
ولا الممالك تبنى
إلا بعقل وقلب
هلم أبناء «مصرا»
هلم! بعض الزكاه
خذوا العظائم قهرا
بالجهد أخذ الدهاه
إنا بعصر لئيم
يثور فيه الأبي
وكل باك غريم
يدوسه كل حي
لن ترجعوا مجد «مصر»
إلا على التضحيات
لن يعرف الدهر حرا
إلا عدو الممات
فكيف «بالقرش» يغلو؟
وكيف يسمو البناء؟
تقدموا أو فخلوا
هتافكم والرجاء «الشمس» جادت عليكم
بالتبر قبل الحنين
فكيف ترضون أنتم
بكل قول ضنين؟!
و«النيل» من روحه
ضحى لروح البلاد
فأين من نفحه
ذاك الهتاف المعاد؟! •••
لبوا نداء الوطن
لبوا نداء الحياه
لكل مجد ثمن
والمجد مجد البناه
تحية المؤتمر الوطني (نظم الوفد المصري مؤتمرا وطنيا عظيما سيعقد بالقاهرة في مستهل سنة 1935م فرحب به مقدما صاحب الديوان بهذه القصيدة.)
لقد ثبت الحق حتى انتصر
وأذعن للمؤمنين القدر
وعادت «لمصر» معاني الحياة
ليدوي بها بعثنا المنتظر
تباركت يا عيد هذي الحياة
ويا صيحة الحق في «المؤتمر»
لقد دفنتنا سنين الظلام
وإن لم تنل من كمين الشرر
وقد أرهقتنا العوادي الجسام
ومرت مرور طيوف الضجر
وعادت أغاني السلام الحبيب
كأن الكفاح خيال عبر
وكم في العيون دموع ترف
بشكر كما رف دمع الزهر
وكم في القلوب خفوق عميق
كخفق الجناح لطير نفر
وقد غرد الآن طير الخريف
كأن الربيع السري ابتدر
وقد زين الأفق من كل لون
جمال، وقبلا بكى واستعر
وأخلص «للنيل» صوت النسيم
وبالأمس بث الشكاة استتر
وحتى المنى بحفيف الشجر
وحتى الرضى بضياء القمر
وشاركنا «رمضان» الوسيم
بشتى الفنون وأبهى الصور
وما كان «للعيد» معنى لديه
فأصبح «للعيد» معنى أبر
تطلع
111
في شوقنا للجديد
وإن ذاب عمر له واندثر
وحتى المؤذن في لحنه
فتون لحسن غريب أسر
فلم ندر كالفجر إلاه شعرا
وخمرا فأسرف حتى سحر
كذلك حرية الناس نبع
يروي النفوس ويحيي الحجر
وتبعث نفحتها الميتين
وتنقذ نشوتها المحتضر
ويصدح في نورها كل شيء
وتنبض منها أماني البشر! •••
لقد ثبت الحق حتى انتصر
وأذعن للمؤمنين القدر
وعادت لمصر معاني الحياة
ليدوي بها بعثنا المنتظر
سئمنا تكاليف تلك السنين
وطول التقية بعد الحذر
سئمنا تفكك خير الروابط
بين القلوب وبين الأسر
وما نال زراعنا العاملين
وقد سكنوا في قبور المدر
112
وتسخير أقوى الذكاء الأبي
لكل ظلوم خئون غدر
كأن الزكاة لحكم الطغاة
دوام الأسى ودوام الخطر
سئمنا، سئمنا ... فيا مرحبا
بوثبة عهد جريء ثأر
سينصفنا من مديد السبات
كما أنصف الأرض هطل المطر
سيرجعنا للإخاء الحميم
فيغدو الإخاء بنا المنتصر
وتشدو «الطبيعة» لحنا طريفا
من الحب في كل معنى عطر
وتلمح «مصر» رجاء جديدا
لمجد جديد وعهد نضر! •••
لقد ثبت الحق حتى انتصر
وأذعن للمؤمنين القدر
وعادت لمصر معاني الحياة
ليدوي بها بعثنا المنتظر
تباركت يا عيد هذي الحياة
ويا صيحة الحق في «المؤتمر»!
صيام وصيام
تصوم كأنما «رمضان» يأبى
سوى صوم المتاب من الذنوب
فكم من صائم قد كان يغرى
بتمزيق السرائر والقلوب
تفرقنا طويلا في حروب
فلطخنا بأوزار الحروب
أدباؤنا
كم جاهل فيهم يتيه كأنما
حظ الجهالة من صفات نبي!
قنعوا بألوان الغرور فما لهم
جلد على الأدب الرفيع الحي
كم يرجمون النابهين ولو دروا
نثروا الزهور لفاتح وأبي
النابهون؟! همو الحياة لجيلنا
وهمو الدليل لعصرنا الذهبي
من ذا يحقرهم فيحقر نفسه
إلا مرادف جاهل وغبي؟!
الفأر الطائر (الخفاش)
تظن طيرا هواه
للشاطئ المجهول
وأنت تشبه فأرا
في خفة المخبول
طالت يداك وهذا
بين الأنام الشبيه
طالت يداه وأمسى
غناه سطو السفيه
قد قبح اللؤم وجهه
كما قبحت بوجهك
وأفسد الخبث طبعه
كما خبثت بطبعك
كما تعيش يعيش
في الليل بين الخنافس
يهوى الخرائب حتى
يعاف نور الفرادس
وحيث طار نعاني
منه المعاني الكريهه
روائح مسقمات
وما لها من شبيهه
تنام نوما عميقا
معلقا رجليك
وقد تمص دماء
للناس هانت لديك
لكنما أنت تنأى
عن الدعاوى العريضه
وذا شبيهك يحكي
هوى النفوس المريضه
كنا حسبناه طيرا
من الطيور السريه
لكن وجدناه فأرا
من الضروب الزريه!
وداع العام
ودعت مشكورا عزيزا شاكرا
وعدمت يوم قدمت حرا شاكرا
بل كنت في الموتى اللئام، ولم تجد
إلا لئيما حامدا لك ذاكرا
فإذا الممات قد استحال كرامة
وغدوت بالتوب المطهر طاهرا
يا عام! عش في الذكريات مخلدا
وخذ البديل عن الزمان الخاطرا
وافخر بأيام بواق عمرها
عمر الشهور بل السنين مآثرا
كفرت عن ماضيك حتى أننا
صرنا نرى الشاكيك غرا كافرا
ولئن ورثت من المساوئ زاخرا
فلقد وهبت من المحامد زاخرا
فكت يداك قيودنا وشجوننا
القاتلات مواهبا وضمائرا
وغدت حقوق الشعب عين حقوقه
من بعد ما كانت رؤى ومظاهرا
فبدأت عمرك كالخيال وجوده
لا شيء، ثم غدوت حيا عامرا
لا بدع، هل عيش بلا حرية
أو دونها شعب توثب قادرا؟
بل أين حظ الموميات رهينة
للأسر يسكن الظلام حفائرا
كل الوجود مماته بقيوده
والكون كان وما يزال الدائرا
تخذ النظام العبقري دليله
ومضى جريئا في الفضاء مغامرا
والناس ليسوا غير بعض كيانه
حرية وعناصرا ومشاعرا
فتلق شكران النفوس طليقة
عزت ، وإيمان النفوس شواعرا
Bilinmeyen sayfa