تقديم
مقدمة
الجزء الأول: فاوست
الجزء الثاني: قصائد للمترجم
تقديم
مقدمة
الجزء الأول: فاوست
الجزء الثاني: قصائد للمترجم
فاوست
فاوست
صورة مسرحية شعرية للشاعر جوته وقصائد متفرقة للمترجم
تأليف
يوهان فولفجانج جوته
تقديم وترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
مقدمة
هذا كتاب من جزأين؛ الأول صورة شعرية غنائية مختصرة لمسرحية فاوست التي كتبها شاعر الألمانية الأكبر جوته، والثاني مجموعة من القصائد التي كتبتها في الفترة الأخيرة، باستثناء القصيدة الأولى التي كتبتها أثناء علاجي في المستشفى (في باريس) عام 1993، ولم أدرجها في دواويني السابقة لسبب ما، وأرى الآن أنها مهمة في مسار تطور كتابتي للشعر، وخصوصا جمعي بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة.
وأما فاوست فلها قصة لم أدرك أهميتها إلا بعد أن تعمقت في دراسة نظريات الترجمة الحديثة، ووجدت في هذه النظريات ما يؤيد الترجمة بالإعداد والاقتباس (أو ما نسميه «التطويع» بالمصطلح العلمي
adaptation ) واستندت إلى ما جاءت به سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير وغيرهما من أقطاب نظرية الترجمة في ضوء الاختلاف الثقافي (انظر كتابهما بناء الثقافات 1998) أي إنني استندت إلى حق مترجم الأدب في إخراج صورة أو صور له ليست «متطابقة» معه، حتى يبرز ما يراه فيه من وجهة نظر عصره أو ثقافته، أو حتى من وجهة نظره الشخصية.
وكان قد سبق لي إعداد نص غنائي بالعربية عن مسرحية روميو وجوليت، لشيكسبير، وقدم على المسرح بألحان (وموسيقى) من وضع جمال سلامة عام 1985، وطبع بعد ذلك في طبعة خاصة، كتب عنها بعض الباحثين دراسات علمية (عبير الأنور، ماجستير) لكنني كنت في أعماقي قلقا على التجربة، وكنت مثل غيري من العرب أنفر من أي تعديل في النص الأصلي (كأنما هو نص مقدس) ثم ازدادت خبرتي بمناهج الترجمة الأدبية في العالم، وازدادت معها نظرتي نضجا وحداثة؛ ولذلك لم أتردد حينما طلب مني المخرج النابه انتصار عبد الفتاح إعداد نص غنائي عن مسرحية الملك لير في عام 1995، فقدمت له ما أراد وقدمه على المسرح في العام نفسه، قبل أن أترجم المسرحية كاملة وأنشرها في العام التالي. كان قد أطلق على الإعداد الموسيقي اسم سيمفونية لير، وشجعه النجاح على أن يقدم فاوست بعدها، مدفوعا بإلحاح مخرج آخر يدعى هاني غانم (يقيم في ألمانيا)؛ ومن ثم بدأنا التخطيط للإعداد من وجهة نظرهما، وكانا يريدان «كلمات قليلة وموسيقى كثيرة»، ولكنني كنت أصر على تقديم جوهر المسرحية الألمانية، وهو ما وجدته فيما يسمى
Urfaust
أي فاوست الأصلية التي كتبها الشاعر عام 1772-1775 وإن ظل المخطوط مجهولا حتى عام 1887، وكان نشره قد ألقى أضواء جديدة ومثيرة على المسرحية.
وأسعدني الحظ بأن عثرت على خمس ترجمات إنجليزية للمسرحية، أحدثها ترجمة ديفيد لوك
Luke
الصادرة عام 1988، وهي التي فازت بالجائزة الأوروبية لأفضل عمل شعري مترجم، وقال عنها الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر
Spender : «أخيرا! ترجمة لرائعة جوته تعتبر عملا أدبيا رائعا بالإنجليزية. إذ إن ديفيد لوك ينقل المعنى، والدفقة الذهنية، ورشاقة الأسلوب البايرونية للنص الأصلي. هذه الترجمة من عمل شاعر وباحث علمي في الوقت نفسه.» (مجلة ذا سبكتاتور 1989). وقد أجريت مقارنات بين هذه الترجمة وغيرها، وكلها شعرية، فلم أجد فروقا تذكر، أقصد فيما نسميه «المعنى»، ومع ذلك فقد كان اختلاف الصياغة بينها يبين كيف يفسر كل مترجم نص الشاعر، وتفاوت التفسيرات وإن كان طفيفا له دلالته، ومن ثم فإنني وضعتها أمامي جميعا وجعلت أرجع إليها بانتظام أثناء القراءة التمهيدية، وأذكر أنني قضيت وقتا طويلا في المقارنة حتى انتهيت إلى ما يشبه الرؤية «الحقيقية» لنص جوته الأصلي، كما انتهيت إلى أن ترجمة لوك تمثل المركز الذي تدور حوله الترجمات الأخرى قربا وبعدا، فأما أبعدها عنه فهي ترجمة فيليب وين
Wayne
التي صدرت عام 1949 وطبعت 28 طبعة حتى عام 1987، في سلسلة بنجوين؛ ولذلك فربما اتضح للقارئ ما أعنيه بالتفاوت في الصياغة والاشتراك في الجوهر عند مقارنة الترجمتين الإنجليزيتين للفقرة الاستهلالية من الإهداء، وها هي ذي ترجمة وين بالإنجليزية تتلوها ترجمتي العربية:
Once more you hover near me, forms and faces
Seen long ago with troubled youthful gaze
And Shall I this time hold you, limn the traces,
Fugitive still, of those enchanted days?
You closer press: then take your powers and places, Command me, rising from the murk and haze;
Deep stirs my heart, awakened, touched to song,
As from a spell that flashes from your throng.
ها أنت رجعت إلى التحليق هنا قربي
يا أشكالا ووجوها كنت أحدق فيها بعيون شبابي الحيرى!
أتراني سوف أضمك هذي المرة كي
أسترجع آثارا هربت
في أيام ساحرة سربت؟
ما أكثر ما تقتربين! فهيا بقواك وكل ديار،
بارزة من وسط ضباب ونثار الأكدار
فمريني! ما أعمق ما يضطرب فؤادي
إذ يصحو كي أبدع إنشادي!
فكأن الوحي وميض من هذا الحشد الشادي.
Ucertain shapes, visitors from the past
At whom I darkly gazed so long ago
My heart’s mad fleeting visions-now at last
Shall I embrace you, must I let you go?
Again you haunt me: come then: hold me fast!
Out of the mist and murk you rise, who so
Besiege me, and with magic breath restore,
Stirring my soul, lost youth to me once more.
يا أشكالا غامضة يا زوارا من زمن ولى
كنت أحدق فيها في الماضي بعيون حيرى
يا أطياف رؤى قلبي العابرة الحمقى
هل آن أخيرا أن أحتضنك أم أدعك حتما تمضين؟
قد عدت إلي الآن فهيا احتضنيني
وإلى صدرك ضميني!
من بين ضباب ونثار الأكدار
أطللت علي فأحكمت حصاري
وبأنفاس السحر أعيدي لي عهد يفوعي
وأثيري القلب هنا بين ضلوعي
واقتطافي هذه الفقرة لا يقصد به عقد مقارنة أو تفضيل نص على نص؛ فنحن لا نعرف ما قاله الشاعر حقا بالألمانية، وطرائق تفسيره المتعددة، وإنما قصدت به أن ترجمة الشعر تسمح بإخراج الصياغة التي تقوم على التفسير الخاص الذي يراه المترجم، وما يتسلح به من خبرة لغوية خاصة (أي بلغته الأم)؛ فالمتأمل لكل نص من هذه النصوص الأربعة سوف يجد آثارا لنصوص أجنبية وعربية وراءها، كما علمنا فوكوه، (وكما أثبتت كريستيفا في شرحها للتناص) وهذا محتوم ولا مندوحة عنه؛ ومن ثم فإن «تطويع» النص عند نقله من لغة إلى لغة يتجاوز كثيرا مقابلة اللفظ باللفظ؛ فلكل مترجم أدبي معجمه المستند إلى طاقاته وخبراته اللغوية، تماما مثل الشاعر الذي يتميز بمعجم شعري يصبح علما عليه.
وركزت جهودي في وضع هيكل للجزء الأول من فاوست الذي نعتبره صلب المسرحية، ولم أجد في الجزء الثاني الذي نشره الشاعر بعد سنوات كثيرة ما يضيف كثيرا من المادة الدرامية، واخترت فقرات معينة لترجمتها، مراعيا أن تمثل حلقات متصلة من نص مترابط، وأن يمثل العمل الموجز الجزء الأول كله من المسرحية، وقرأته على المخرج وصاحبه، فقالا إن هذه مسرحية شعرية، لكننا نريد مسرحية موسيقية، واشترطا أن أحذف الحوار مكتفيا بالقطع الشعرية الغنائية، فرفضت وافترقنا.
ونشرت هذا الإعداد الموجز في مجلة المسرح، وكنت أعمل رئيسا لتحريرها، ونسيت المسرحية وما أحاط بإعدادها سنوات طويلة، حتى ذكرني بها شاعر من قنا كان عميدا لكلية الآداب فيها، وهو الدكتور أبو الفضل بدران، وجعل يناقشني فيما غاب عن ذاكرتي، لكنني كنت قررت أن أتجاهل هذا النص، حتى فرض علي الاهتمام به فرضا حين تلقيت مكالمة تليفونية من الدكتور محمد مهدي، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة بنها، منذ سنوات، وامتدت المكالمة بيننا نحو ساعة ناقشنا فيها هذا المفهوم الجديد للترجمة، أي «التطويع»، الذي يشبه من بعض الوجوه مفهوم جون درايدن، الشاعر والناقد الإنجليزي الكلاسيكي، عن الترجمة الإبداعية، وهي النوع الثالث «الراقي» في نظره، وإن كان يسميه «المحاكاة»، ودارت الأيام وجاء العقد الأخير من القرن العشرين بنظرية الترجمة الثقافية، وما أتاحته من حرية للمترجم، وذكرت ما فعلته بنص فاوست، ولكن حركة الترجمة المزدهرة في مصر كانت تشترط محقة الترجمة عن اللغة الأصلية، فأحجمت مرة أخرى عن النشر.
ولكن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أحيا القضية من جديد. إذ اهتم بعض فلاسفة النظرية الأدبية الحديثة بالترجمة الأدبية، بغض النظر عن صورتها التي تشغل في الآداب القومية موقعا معترفا به بينها، بحيث يقرؤها الناس ناسين أنها ترجمة، مثلما يقرءون الآداب الكلاسيكية من دون الوعي بلغاتها (ناهيك عن معرفة هذه اللغات) مثل ترجمة الإلياذة لهوميروس أو أعمال فيرجيل وأوفيد وغيرهم، أو مثل الأعمال المترجمة عن لغات أوروبية أخرى وقد أصبحت من تراث الأدب الإنجليزي، مثل أعمال إبسن النرويجي وسترندبرج السويدي وهانز كريستيان أندرسون الدانمركي وهيرمان هسه الألماني ودانتي الإيطالي، والقائمة طويلة. لقد أصبحت هذه الأعمال آدابا لا ينظر إلى أصولها قط، مثلما لا ينظر أحد إلى النص العبري أو اليوناني (أو الآرامي) لأسفار الكتاب المقدس، بل إن لغة ترجمة الكتاب المقدس أصبح يحتج بها مثل لغة كبار أدباء الإنجليزية. وكان من حسن حظي أن انهمكت في دراسة مذاهب الترجمة الحديثة التي تجاوزت قضايا «التعادل» اللغوي القديمة، فوجدت أن تقديمي لهذا التطويع الموجز لرائعة جوته مشروع، خصوصا لأن الترجمة الكاملة التي قدمها العلامة والمحقق عبد الرحمن بدوي عسيرة الفهم، على الرغم من أنها منثورة ورغم أنها ترجمت، حسبما يقول المترجم، عن الألمانية. وقد استعرتها من صديقي العلامة والأديب المرهف الحس ماهر شفيق فريد وحاولت أن أقرأها فلم أستطع، ولم أجد فيها شعرا ولا مسرحا، ولا أظن إلا أنه ترجمها بأسلوب تحقيقه لكتب التراث؛ إذ اكتفى بصحة معاني الكلمات (ولا أستطيع التحقق من هذا لجهلي بالألمانية) ورص الألفاظ رصا.
وأنا أعتذر عن هذه الإشارة إلى ترجمة العلامة المذكور، خصوصا لتلاميذه من عشاق الفلسفة الألمانية التي يستعصي فهمها على الكثير منا، دارسي الأدب والفكر الإنجليزي الذين يعشقون الوضوح، ويطلبون في المسرح الشعري أن يكون سلسا لينا في اللسان، ذا إيقاع منتظم يذكرهم أنه شعر. ويبدو أن انتقاد العلامة المذكور أصبح يدخل في عداد الكفر بالله، إذ إن له قبيلة ومريدين ما إن ينتقده أحد حتى يهبوا للبطش به، وما أظنني ناجيا من سهامهم، ولكنني أقول إن العبرة في ترجمة المسرح بقبول النص التقديم على المسرح، فإذا كان شعرا فلا بد أن يكون قريب المأخذ واضحا (بل إلى أقصى درجات الوضوح)؛ فالمسرح غير الفلسفة، ومشاهد المسرح لا يسمع العبارة إلا مرة واحدة، فإن فاتته فرصة فهمها فقد جزءا من أجزاء العمل الفني.
وأما المؤلف فهو جوته
Goethe
الذي ولد في فرانكفورت عام 1749 ونشأ فيها ودرس في جامعة لايبزيج وحصل على إجازة في القانون، ومارس المحاماة فعلا، وتولى الوزارة في يوم من الأيام، ولكن أهم عمل له هو فاوست، وقد بدأ كتابتها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وأكملها بعد ذلك بعامين، لكنه كان يعود إليها بين الفينة والفينة حتى نشرها عام 1808، وكان العنوان يقول إنها الجزء الأول من التراجيديا، ثم قدم هذا الجزء على المسرح في عام 1829 قبل وفاته بثلاثة أعوام، ولم تقدم المسرحية كاملة إلا في عام 1876. وكان جوته شاعرا وقصاصا وروائيا وناقدا ومترجما، وعاش حتى بلغ الثالثة والثمانين ولم يكن قد أكمل الجزء الثاني من المسرحية إلا آنذاك.
وأما «مادة» المسرحية فهي مستقاة من حكايات شعبية تبلورت في القرن السادس عشر، الذي كان يعتبر عصر استكشاف المحظورات، فلقد ظهرت في أوروبا آنذاك بوادر المذهب الإنساني [أو الهومانيزم كما يسميه أستاذنا لويس عوض] وبدأت العلوم الطبيعية تحرر نفسها من الخرافات المستمدة من السحر والشعوذة، بحيث كان الاتجاه الجديد يمثل طعنا في الصور التقليدية الجامدة للعقائد القائمة على اليقين، ولم يكن الناس جميعا قد استجابوا بعد للروح العلمية التي بلغت أوجها في القرن السابع عشر؛ إذ كانت رواسب العصور الوسطى لا تزال قائمة وترتوي بحكايات الغرائب والعجائب. وكانت أسطورة المجوسي الجريء الذي يبيع نفسه للشيطان في مقابل الحصول على «المعارف الجديدة» والظفر بقوى جديدة، من الأساطير التي ازدهرت في هذا الجو، ويقال إن للأسطورة أصلا تاريخيا إذ يذكر التاريخ فعلا رجلا يدعى فاوستوس
Faustus ، وإن كان الغموض يحيط بسيرته، ونعتمد في هذه السيرة على مصادر قليلة متفرقة، يقول بعضها إن شخصا يدعى جورج فاوست عاش في الفترة من 1480 إلى 1540، وكان محتالا أكاديميا جوالا يزعم أن لديه معرفة بالخوارق وما يستعصي على عقول العامة، وأنه يتمتع بمواهب خاصة، وقيل إنه مات قتلا. وبدأت الأساطير تنسب له ألقابا أكاديمية بعد موته، وأصبح يشار إليه باسم الدكتور يوهان فاوستوس، والاسم بصورته اللاتينية يعني المحظوظ أو المصطفى، وقيل إنه كان أستاذا في جامعة فيتنبرج، وإن الشيطان كان يرافقه على هيئة كلب أسود، وإنه كان يستحضر أمام تلاميذه الشخصيات التي ذكرها هوميروس في ملحمتيه، وإنه كان يخدع البابا والإمبراطور بحيل معينة، وإنه بعد أن أتم فترة الاقتران بالشيطان، وهي التي كانت قد حددت بأربع وعشرين سنة، وقع فريسة للشياطين الصغار الذين مزقوه إربا وألقوا به في الجحيم.
وعلى امتداد القرن السادس عشر انتشرت الحكايات الشعبية التي تتحدث عنه في ألمانيا، وكانت هذه زاخرة بالتفاصيل المثيرة لمغامرات «الساحر»، وتقدم للناس العظة الأخلاقية المستقاة من سقوطه آخر الأمر. وكانت هذه الحكايات تطبع في كتيبات شعبية، بعنوان فاوست وحسب، وكان أولها كما يقول المؤرخون قد ظهر في مدينة فرانكفورت في عام 1587، ولم تتوقف طباعتها حتى بداية القرن الثامن عشر، وتضم صورا مختلفة لحياة الرجل، وكانت ترجماتها تتوالى في أوروبا بلغاتها المختلفة، والمعتقد أن إحدى ترجماتها الأولى هي التي أوحت إلى الشاعر الإنجليزي كريستوفر مارلو
Marlowe
بكتابة مسرحيته المعروفة وعنوانها التاريخ المأساوي للدكتور فاوستوس في عام 1592 على الأرجح، وإن لم تنشر إلا بعد وفاته، أي في عام 1604.
ولما كان من المعتاد أن تسافر الفرق المسرحية في العصر الإليزابيثي لعرض مسرحياتها في قصور الأمراء الأجانب، فلم ينقض وقت طويل حتى بدأ الناس من المناطق التي تتحدث اللغة الألمانية في أوروبا يعرفون صورا «فاسدة» من مسرحية مارلو، ونعني بالفساد هنا التحريف الشديد الذي يقوم عادة على التبسيط المخل، أي تحويل التضاد في الصراع الدرامي إلى تضاد مبالغ فيه، كالتضاد بين اللونين الأبيض والأسود وحذف الدرجات اللونية بين هذين، والتي عادة ما نسميها درجات اللون الرمادي. وكان من الطبيعي أن «تستولي» فرق العرائس و«خيال الظل» على هذه الصور المحرفة وتقدمها للصغار (وللكبار) باللغة الألمانية، وبعضها لا يزال يقدم حتى مطلع القرن الحادي والعشرين. ويقول النقاد والباحثون إن جوته عرف حكاية فاوست أول الأمر عندما شاهد في طفولته إحدى مسرحيات العرائس المذكورة، ويرجحون أنه قرأ أيضا أحد الكتيبات الشعبية التي كانت قد طبعت عام 1725. ومن الغريب أنه لم يقرأ مسرحية مارلو إلا عام 1818 بل وفي ترجمة ألمانية، لكنه كان يلم بمحتواها قطعا من خلال مسرح العرائس خصوصا.
وعلى الرغم من أننا نجهل على وجه الدقة بداية تفكير جوته في استخدام أسطورة فاوست، فإننا نستنبط من طبيعة العصر الذي نشأ فيه، مثل مارلو من قبله، أنه وجد فيها إمكانات هائلة للإبداع في زمن التحولات ونشأة المذهب الهوماني وتحدي ما يسمى بالمؤسسة الثقافية، وكان ذلك على الأرجح إما أثناء دراسته الجامعية في لايبزيج في الستينيات من القرن الثامن عشر، أو بعدها بقليل. ويرجع أحد الأسباب إلى انتمائها إلى الأدب الشعبي مجهول المؤلف الذي كانت الذائقة السائدة في القرن الثامن عشر تستهجنه. وفي مقابل ذلك كان الحماس الرومانسي الذي نعرفه خير المعرفة في الأدب الإنجليزي في تلك الفترة، والمستوحى من كتابات جان جاك روسو
Rousseau
الفرنسي؛ يعلي من شأن كل ما هو طبيعي أو بدائي، أو ما لم يتأثر بالتعليم أو ما لم تفسده يد الإنسان. وقد بلغ هذا الحماس أقصاه عند اليافع جوته وأبناء جيله الذين ينتمون كما هو معروف إلى حركة «العاصفة والقهر» (مجدي وهبة)، وخصوصا من رافقوا جوته واتبعوا مذهبه. وفي عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر تعلم جوته من الفيلسوف والأديب هيردر
Herder (1744-1803) التقدير الشديد للقصص الشعبية والمواويل الغربية القديمة، مثلما حدث في إنجلترا للشاعرين وردزورث وكولريدج بعد عقدين، وقد تجلى إيمان جوته بالتراث الشعبي في الصورة الأولى لمسرحية فاوست
Urfaust
وفي شعره المبكر.
ولكن الباحثين يؤكدون أن هذا الاتجاه كان مدفوعا إلى حد كبير بنشدان الماضي القومي باعتباره تراثا مترابطا يمثل الروح الألمانية في وقت لم تكن ألمانيا فيه قد أصبحت أمة واضحة الهوية الثقافية. ويدل على ذلك ما أبدعه جوته في هذا الوقت من أدب يوحي بالبحث عن الأسلاف، ورصد الجذور؛ إذ انصب اهتمامه على ما يسمى «العصر العظيم» وكبار المفكرين الألمان من رويشلين وهاتين إلى باراسيلوس ولوثر وساخس. ومن الطريف أنه كتب في السبعينيات من القرن 18 أيضا مسرحيته التاريخية عن حياة «الفارس ذي القبضة الحديدية» جوتفريد فون برليشينجين
Gottfried von Berlichingen
ونشرها عام 1773 بهذا العنوان نفسه، ويرفع فيها هذا البارون اللص (1480-1562) إلى مرتبة الأبطال؛ لأنه كان يناصر القيم البسيطة «الطبيعية» في ألمانيا ضد مظاهر الحذلقة والتصنع في البلاط الألماني، وكان يوازيها في عصره أفراد الطبقة الأرستقراطية الذين كانوا يتحدثون الفرنسية، وكان على النهضة الأدبية المنتمية للطبقة الوسطى في ألمانيا أن تعارضها. وكان من أهم مظاهر هذا العمل الدرامي ثورته على القيم الدرامية الكلاسيكية، وهي التي كانت الذائقة الفرنسية قد فرضتها على الأدب الألماني، والشعر المسرحي خصوصا، على نحو ما نرى في بناء الصورة الأولى لمسرحية فاوست.
ودارسو الأدب الإنجليزي يجدون في خضم هذه الثورة ما ألفوه في ذلك الأدب في مطلع القرن التاسع عشر، فلقد سبق جوته في قصيدته بروميثيوس (التي ترجع إلى هذه الفترة) معالجة الشاعر شلي للأسطورة نفسها؛ فقد حرره جوته، وأمكن للشاعر الإنجليزي أن يكتب بروميثيوس طليقا واثقا من هدفه. ولكننا نعرف أن شلي اتهم بالإلحاد وفصل من جامعة أوكسفورد، وكان مارلو مهددا بالمحاكمة بتهمة الإلحاد هو الآخر في الوقت الذي توفي فيه عام 1593؛ إذ كان قد أضفى على بطله فاوستوس لمسة بطولية وهبته وقارا لم تكن المؤسسة الدينية تراه فيه، خصوصا في المشهد الأخير من المسرحية. ولكن الزمن كان قد دار دورته في عصر جوته ، وأصبح من المقبول أن يتغاضى الناس عن مصير فاوست، بعد أن ضعف الاتجاه القديم إلى إحراق المارقين والساحرات (والسحرة) أو حتى المتهمين بالإيمان بالشيطان! وكان جوته لا يستبعد إمكان توبة الخاطئين، مثل كبار فلاسفة حركة التنوير الأوروبية، ولم يكن أول من نظر في إمكان خلاص فاوست، خصوصا بعد أن كتب ليسينج
Lessing (1729-1781) ما كتب عن الثقافة التنويرية الناضجة، بل وكتب صورة من صور أسطورة فاوست يسمح فيها بتوبته ونجاته من النار، ولكن المخطوط فقد.
وتوبة فاوست تمثل جوهر الاختلاف في معالجة جوته للأسطورة عمن سبقوه، وإن لم يكن من المؤكد نسبة هذا الاختلاف إلى تأثير ليسينج. والذي نستطيع تأكيده أن عاملا جديدا بدأ يؤثر في مساره الإبداعي في عام 1768؛ إذ انكب على قراءة كتابات الدارسين لما يسمى عالم الغيب والأسرار، من السحر إلى الخيمياء
Alchemy [أي الكيمياء السحرية] وهو الموضوع الذي شغل إسحاق نيوتن نفسه قبل ذلك بمائة عام، ولم أدهش حينما مررت بهذه الحقيقة في حياة نيوتن نفسه، أبي الفيزياء الحديثة، فلم تكشف الطبيعة عن كل أسرارها لنا، وقد نجد أننا مضطرون إلى التوسل بمنطق الروح (mythos)
حين يعجز منطق العقل (logos)
عن تفسير سر من أسرار الطبيعة. وقد وجد جوته عند باراسيلسوس
ما ينشده، حتى قال بعض النقاد إنه كان النموذج الذي بنى عليه فاوست. ولكنه وجد ما يطلبه أيضا عند جوردانو برونو
Bruno
الفيلسوف الإيطالي الذي حكمت عليه محاكم التفتيش بالإعدام، وأعدم حرقا (1548-1600) ودارس الثيوسوفيا السويدي سويدينبورج
Swedenborg (1688-1772) وكان عالما ومتصوفا، وأما الثيوسوفيا
Theosophy
فيترجمها مجدي وهبة بالحكمة الإلهية، مبينا أنها تعني الإيمان بأن معرفة الذات الإلهية تقوم على الإشراق والتصوف المؤديين إلى الاتصال بالله.
ونحن نجد أنصع تبيان لهذا العامل الجديد في السيرة الذاتية التي كتبها جوته بعنوان الشعر والحقيقة في مطلع القرن التاسع عشر؛ إذ يذكر كيف كان يسخط سخطا عميقا على دراساته الجافة العقلانية القائمة على الفلسفة المادية، وهي التي كانت تسيطر آنذاك على الحياة الأكاديمية بسبب التأثير الشديد للحركة التنويرية، وكان يرى أن الموسوعيين الفرنسيين قد أحالوا الطبيعة إلى نظام ميت، أي بعد أن سلبوه الروح، وكانت الروح تقتضي الإحساس بالوجود العلوي؛ أي الإيمان بالله. ولكن الصراع في نفس جوته كان يدور آنذاك بين الثورة على المذاهب الجامدة، العلمية والدينية، وبين قبول العلم والدين معا، من دون أن يرى في ذلك تناقضا. وسحر أسطورة فاوست مستمد من الدين فقط، لكن ترى ماذا يكون عليه الحال لو اصطدمت هذه الأسطورة بالصراع المذكور؟ في الصورة الأولى للأسطورة ينقطع حوار فاوست مع «روح الأرض» الذي يمثل الإيمان بالحلول، دون التوصل إلى نتيجة. وأما في النسخة المنشورة التي اعتمدت عليها في الترجمة، فالصراع يعتمد على أبعاد إنسانية وبشرية تضعه أمام القراء ملموسا نابضا حيا. ومن ثم فإنني اخترت المشاهد التي ترجمتها استنادا إلى ما يتبدى في سائر المسرحية من آثار هذا الصراع وتجلياته.
أرجو أن أكون قد أصبت الاختيار، وأن أكون قد أصبت قدرا من التوفيق في نقل الروح الشعرية والغنائية التي تتميز بها النصوص الإنجليزية المترجمة، وأظنني قد أبرزت مدى اهتمام جوته بالتراث الشرقي والعربي، وهو الذي يبدو تأثيره واضحا في الحركة الرومانسية الأوروبية.
محمد عناني
القاهرة 2013
الجزء الأول: فاوست
صورة مسرحية شعرية
الشخصيات
فاوست:
طبيب في الثمانين.
إبليس:
كبير الشياطين.
مرجريت «جريتشن»:
فتاة في ربيع العمر.
فالنتين:
أخو مرجريت.
روح الأرض:
عفريت صغير.
أرواح وعفاريت.
المشهد الأول (غرفة مكتب فاوست - طبيب - المكتب مليء بالكتب والرفوف، وفي الركن معمل فيه قوارير ومواقد - وفي منتصف الغرفة مدفأة موقدة.)
فاوست :
ليس في الطب شفاء!
ليس في السحر دواء!
هذه الكتب وتلك الأرفف العرجاء خاوية المعارف
قد قضيت العمر مهموما تعذبني الوساوس والمخاوف
كلما رمت يقينا زاد شكي وعذابي!
كلما زدت اقترابا زاد بعدي واغترابي!
ليس هذا الزاد ما ترضاه نفس تنشد الحق المبينا
تنشد الأحلام صدقا ... تنشد الصدق يقينا
هل بذا يقضي ابن رشد؟
هل بذا قال ابن سينا؟
قد ورثت الحكمة العليا من العرب القدامى
لكن العصر يجافيني وشكي يتسامى!
عالمي خلط غريب من فكر!
أو خليط من صراعات البشر!
ربما في السحر مفتاح لألغاز الوجود،
تذرع الكون سحابات تجليها الرعود!
من أنا؟ أو ما أنا؟ ربما في الأرض سري!
ربما في الأرض أسرار القيود!
سوف أدعو روح تلك الأرض حتى تجتلي سر الخلود!
كلمة السر هي الأرض حياتي ومماتي!
إيه يا روح انطقي! إيه يا روح الرفات!
لست أرجو غير برق أو سنا
أيهذي الأرض قولي من أنا! (تظهر روح الأرض.) (أو يسمع صوتها فقط.)
روح الأرض :
أيها الإنسان ما غرك؟
أنت من طيني خلقت وفيه سرك!
أنت جسم للفناء
أنت من نسج الهباء!
فاوست :
بل أنا الإنسان علمت البيان
وأنا أقتبس العلم من الرحمن!
روح الأرض :
إنكم أكثر شيء جدلا!
فاوست :
لم لا تبدين علم النابهين العالمين؟!
روح الأرض :
ليس علم الإنس يهدي لليقين!
فاوست :
قد قرأت الغابرين
علم إخوان الصفاء
علم خلان الوفاء
روح الأرض :
باطني يزخر بالعلماء!
كلهم أمسى ترابا
كلهم بات سرابا!
هذه الأرواح عندي
كل من راح وآبا!
فاوست :
هل غدا العلم يبابا؟
روح الأرض :
بل أحابيل خداع
بعض قرطاس قصير الباع
أو مداد في يراع!
فاوست :
أنت يا روح الثرى حلم سقيم فاغربي!
كيف لا تفضي دروب العلم للحق اليقين؟
إن إيماني بدنيانا الخفية
يبتغي زادا سوى العلم القديم
إن في الجنبين أهواء ينافي بعضها بعضا
وتدمي القلب مني في الصميم
يا ترى ضاعت جهود العلم إذ
أنهكت روحي فيه أستفتي الهداية!
إن روحي الخالدة
أصبحت مثل السفين
تستبد الريح طغيانا بها!
عدت وحدي بارد الأطراف أسعى للمحال!
إن عقلي جذوة من بعض نار
كيف لا ألقى على النار هدى؟
اغربي يا روح تلك الأرض إني
سوف أمضي طالبا ناري القديمة!
سوف أخطو في حمى النار المقيمة! (تختفي روح الأرض ويضع أشياء في النار فتتوهج)
فلأزد جمر اللهيب
وشعاعي المستجيب!
أنت يا نار أجيبي
أنت لي خير طبيب! (يتصاعد دخان - يفتح كتابا ويقرأ)
من كتاب السحر أدعو الأقوياء
وبتعويذة فن أستشير الحكماء!
أيها الجن أجيبوا!
سحركم سحر عجيب! (يظهر إبليس في صورة شاب وسيم.)
إبليس :
أنا رب النار جئت.
فاوست :
شكلك الإنسي خداع مريب!
إبليس :
أنا من نار خلقت
وتمردت وثرت
ولربي قد عصيت!
فاوست :
هل طلبتك؟
إبليس :
أنت ناديت فلبيت!
فاوست :
أنا لا أحتاج شيطانا جحود!
أنت رمز للكنود!
إنني أبغي اليقين
وبجني أستعين!
إبليس :
وأنا النكران أهدي لليقين!
فاوست :
أنت إبليس فلا تسخر وطر!
إبليس :
لن ترى النور سوى بعض شرر!
فاوست :
بل هو النور الأمين.
إبليس :
بل هو الجمر الدفين
بين جنبيك يدمدم
وبشهوات يغمغم!
فاوست :
لست أبغي غير علم ثابت مرصود!
يكشف المستور من سر الوجود.
إبليس :
عد إلى أرض الخلود!
عد إلى رحم الجدود!
عد إلى المرأة يا أحمق مولود!
فاوست :
أنا أحمق؟
إبليس :
أنت لا تعرف ما تبغي!
فاوست :
أنت تعرفه إذن؟
إبليس (يضحك) :
هل يرى الإنسان معنى الماء إلا إن عطش؟
هل يرى الإنسان معنى النار إلا إن برد؟
فاوست :
حجة الشيطان لا تغويني!
إبليس :
لا تكن كالسادرين الجهلاء!
قد نبذت العيش فانتابتك أنواء الضلالة!
وحرمت النفس من لذاتها
فوقعت اليوم في بحر الجهالة!
فاوست :
كيف تفضي لذة الحس إلى علم اليقين؟
إبليس :
بل هي اللذة لا شيء سواها!
اركب اللذة يا ابن الطين!
عد إلى أصلك تعرف ما اليقين!
فاوست :
ما بذا قال ابن رشد.
إبليس :
يا حبيس الأقدمين!
فلتحرر نفسك الدنيا من العلم العقيم
عد إلى الأرض إلى الطين الأمين
تلك دنيا الخصب والمرأة والأم الرءوم!
فاوست : «عد إلى الأرض؟!» ولكن ...
لم يحن بعد الأجل!
لم يحن بعد الرحيل!
إبليس :
بل هي الدنيا التي تتجدد!
في حنايا الأرض في المرأة في حواء من تعطي الحياة!
فاوست :
سهم إبليس أخافه
وأعافه!
إبليس :
إن رب الكون أهداها لآدم!
إنها الدنيا وأم الكون والبعث المقيم
إنها المبدأ والغاية
إنها نعم البداية!
فاوست :
أنت تبغي لي الضلال.
إبليس :
بل أنا أبغي الهداية!
فاوست :
كيف تهدي ما يجافي النار في طبعك؟
إبليس :
إن ناري في الجوانح
ولهيبي في الجوارح!
فاوست :
إنني أطفأتها من زمن!
إبليس :
إن لي سحرا يعيد الفرد منك للشباب ؛ اسمع : (فجأة نبرات قاطعة)
دعني أقطع عهدا
حتى أنجز وعدا.
فاوست :
لا حاجة لي بوعود الشيطان.
إبليس :
اسمع وعدي واحكم
لن ألزمك بشيء، إلا أن تصحبني!
لن تخسر شيئا!
لن ألزمك بأجر!
إن الإنسان حبيس الزمن السارب
يتقلب في اللحظات بظل الضوء الغارب
ولسوف أحرر من يتبعني من هذا القيد الظالم!
من هذا القيد الملعون!
فاوست :
بل أنت الملعون!
إبليس :
في نظرك! لكن النكران أراني الخلد!
وحباني ملكا لا يفنى!
سأدلك هذا اليوم على ملك لا يفنى
ملك العلم الحق؛ ملك المعنى!
فاوست :
تهديني أنت إلى المعنى؟
إبليس :
شرطي الأول أن تهجر تلك الشذرات العجفاء
وعلوم الإنس وسحر السحرة
كل الأوراق البيضاء، والصفراء!
حاول أن تنهج نهجا آخر
أن تتعلم من خبرة روح جمعت خبرات الأرواح
أبحر في ظلي في بحر الظلمة
قم بالرحلة في أعماق الأرض
ذق طعم اللذة، ذق طعم الأفراح!
اطرح أثقال الماضي وتحرر من أفكار القدماء!
فاوست :
أتحرر من حكمة حكماء الإنسان؟
إبليس :
بل من ضيق الذهن المحدود!
ارحل داخل أغوار الأرض!
فاوست :
لا أغوار النفس
إبليس :
النفس من الأرض انشقت ونمت!
فاوست :
أتقول: «النفس من الطين»؟
إبليس :
لا، بل من جوهر،
مثلي!
لكن النفس لديك تشكل من طينك
صورتها تخضع للطين؛
وإذن لن تدرك سر النفس
إلا إن نزلت نفسك للطين
وامتزجت به!
فاوست :
كيف إذن أنزل للطين؟
إبليس :
اتبعني فأدلك؛ وفقا لشروط العقد!
فاوست :
ماذا تعني بالعقد؟
إبليس :
هو شرط أشترطه
لك أن تقبل أو ترفض. (يلمح بوادر رضا على وجه فاوست، فيقول بإغراء)
إن أرضيتك ورسوت بمركبك الحائر
أصبحت حليفي!
فاوست :
عبثا! لن تفلح فيما أخفق فيه العلم!
إبليس :
هذا شرط رهاني!
فاوست :
لن تفلح!
إبليس :
وإذا أفلحت فهل تتبعني دون نقاش؟
فاوست :
ما مقياس فلاحك؟
إبليس :
سأعيدك شابا،
وسأسقي قلبك عشق الأرض الحية!
حتى تنتصر القوة،
وتعيش الزهوة!
كي تنسى عند دخول الطين،
أنك من طين!
لن تذكر ضعفك أو ترجو غفران الخالق!
وستشعر أنك مثلي لهب ناطق!
هذا ما راهنت الله عليه ،
وأراهنك اليوم عليه!
فاوست :
يتحداني إبليس، وأنا أقبل ما يتحدى به!
إبليس :
أنت إذن تقبل!
فاوست :
هل تتحدى قلب الإنسان؟
إبليس :
عدني أن تصبح ملك يميني إن أفلحت. (يتردد ثم يهمس) أن تعبدني!
فاوست :
إن مرت بي لحظة
أشعر فيها أني كامل
أو أنسى فيها ذكر الزمن وأرجو أن يتوقف
فسأصبح ملك يمينك!
إبليس :
وسأفلح في هذا أيضا!
فاوست :
وإذا لم تفلح؟
إبليس :
بل إني أفلحت كثيرا ونجاحي مشهود له!
يعرفه القاصي والداني،
بل يتبعني من أهل الأرض الآلاف؛ (يضحك)
آلاف الآلاف!
فاوست :
لكن من غير العلماء!
إبليس :
والآن سيلحق بي عالم.
فاوست :
أحقق الكمال، وأقهر الزمن؟!
إبليس :
هذا هو التحدي!
ما إن أمضي حتى تسمع لحنا شرقيا
فتعود إلى سن الرغبة ... وترى المرأة
وتغوص بروحك فيها
وبكل كيانك!
فتعانق أغصان الدنيا
وجذورك في التربة!
فتنحي الضعف البشري
تتحرر من هبات مشاعر أهل الأرض!
من قبضة زمن الإنسان فتخلد!
فاوست :
ذلك لا يتحقق أبدا!
إبليس :
لكنك وافقت على شرط العقد؟!
فاوست :
وأنا أتحداك!
إبليس :
وقع هذي الورقة! (يوقع فاوست) (جانبا) ما أكثر من قالوا ذلك ثم هووا!
لكني اليوم أضم إلى جيشي سند العلماء
ولسوف تجلجل ضحكاتي في كل سماء
وتعربد في كل الأرجاء
حتى يسمعها رب الكون! (يختفي كما ظهر فجأة.) (تعزف موسيقى شرقية.) (إظلام)
المشهد الثاني (مشهد الجان يرقصون ويمارسون أساليب السحرة.)
إبليس :
يا أتباعي يا أبناء قبيلي،
قد جئت إليكم بالصيد الأكبر؛
أوقعت العالم في هوة سحري،
ولسوف بمنطقه يتعثر!
كان يسائل نفسه،
ويغالب يأسه،
بالعلم وبالحكمة يكفر!
أدلى حبل السحر الأسود
فتسلقته، حتى المنبر! (يدخل عفريتان ملثمان.)
إبليس (يغير النبرة والإيقاع) :
هل فعلتم ما أمرت اليوم به؟
أنت يا عفريت يا أزرق، تكلم!
هل ملكت الحب في قلب الفتاة؟ قل نعم!
أنت يا عفريت يا أحمر!
هل وضعت اليوم إغواءك في قلب الفتاة؟
ذلك الفيروز والياقوت والماس الثمين؟
قل نعم!
أول الشر متاع
وبريق وخداع
أنت يا عفريت يا أصفر!
هل أتت معك الفتاة؟
قل نعم !
أين تلك المرجريت؟!
اسم الدلال لها جريتشن!
أين من سلبت خواطر صاحبي؟ (تدخل مارجريت.)
نراكمو من حيث لا تروننا يا أيها البشر!
جريتشن :
مولاي أين أنت؟
إبليس :
لا تقلقي صغيرتي! يا ليتها كانت تراني!
حولته شابا وسيما
قد قهرت العمر بالسحر القديم
والآن يأتي ذلك الشاب الوسيم! (يخرج إبليس ويدخل فاوست.)
فاوست :
يا جريتشن يا حياتي
أنت بعثي من مماتي
أنت أرضي وسمائي
وبقائي وفنائي.
جريتشن :
مولاي معذرة فإني لا أزال غريرة!
فاوست :
أنت مخلوقي الأثير!
جريتشن :
إني من الريف الفقير!
فاوست :
يهواك ذو القلب الكسير!
جريتشن :
بل أنا البنت الكسيرة.
فاوست :
اقبلي حبي فنغدو أسعد الأحباب.
جريتشن :
إنه بعض سراب!
فاوست :
هاك عهدا من يدي
للهناء الأبدي! (يلبسها عقدا من اللؤلؤ.)
جريتشن :
إنني مولاي أحلم.
فاوست :
بل هو الواقع حقا؛ انظري،
إن هذا القصر قصرك
وأنا ملك يمينك
جريتشن :
بل أنا ملك يمينك!
فاوست :
قد بدأت الرحلة الكبرى إذن! (يحتضنها.)
إنني أبحر في ذاتي غريبا
إنني أسمع أصداء الهدير
هذه الرغبة لم أعرف لها شطا قريبا
بل صراخ وزئير! (يبتعد عنها مذعورا.)
جريتشن :
ويح نفسي ما بنفسي!
فاوست :
هل نبا مولاي عني؟
بل أتيت الآن محموم السعير! (يندفع إليها.)
جريتشن :
حبنا حق إذن؟
فاوست :
في بحار الحب أبحرت بلا زاد سوى قلبي
ورجوت المثل الأعلى على شطآن حسي
ما الذي أبحث عنه يا ترى؟
أنا ذات لست أدري من أنا!
جريتشن :
سيدي؟
فاوست :
فتنتي هيا بنا! (يخرجان متعانقين.) (إظلام)
المشهد الثالث (جريتشن وحدها وفي يدها المغزل.)
جريتشن (تغني) :
الحزن يثقل قلبي
والجرح يدمي فؤادي
قل كيف يذهب حبي
براحتي ورقادي •••
يموت كل الوجود
يفيض نور النهار
ويصبح العيش مرا
في لوعة الإنتظار •••
صفوي تكدر صبرا
وحيرتي ليس تذهب
هذا الفصام بذهني
يشق قلبي المعذب •••
الحزن يثقل قلبي
والجرح يدمي فؤادي
قل كيف يذهب حبي
براحتي ورقادي •••
نظرت من شباكي
حتى أرى مقدمه
خرجت حيرى لأسأل
أين اختفى مبسمه •••
الزهو في خطوته
والعز في قامته
والعشق في بسمته
والسحر في نظرته •••
وصوته في انسياب
كالجدول الرقراق
يلقي يديه بكفي
كالضم أو كالعناق •••
الحزن يثقل قلبي
والجرح يدمي فؤادي
قل كيف يذهب حبي
براحتي ورقادي •••
النار تلهب جسمي
برغبة واشتهاء
متى أعانق حبي
بلا مدى وانتهاء •••
متى أقبل حبي
بكل شوق الإماء
يغشى علي فأفنى
في الحب كل الفناء (تخرج.) (إظلام)
المشهد الرابع
فاوست (وحده) :
هل لدى الجنة أفراح توازي الذوب في أحضانها؟
وأنا بالقرب منها أجرع الدفء من الحب النضير
راع قلبي بؤسها! ماذا أنا؟
إنني بعض شريد هارب لا يعرف الغاية!
فاسق لا يستقر!
مثل شلال من الماء تهاوى فوق صخرة
من صخور لصخور يتهاوى للقرار
بل لقاع لا قرار
في انطلاق طامع محموم!
فإذا لاح لعيني كوخها
ذلك القابع عند السفح مأمونا يناجي ربه
في المراعي الخضر في ظل البراءة
جرفته قوتي بل حطمته
كيف أفنيها معي؟ إنها بعض ضحية!
لكن القلب بجنبي ينادي بل ويزأر
لم أعد أقوى على الصبر فيا إبليس خذ بيدي! (يدخل إبليس.)
هذه الخشية لا أدري مداها
أي أقدار تراها في انتظاري؟
فلتدمر تلكم القوة أقداري وأقدار الفتاة!
إبليس :
أنت تغلي من جديد قم لها!
اذهب الآن إليها ثم واسي قلبها!
عقلك المأفون لا يقوى على الرؤية
لم يحن يوم النشور
قم إليها إنه يوم الكفاح؛ يوم إحراز السرور
فيك أرواح الشياطين فقم؛ أصبحت منا،
من قبيلي!
حرم اليأس على الشيطان وسط الناس!
ليس إبليس بمبلس،
رغم ما يدعوه لليأس من الناس! (يخرجان.) (إظلام)
المشهد الخامس
جريتشن (وحدها) :
كم غضبنا من سقوط الخاطئات
وتسارعنا ندين البائسات!
كم ترى أجهدت عقلي في انتقاء الكلمات
شاتمات حانقات لاذعات!
كانت الزلة تبدو لي سوادا ما به غير سواد
وأنا أنشد لونا حالكا مثل المداد
كنت أستغفر ربي وأناجيه لهن
ثم جاءتني الخطايا مثلهن!
إنني يا رب لم أخطئ سوى
في دفقة الحب الأصيلة
أي شر ذاك ما يزهو بأثواب الفضيلة! (تخرج.) (إظلام)
المشهد السادس
إبليس :
هبط الليل على الأحداق فانبثت شياطين الظلام
وسرت في البلدة الوسنى أحاديث تناقلها الوشاة
وأخو الحمقاء مهموم لما حل بأخته
فأتى يرغي ويزبد
ينشد الثأر لعرضه
واهما ... يسعى لحتفه. (يدخل الجندي فالنتين، وهو أخو مارجريت ثائرا فائرا.)
فالنتين :
أين فاوست اللعين؟
إبليس :
ليته كان يراني!
بعض أفراد القبيل، وسوسوا له
إن أتى فاوست فانقض عليه
فزت بالنصر المبين!
فالنتين :
أين يا فاوست أنت؟ (تسمع أصوات في الداخل.)
إبليس :
إنني أسمع صوتا فلأراقب ما يكون!
فالنتين :
أيها الفأر الحقير، جاء حتفك!
فاوست (داخلا) :
مرحبا بالزائر الأكرم!
فالنتين :
قف أجب عما فعلت!
فاوست :
هذه الثورة لا معنى لها!
فالنتين :
شرفي ثلم
ولسوف أغسله بدم!
فاوست :
ذا كلام الجاهلين السفهاء
فالنتين :
بل كلام العاقلين الشرفاء
فاوست :
ماذا تريد إذن؟
فالنتين :
لطخت سمعة أسرتي
وجعلت أنفي في الرغام
وأنا أريد الانتقام.
فاوست :
في الغد المأمول سوف تكون أحكم
وغدا ستسمع ثم تعلم!
إني قصدت الحب أنبل خافق
في الكون كي أزداد علما
ما مقصدي إلا اغتراف العلم من نبع الحياة!
فالنتين :
من نبع أختي؟
فاوست :
من هوى المرأة أم الكون!
فالنتين :
إنها قد حملت منك سفاحا!
أنجبت طفلا حراما!
فاوست :
تنبت الأرض غراما
والهوى يغدو نباتا!
فالنتين :
عجبا تقر بإثمك الدامي؟!
خذ هذه الضربة من حد حسامي!
فاوست (يتراجع) :
مهلا ... تمهل واستمع! (يهجم بسيفه على فاوست فينهض إبليس للدفاع عنه.)
إبليس :
لا تخش شيئا؛ إنني بجانبك.
فاوست :
أنا لا أريد قتاله.
إبليس :
وقتاله فرض عليك. (يتبارزان فيحمي إبليس فاوست من كل ضربة.)
فالنتين :
لم ينج مني فارس من قبل!
قل إنه الشيطان في صفك لا شك!
فاوست :
قلت كفى! (يطعنه فاوست وإبليس فيسقط ثم ينهض.)
فالنتين :
قتلتني! أنا لا أصدق كيف أفناني طبيب! (يتحامل على نفسه ويخرج.)
فاوست :
قد قتلته!
إبليس :
بل قتلناه معا؛ غر صفيق!
فاوست :
ذنب مضاعف!
إبليس :
الآن أنت نزعت روحا من جسد
الآن أنكرت الوجود لتعرف المعنى
قل إنما الإنكار أول خطوة نحو الحقيقة!
فاوست :
أصبحت مثلك جاحدا!
إبليس :
بل عالما.
فاوست :
إنني خنت جريتشن.
إبليس :
من ينكر العهود
سيعرف الصمود .
فاوست :
لكنه جحود!
إني أغوص اليوم في جرف عميق!
إبليس :
لا بل تصارع موجه الطامي إلى شط الخلود.
فاوست :
في الجحيم؟
إبليس :
في الوجود!
فاوست :
دعني إذن! دعني لقد أذنبت!
وقتلت نفسا طاهرة
أزهقت روحا بالأمان عامرة! (يخرج فاوست.)
إبليس (وحده) :
هذه لحظة توبة، ذاك إنذار خطير!
ربما أسرع للبنت فألفاها تناجي ربها
ربما يذكر عهده، ربما حقق وعده!
الطامة الكبرى! سأخسر!
لا بد أن أتدارك الموقف! (يفكر ويتأمل)
أنا أعلم، لكن لا يدري ذاك الأحمق
أن جريتشن قتلت ذاك الطفل غرقا!
حكموا بالإعدام عليها
ورموها في السجن!
وتشتت عقل جريتشن! جنت!
لن أتركه يذهب للسجن وحيدا،
سأساعده حتى يلقاها
وسأمنعه إن حاول أن ينقذها،
لا بد له أن يعرف أيضا
أن له ضلعا في قتل الأم!
إذ كنت دسست إليه شرابا يعطيه إليها
حتى تشربه تلك الأم القاسية البلهاء!
فقضى ذاك السم عليها!
لا بد له أن يعرف أن مخارجه سدت!
قد قتل وأنكر ونكث
والنصر حليفي، لن ألبث! (يخرج.) (إظلام)
المشهد السابع (خارج الزنزانة في السجن، فاوست يحمل حلقة مفاتيح.)
فاوست :
عادت الرعشة!
عادت الرعدة في أوصالي!
كم من الأعوام فات اليوم لكن ما أتاني
مثل هذا الحزن للإنسان!
ما اكتوى قلبي ببؤس البؤساء
إنها في قعر جب بارد خلف جدار
ذنبها وهم الهوى في قلبها الفوار
كيف أخشى أن أرى وجه جريتشن؟
موتها حتم إذا لم أستطع إنقاذها! (يدير المفتاح في القفل ويفتح الباب فيسمع صوت جريتشن تغني.)
جريتشن (تغني بصوت طفلها القتيل) :
من قتلتني غرقا
أمي الفتاة العاهرة!
من لاك لحمي في فمه
أبي، بناب ظاهرة!
وعندها جاءت شقيقتي الصغيرة
فجمعت عظامي المبعثرة
في قاع جحر زمهرير
ثم استحلت طائرا يطير
وها أنا حلقت بل أطير. (يفتح الباب ويدخل.)
فاوست :
لا تعرف أني عاشقها
لا تعرف أني سوف أخلصها!
جريتشن (تخفي وجهها خوفا) :
قد أقبلوا قد أقبلوا وحان وقت المشهد المرير!
فاوست (بصوت خفيض) :
لا تصرخي لا تصرخي
لقد أتيت كي أخلصك!
جريتشن :
إن كنت من بني البشر
أرجوك أن ترحمني!
فاوست :
تكلمي همسا لكيلا توقظي الحراس! (يتناول فاوست سلاسلها لفتح أقفالها.)
جريتشن (راكعة) :
يا أيها الجلاد من أعطاك تلك السلطة؟
من قال إنك تستطيع القتل في هذا الهزيع؟
أرجوك فارحم من تموت غدا وتمضي
الصبح موعدنا إذن
والصبح موعد قريب! (تنهض واقفة.)
ما زلت في شرخ الشباب
بل إنني في مطلعه
والحكم بالإعدام قاس ومرير
قد كنت ذات ملاحة جاءت بمحبوبي الذي
ولى وضاع للأبد!
ومزقوا إكليل عرسي، بعثروا الزهور في الفضاء!
أرجوك فك إسارك القاسي، ترفق بي وأشفق!
ارحم شبابي! أي ذنب قد جنيت؟
دعني لأحيا؛ كيف ضاع توسلي عبثا!
لا أعرف الوجه الذي أشهده!
فاوست :
لا أقدر أن أتحمل أكثر من ذلك!
جريتشن :
أنا ملك يديك الآن! أنا جاهزة للموت!
لكن أرجوك، دعني أرضع طفلي
قبل رحيلي،
كنت أهدهده بالليل!
لكن أخذوه مني؛ حتى ينفطر فؤادي
قالوا قتل الطفل، واتهموني فيه!
ما أغرب ما صار إليه الحال!
أشرار هم أشرار!
فاوست (يلقي بنفسه على قدميها) :
بل إنني الحبيب يا جريتشن!
وراكع لديك تائب ونادم!
وجئت كي أخلصك!
هيا بنا من المكان المفزع!
جريتشن (تركع إلى جواره) :
فلنركع ولنرج الرحمة من قديسينا
انظر تحت السلم، تحت الباب
إن جهنم تغلي وتفور
أفلا تسمع صوت أزير النقمة؟
فاوست (صائحا) :
جريتشن جريتشن!
جريتشن (تفيق) :
كان ذا صوت حبيبي! (تهب واقفة فتسقط سلاسلها.)
سمعته ينادي! من الذي يحبسني؟
أصبحت حرة! سأرتمي بين يديه!
قد كان واقفا، نادى جريتشن!
عرفت صوته! لقد علا على الجحيم
على الصراخ والعويل والشياطين البذيئة!
قد كان صوت ذلك المحب والحبيب!
فاوست :
إني أنا الحبيب!
جريتشن :
إنه أنت إذن!
هاتها لي من جديد! (تعانقه)
لا شك أنه هوه! لا شك أنه هوه!
لقد تبخر العذاب وانتهى!
لقد تساقطت سلاسلي! (يحاول رفعها إلى باب الخروج.)
فاوست :
هيا معي، هيا معي!
جريتشن :
امكث معي؛ فأحب أن أبقى معك! (تلاطفه.)
فاوست :
لا نملك أن نتأخر هيا!
جريتشن :
عجبا كيف نسيت فنون التقبيل؟!
كم كنت تذوب بأحضاني !
وأنا بين ذراعيك الآن!
هيا، سأذكر محبوبي! (تعانقه) (تغير النبرة) شفتاك صامتتان
والحب قد بردا!
من يا ترى فرقنا؟
فاوست :
هيا تعالي، سوف نمضي من هنا!
هيا اتبعيني الآن أرجوك أقول!
جريتشن (تستدير إليه وتواجهه) :
هل أنت حقا أنت؟
فاوست :
هذا أنا يا فتنتي!
جريتشن :
حطمت أغلالي وسوف تعيدني للحب لكن ...
لست تدري من أنا!
فاوست :
هيا بنا أرجوك هيا!
ضوء النهار يكاد يقهر حلكة الليل البهيم!
جريتشن :
ماتت أمي. قد كنت دسست السم لها!
أغرقت رضيعي عند ولادته
كان هدية رب الكون إلينا،
لك أيضا!
هل أنت إذن من أنت؟
أوليس المشهد حلما من أحلام الليل!
هذي يدك ملطخة بالدم!
امسح عنها تلك القطرات الرطبة!
آه يا ربي ماذا تفعل؟
اغمد ذاك السيف إذن أرجوك،
اغمده أقول!
فاوست :
انسي ما حدث الآن!
ذلك يقتلني قتلا!
جريتشن :
لا! لا بد أن تعيش أنت!
والآن سأحكي لك عن كل قبوري
ومهمة تنظيم الدفن عليك، في الغد!
لا أقبل تسويفا، أو تأجيلا!
أنت ستختار المدفن!
أفضل قبر للوالدة بلا شك
ويليها الأخ فالنتين، وأنا بعده!
لكن بالقرب من الأخ والأم!
أما طفلي فعلى ثديي الأيمن
لن يرقد شخص آخر في قبري! (تغير النبرة)
قد كنت في يوم من الأيام
في رقة آوي إلى أحضانك
كانت منابع فرحة كبرى وفجر غرام
والآن يبدو أنني
لا أستطيع عناقك
وإخال أنك لا تريد عناقي!
لكن عطفك لم يزل وحنانك!
فاوست :
إن كنت كذلك فتعالي نمضي، هيا نخرج!
جريتشن :
أخرج معك إلى أين؟
فاوست :
للحرية!
جريتشن :
بل سجني هو قبري الأبدي!
فاوست :
الباب أمامك مفتوح.
جريتشن :
لكن فراري ميئوس منه؛
فعيون الناس تراقبني في كل مكان
وسأستجدي الكل لأحيا
في ألم من وخز ضميري
لأعود على أيدي الشرطة!
فاوست :
لن أتخلى أبدا عنك!
جريتشن :
أسرع أسرع! أنقذ طفلك
سر بحذاء الشاطئ واصعد فوق التل
عبر الجسر إلى الغابة في الطرف الآخر
وهنالك عند السور، ستراه في البركة!
أنقذه إذن! ستراه يحاول أن يسبح!
أنقذه أقول !
فاوست :
أرجوك كفى! ما هي إلا خطوة
ونكون من الناجين!
جريتشن :
اذهب للجنب الآخر من هذا التل!
أمي تقبع فوق الصخرة،
والبرد شديد!
أمي هزت رأسا مثقلة بالأحزان
هي لا تستدعي ابنتها
أو تومئ بالرأس الحزنى المكلومة!
نامت ردحا حتى ما تقوى الآن على اليقظة!
لن تصحو أبدا؛
غافلناها بشراب النوم!
نامت حتى يجمعك معي فرش واحد
ما أجمل تلك اللحظات على فرشك!
فاوست :
إن كنت لن أقوى على إقناعك
فسوف أحملك!
جريتشن :
لا تلمسني! لم تحملني؟ أنزلني! كلا كلا!
لن يرغمني أحد أن أخرج!
لا تحكم قبضتك علي،
قد كنت على استعداد دوما لإسار ذراعك!
فاوست :
الفجر قد لاح يا حياتي
والنور ينساب في السماء
جريتشن :
آخر يوم لي قد أشرق
كنت أظن زفافي اليوم!
الآن قضيت الليل بأحضاني
لا تفش السر! (تغير الإيقاع)
مزقوا إكليل عرسي
كان ما كان هباء
نلتقي في قاع رمسي
دون رقص أو غناء! (تغير الإيقاع)
لا أسمع صوت الجمهور
لكن الناس توافي
أعداد لا تحصى حقا
الطرقات امتلأت والميدان
وتدق الأجراس طويلا!
آه من تلك الألحان! (تغير الإيقاع)
إنهم شدوا وثاقي
أجلسوني قبل إعدامي هنيهة! (تغير الإيقاع)
إن لاح نصل السيف في الهواء
أو دار مثلما يدور في الفضاء
سيضرب الرقاب كلها
ويصمت الوجود عند قبري!
فاوست :
لم أدفع هذا الثمن الغالي يا ربي!
ولماذا يمحقني حبي؟ (يدخل إبليس.)
إبليس (من الباب) :
هيا هيا، إن تتأخر ضعت!
لا بد من السرعة؛ فخيول الليل سترحل
وضياء الصبح سيمحقني محقا!
جريتشن :
ما هذا الصوت القادم من تحت الأرض هنا
يطلبني؟!
فاوست :
بل سوف تعيشين!
جريتشن :
ربي! إني أنتظر سماع الحكم من الملأ الأعلى! (إلى فاوست) إن لم تأت سأرحل،
وسأترك للأقدار مصيركما!
فاوست :
سوف تعيشين!
جريتشن :
أيها الخلاق غفرانك
إنني أذنبت فاصفح!
قابل التوبة فلتمح الذنوب
إنني أصبحت من خير عبيدك!
أيهذا الملأ الأعلى،
اسمعوني!
انشروا كل جناح فوق ضعفي، وبكم إني استعذت!
إنني الآن أخافك!
إبليس :
قضي عليها!
صوت (من أعلى المسرح) :
بل غفر الله لها!
فاوست :
يا شقاء الكون كله!
ليتني لم أطلب العيش ولا تلك المحن!
أنت يا إبليس لا تدري الشقاء
قد خسرت الرهان،
فاحترق! (يخرج إبليس في برق ورعد.)
إن علم الله في قلب البشر
في الضمير والجوانح!
جريتشن :
ضمني قبل الوداع! قد تلقى الله روحي! (تموت بين يديه.)
فاوست :
إنني أجثو إلى الله القدير
طالبا عفوه!
أعرف الآن بأني خاطئ
تلك أسمى معرفة!
لم يغب ربي عن القلب للحظة
فهداني أن أتوب
خير توبة،
فإليه أتضرع
وإليه سوف أرجع! (ستار الختام)
الجزء الثاني: قصائد للمترجم
(1) ليلة في المستشفى
1
وقفت بباب الليل أنتظر الغدا
وأحيي رجاء في حماه وموعدا
وكنت قضيت الليل في قيد آسر
من الهم غل المعصمين وأصفدا
وأبكي شبابا زاره الصمت فجأة
فشد وثاقا في اللسان وقيدا
وأمسي حبيسا لا أكاد من الأسى
أرى النوم إلا آرقا أو مسهدا
وأجتاز في الليل الطويل مفاوزا
ومهمه تيه في الجوانح سرمدا
وها أنا ذا أرجو من الصبح مطلعا
وأرقب طيف النور في مشرق سدى
لعل به إحياء قبسة آمل
يرجي حياة بعدما انهد خامدا •••
رنوت من الشباك والقلب خافق
بقافية لا تبلغ اليوم مقصدا
وأمشاج شعر كنت يوما حفظتها
تهيب بقلب الغر أن يتجلدا
تؤكد أن الصبح لا شك مقبل
وآن لغول الليل أن يتبددا
ولكنني في الشرق لم ألق بارقا
سوى خيط نور شاحب قد تجردا
ولاحت على الأفق البعيد غمامة
تخب بريح عاصف قد تشردا
وتحجب ضوء الصبح فوق تلاله
يحاول قسرا أن يطل وجاهدا
وإذ بسحابات قد انثلن حولها
يدرن بدوامات نسم تمردا
يعربدن يحملن الطيور إلى السما
كأن بها مسا من الجان عربدا
وطار بها الشيطان يخبط صاخبا
فقرب ما بين الطيور وأبعدا
وساق قطيع المزن من كل موقع
وجمع في الركب الرباب المفردا
فما فتئ النور المطل أن ارتدى
قناع أديم المزن أغبر أسودا
وما فتئ الصوت المدمدم في السما
أن اجتاح أقطار الفضاء وأرعدا
هو الرعد كالإعصار زلزل صفوها
كمن سئم الدنيا فأرغى وأزبدا
وأبرق في جوف الفضاء لموعه
شرار ضرام في السموات موقدا
وجاء بأمطار هي الصر وابلا
كمن وجدت في الكون سهلا ممهدا
كأن صراخ الريح والماء هاطل
على مدلهم الأفق من نذر الردى
فكيف استحال الفجر بعد انبلاجه
ظلاما وضاع النور في الأفق هامدا
وكيف اكفهر الصبح وهو كما أرى
وليد بلى لم يشهد اليوم مولدا
كأني به طفل يشيب ولم يكد
يمد إليه الدهر إن صدقا يدا
عجبت لما يبدو وقد ساء ناظري
وعدت إلى نفسي فأنكرت ما بدا
فهل كذبت أشعارنا إذ تنبأت
بصبح يوافينا وإن يطل المدى؟ •••
عجبت لنفسي كيف صدقت ناظري
وكذبت شعرا كالحقيقة صامدا
وعدت إلى كهف بقلبي لكي أرى
بريقا عنيدا كالحياة تجددا
ودفئا كدفء الشمس يزهو بوقدة
ويحيا به ما كان في النفس باردا
ففي الكهف نار أشعل الشعر جمرها
وألهب فيها كل عزم وأكدا
وفي القلب زهر فتح الشعر نوره
وأورق فيه الحسن فاختال عسجدا
وتلك القوافي الغر أصداؤها انثنت
تهز فؤادا قد يعيش على الصدى
وتعمر بالآمال نفسا تسلحت
بعزم على مر الزمان معاندا
ومن نفحات الشعر أستلهم القوى
وأعلن قهري للزمان مكابدا
لقد عاشت الأشعار من بعد أهلها
وها هو صوتي أصبح اليوم منشدا
يردد ما قال القدامى كأنه
يردد صدقا في حشاه ترددا
هو الصحو والإشراق من بعد ما اكتسى
ضياء صباح اليوم غيما مربدا
هو البعث أو في البعث منه مشابه
هو الشعر أحيا كل روح وأخلدا (2) نداء السحر
غابت عن عيني أياما كدت أصالح فيها نفسي
وأمنيها بالنسيان
أشغل عقلي فيها بأمور الدنيا من حولي
في دوامة ما يلهي قلب الإنسان
أو ما يسخر منه كل بنان!
لكن نداء السحر الخافت مثل ترانيم أذان
يهتف بي في كل صباح كيف تنام؟
قم واسمع ما يحيي الكون من الألحان
قد تختلط بتسبيح الكروان
أو تسمو حتى كل عنان!
انهض! لم يخب بقلبك نبض الوجدان
ما دام لديك دماء تجري لا تنكر ما
يدعوك إليه الفجر من النغم الرنان
قد ينطق بالشعر فليس الشعر بشيطان
أو قد يتجلى فيما يلهو من نسم بالأفنان
فنسيم الفجر نسيم الروح إذا انتعشت
بتأمل حسن فتان!
انشد ذاك الحسن بكل مكان
عش ما بقي من الأيام على أمل قطاف
من أشجار البستان
وانشد صفو الروح إذا امتزجت
في لحظة صدق بصفاء أنقى لا ينطق بلسان
وستعرف ساعتها أن الصمت قرين الحق
وأبلغ من كل بيان
وإذا كانت قد غابت عن عينك فغدا
للصمت كهوف موحشة
في أعماق النفس ويمرح فيها الجان
فبأعماق الصمت نذير أن الكون الزاهي المزدان
لا يلبث أن يجرفه الصمت،
فإذا هو فان!
وإذا ما فات وما يأتي قد ذابا في الحاضر من
صفو الروح وإن أنكر عودة ما كان!
الصمت نداء السحر الحق فأنصت
تسمع صدق الألحان! (3) كيانك خانك
عروس تراءت لنا في الغمام
وكان الغمام لها حاجبا
وفي قلبها نار عشق قديم
يحاول أن ينتحي جانبا
ولمعة برق بعين الفتاة
تبشر أن وجدت صاحبا
ويسري اللهيب بأطرافها
وكان أزيز اللظى صاخبا
تحاول إخفاءه بالثياب
عسى أن تصد لها طالبا
وعين الصغير تعاف الثياب
وكيف ترى جسدا غائبا
وعين اللبيب ترى الجمر فيه
ومن تحته بشرا ساغبا
ودفء الماء يجدد عهد الشباب
ويجعل صاحبنا راغبا
وينسيه فجوة عمر مديد
وضعفا تبدى له غالبا
ووهن عظام وشيبا حثيثا
يجدد ما ظنه صائبا: «تباعد وأنشد لها الشعر» قال
فموجبه قد غدا سالبا
كيانك خانك فالكلمات
تقوم بما لم يعد واجبا (4) الزمن
أعيش في لحظة بلا زمن
وقودها جذوة من المحن
حروفها من سوالف سنحت
تعيد إحياء خفقة البدن
وتشتهي في الخيال فاتنة
عيونها الخضر جنة الوطن
تخال أن الصبا ملاعبة
كاللهو في نهزة من الفتن
أو غنوة للقلوب ساحرة
كبلبل صادح على فنن
وليس تدري بأن عاشقها
يقتله الحب خشية العلن
لكنها في الفؤاد ماثلة
في صحوه أو في غفلة الوسن
لا تنثني توحي بالشباب له
كي تخلق العنفوان من وهن
وقد يحب ان يرى بفتنتها
مساره نحو سامق القنن
أو يقنع القلب بالرضى كذبا
بأنه يحيا خارج الزمن (5) عللاني
أنظراني فإنني اليوم آت
بأمان طليقة مسكرات
إنما العمر في الحنايا لهيب
يوقظ الحب دفئه من سبات
بصفاء في النفس سام رهيف
يتجلى في رقة الخاطرات
مستقى من جمال ظبي صغير
شاقه الشعر في حمى الغابات
ويناجي القريض بالليل همسا
ثم يشقى النهار بالهمسات
عندما جئته تدفق شعرا
ساحر الجرس رائع النبرات
بعيون نجلاء ترنو خفاضا
وحياء رحيقه من فرات
فإذا النار في فؤادي نور
كاشف للخبيء من سانحاتي
وإذا بي أريد ما يتراءى
لي محالا مشتت الآهات
وأود احتضان من قد سباني
وعناقا يضم ذاتا لذاتي
ليس ما قد رأيت طيف خيال
بل جمال محدد القسمات
أهيف القد ناحل الخصر يبدو
ساهم الطرف قاتل البسمات
ناعما منعما يفيض به البش
ر وينساب في عروق الحياة
يكتم الحب ليس يعرف معنى
لحديث أو قيمة الكلمات
كلما تقت للكلام لأزهو
بصدى العنفوان في نبضاتي
لم أجد غير صمته والتأبي
واجتناب الألفاظ من فلتاتي
كيف يا شاعر هجرت القوافي
كيف إن رمتها سعت للشتات
عللاني فإن صمت حبيبي
مهلك لي جدا وصنو مماتي
إن أطلت السكون لن تجني اليو
م سوى أحرف وبعض رفاتي (6) لون الغد
أنا لا أعرف يا فاتنتي لون اليأس لأني أحيا في الغد
بل لا أعرف إلا لون الغد
لون الشفق الوردي على الخد
لون الصحبة في صمت الصحراء وهمس الوعد
فالوعد غد يتجدد
والوعد خلود لا يرهب حتى الموت
وضجيج الدنيا أصداء هواتف من دنيا الصمت
قد تعلو أو تخفت
لكن الأصداء محال أن تبرد
حتى إن وهنت خفقات القلب
وذوى ما نلقاه من الحب
فلدينا من نبع الذات معين لا ينضب
ابتعدي أو فاقتربي وابتعدي
فأنا أثبت كالطود
ولأني أحيا في الغد
أشهد شفق الفجر بكل مكان وزمان
وبروحي نور يتردد
فأرى الظلمة تتبدد
حتى لو غمرت كل الناس وأحلام الإنسان! (7) ترانيم
لا ينشد الفجر الوضيء سوى المعنى بالسهر
كلا ولا غبش الصباح سوى الذي مل القمر . •••
في الهدأة الأولى لألحان السماء إذا شدا
خفق الحنايا في تباشير السحر
تتفتح الأكمام واعدة بصبح كالربيع
وفي ثناياه الجمان المنتثر
فكأن أهداب الضياء بكل أفق ومض وعد
من بقايا العمر في بعض الصور
وكأن أغصان الصباح بوارق عليا تجلت
داعيات للتسامي في خفر
هل بالجوانح من بقايا النار ما يحيا
إذا اضطرب الرماد المستكن المندثر؟
أو ينبت الأزهار في روض تخطاه الزمان
فلم يعد يدري أفانين الزهر؟ •••
فلتصغ للكروان قبل الفجر يصدح مثل معمود
تعذبه متاهات الفكر
واسمع لما يلقيه في أذن السماء من الدعاء
إلى الربيع المستريب بما بدر
ولسوف تدري أن ما جاء المعنى من تباشير
بصحو من رقاد مستمر
جاءت به ذهبية الشعر المموج مثل تاج
زان وجها في سناه كالقدر
ما كان فيها من سواد الليل إلا بهمة
كالكحل في عين الليالي تستعر
وسكونه ونجومه في التاج زانت طيلسان الملك
يستر في حماه ما ستر!
وعبير أنفاس الصباح تزفها للنور يرقص
مثل جمر ضج من فرط الشرر!
هزت بأعطاف السنين نوائم العمر الذي
رقدت به أحلام يوم قد غبر!
بعثت بأطراف الزمان بشير صبح أو نذيرا
بالحياة فإذ به يخشى النذر!
ماذا تراه يعود لليل المهدم من ضياء
مثل لمح الفجر في أقصى العمر؟
ماذا تخفى تحت أهداب الجميلة من لوامع
مثل ميعاد لقلب منكسر؟
هل كانت الفجر الذي أوفى أخيرا صادقا
أم لم يكن ترنيمها إلا الضياء المنتشر؟ (8) إلى طفلة
يا طفلة والهوى بها شردا
يطوف كالخاطرات منفردا
كأنه الجن يرفض الزمنا
يرجو خلود الوجود إن صمدا
يحيا نهار الصبا على ثقة
في خلد نبض غرامه أبدا
تهوي إليه القلوب ناشطة
ويذهب الجهد في الصراع سدى •••
عيونها الخضر كالجنان صفت
وبينهن النهير مبتعدا
وزمهرير الشتا يضاحكها
فإذ ببرد الشتا قد اتقدا
هل الهوى في الفؤاد مشتعل
يزهو بجمر زها فما بردا
أم زهرة أغطشت محاسنها
فضيعت شوقنا لها بددا
تفر من قاطف ومشتمم
فإذ به فات لم يمد يدا
بقلبها خفقة تعذبها
كأنها واجد وما وجدا
قل كيف أرجو النجاة من قدري
أو أرتجي مطمعا يغيب غدا
فهل مرام المحب إن طمعا
إلا سرابا في قيعة ولدا
فاكتم غراما بها بلا أمل
فكيف تبدو إذا عليك بدا (9) من أنت؟
حار خيالي وخيال الغاوين الشعراء
في فهم كيان بشري من روح وضاء
حار فما أجدى معه أي عناء
وغدا كالضائع يفترش الغبراء
يتساءل دهشا عما يتدفق في
تلك الإنسية من أطياف بهاء
فهي الأرضية والعلوية في آن
تزهو لسمو الروح بفيض رواء
يسألها كيف أتيت إلى الدنيا
في ثوب فان يسخر من كل فناء •••
هل أنت إذن نبع من ماء
يتدفق وسط رمال الصحراء
قولي كيف تسامى النبع فطار
كيف تجاوز يوما كل سماء
كيف تسامى النبع فحول طينا من لحم ودماء
لمشارف فوق المزن عليها من ألوان الطيف كساء
قولي كيف غدا الماء هواء
هل صار سحابا يعلو ويحلق وسط الأجواء
أم نسمة صيف دافئة ترفعها شتى الأهواء
أم قبرة تخفق بجناحيها وتغرد صاعدة للجوزاء
أم سرب حمام أطلقه الحب فرفرف في أرجاء الخضراء
أم صرخة قلب ينشد مثلا عليا
لا ترضى بحياة سواد الأحياء
أم وهما من أوهام الشعر انفلت وحيدا ذات مساء؟
في جهلي أعجب من هذي الأصداء
لا تأتي الغربة إلا بالشوق عنيدا لا يشفيه أي دواء
غربة قلب لا يحدوه أي رجاء
فدوائي دائي ولرب دواء من داء! (10) عشق الشيوخ
هل جرى في الرياض جدول عشق
صاخب زاخر يموج غرامي
أو بدا في السماء ومض بريق
ناطقا بالذي أرى بمنامي
حالما بانبعاث شوق بقلبي
ناعيا ما مضى من الأيام •••
قد ذرعت الحياة طولا وعرضا
ناشدا عالما من الأحلام
فيه شوق الصبا يهز الحنايا
ويزيل المأفون من أوهامي
ثم جاء المشيب يمشي الهوينا
منذرا بالذي أخاف أمامي
وإذا في الربيع نبع غريب
زهره ناطق يغني كلامي
وإذا بالذي أتى حورية
أمسكت دون أن أعي بزمامي
عشقها ليس كالغرام ولكن
نفحات من العلا والتسامي
صدرها دافئ بصدق صدوق
تتفانى في وحيه أنغامي
شاديات لغير مرمى قريب
ليس تخشى ملامة اللوام
ذاك عشق الشيوخ يكفيه صدق
في الحنايا هنا جماع المرامي! (11) لا تبسمي
فتاكة البسمات يا حورية!
هل جئتني في قمقم السلطان يا جنية؟
أي المياه رمتك للشط البعيد فجئت بالموج الذي
يعلو خيوطا عسجدية؟
خصلات (ميدوزا) تحذر من جمال البشرة الفضية!
بل من دبيب الحية الرقطاء في جسد الحياة السرمدية!
هل من خلود في رضاب كالمنية؟
هل من رجاء بالبقاء إذا امتزجنا فالتقى
فينا الفناء بوهم أفكار عصية؟
أنت التي تدرين أن الحسن قتال
فما لك تهزئين بمن يكون لك الضحية؟
ذا شاعر ألهته عن دنياه تلك الفتنة العلوية
إذ خال فيها نبض فن خالد أنساه ما يلقاه
في دنياه واستبقى بها نفسا رضية! •••
الليل يخشى بسمة الشفتين
إن لمعت ثنايا اللؤلؤ السحرية
فأتت بصبح في دياجير الظلام وأربكت
مجرى الزمان بكل أفلاك البرية!
بل قد تخادع من يشوقهم احورار الطرف
في اللفتات إن جادت بها نفس سخية!
لا تبسمي يا فتنتي أرجوك حتى
لا أخادع ما أروض عليه نفسي
من جلاد في حمى الذات الأبية!
لا تبسمي
كي لا يعود إلى الفؤاد من الحنين إلى الصبا
دفق الحرارة في دما الحب الزكية! (12) ما بين النزوة والنبوة
عبرت ذات مساء كالخاطر يعبر حلما في قوة
ريحانة قلب ضاع شذاها تدعو للصحوة
فانتبهت بعض أقاحي الربوة
واهتزت بعض الأفنان كأن عبير الزهرة
أذهب عنها الغفوة
وتراقصت الأنسام بحلم الحالم تحيي
في أعماق القلب الصبوة
فإذا هو في نشوة
أسكره ما لأريج الريحانة من سطوة
صحت الدنيا في كل عروق الجسد تلبي الدعوة
وانتفضت بالدم بعض نوازع تأخذه عنوة
وانطلقت فكأن الزمن يعود بكل فتوة
وتداعت فيه أوهام الحب فزادته زهوة
فإذا بالحالم وهو يمني النفس بنزوة!
فالعين ترى فوق الأفق الذروة!
والقلب توهم أن القدم ستصعد واثقة
وبلا أدنى كبوة
كيف تناسى أن السير الآن على الجنب الآخر
من تل العمر السارب لا يفضي إلا للهوة
كان الوهم شديد القسوة!
كان يطل الحالم منه على الدنيا من كوة
حجبت عنه الرؤية حتى كاد بأن يستسلم للهفوة
وعلى جرف صخري أمسك فتوقف ينشد نجوة
أدرك أن السيف سينبو فبذا قضت الأيام
وبرغم الحلم الملتاث إذا هو يرجو تلك النبوة! (13) منه جاء الصبا
ضاع ليلي فما بكيت عليه
إذ شربت الأنغام من شفتيه
وتلذذت باللحون نهارا
ثم رمت الأحلام في ناظريه
لم أكن أرتجي غراما جديدا
غير أني وجدت عمري لديه
أشعل الشوق عارما في الحنايا
حين ألفيته يمد يديه
لا تقل إنني عشقت جمالا
حين لاح الجمال في مقلتيه
لا تقل إنني أروم شبابا
فشبابي المفتون في راحتيه
إن يجد أنطق الخبيء بقلبي
ورأيت النعيم في وجنتيه
ورويت الأشعار في حب ظبي
أنطق الخاطرات في أصغريه
وبذلت الأشواق تسعى حثيثا
بعد أن ترتمي على قدميه
إنه قاهر وصاحب ملك
ليس يشقى بمن يجود عليه
إن يجد عدت للحياة مليكا
منه جاء الصبا وعاد إليه (14) كيف يغني الشعر؟
كيف يغني الشعر عن عينين من نسج الظلال
كيف تغني رنة الأنغام عن دنيا الجمال
كيف تغني صورة في الذهن عن نبع من العذب الزلال
كيف يغني شطط الشاعر في دنيا خبال في خبال
عن شذا الورد ولون الورد حتى إن بدا صعب المنال
كيف يغني اللفظ مهما كان كالسحر الحلال
عن تملي الحسن في الروض الأريض الزاهر المختال؟ •••
قد يكون الشعر تعويضا عن العجز الذي نلقاه إن
ساخت بنا الأقدام في بحر الرمال
فترى فيه الجناحين اللذين يسعيان دائبين للكمال
أو يثيبان الذي مل البرايا وتهاويل الهزال
في حياة الزيف في أفعال أشباه الرجال
وخداع الناس أو شتى أحابيل الضلال
فيجوبان الفيافي صاعدين في الجبال
هابطين كل واد سادرين في المحال! •••
وهنا قد يفلح الشعر فيأتي بتصاوير المثال
ويعزي العاشق الولهان عن حرمان قلب ذل من طول السؤال
بأماسي غرام وأهازيج ليال
وقطوف دانيات وكئوس من دوال
وبذاءات تدن ونداءات تعال
فيرى المسكين دنيا الحق في أصداء ألحان المقال
ويظن اللفظ رجعا لأحاديث الوصال
ويخال العالم المرئي أشباحا تدلت من حبال
سابحات في فضاء، لاهيات لا تبالي
بحرور أو ببرد، أو بقاء أو زوال. •••
لكن الشعر خيال دأبه نسج الخيال
كيف يغني الشعر عن عينين من نسج الظلال
كيف يغني الشعر عن دنيا الجمال؟ (15) لكنها امرأة
صغيرة منمنمة، كأنها جنية أو قبرة
خمر البريق كالعقيق إن قاربت تلك الجوهرة
وقادة اللهيب في أعماقها ألسنة مستنفرة
كأنها نداء روح خافت يغذو أزيز مجمرة
لكنها امرأة
لاحت كمثل طفلة رمت بها ريح الحنايا الحائرة
فعينها الخضراء واحة فسيحة الربا مستترة
وفوقها الأهداب أغصان الخبايا الزاهيات النضرة
وفي شفاهها رضاب من ثمار جنة مزدهرة
لكنها امرأة
جاءت بهدأة الصباح مثل نسمة الربيع الفاترة
في قلبها الإيمان صافي المسيل كالكرام البررة
والطهر في أرجاء روحها سرى، قطر الدنان الآسرة
والصدق في ألفاظها رجع لأصداء اللحون الطاهرة
لكنها امرأة «كأننا في الغاب» قالت «لست صيد كل صائد وقسورة» «أخشى بأن تمسني أنياب هذه الوحوش الكاسرة»
كانت تقول الحق حين أنطقت روح الحياة الثائرة
إلى العنان قد سمت تطير فوق أفق كل طائرة
تسمو كأنما سما بها جناح نافثات ساحرة
وعندها تدفق الشعر الرقيق في أرجاء نفس شاعرة
لكنها امرأة (16) رثاء فاروق عبد الوهاب
2
طائر الموت يحلق
في سمائي
قد مضى أمس بفاروق ولم يسمع ندائي
ليس يعنيه سوى أن يسعد الملأ الأعلى
بألحان شجية
هي ألحان عزائي
كيف أبكيه وقد كان وما زال
رفيقا لعنائي
شغله أن ينطق الكون بأنغام
كرام عربية
بحروف أجنبية
ما الذي يرضيك يا طير المنية؟
ما الذي تبغيه من نقل البرايا
لمراقيك العلية؟
لست أخشى أن أرى منقارك المعقوف
أو أخشى سواد الريش ينذر بالبلية
فأنا أعددت أوراقي وصرت أتوق
للترحال من دنيا دنية!
Bilinmeyen sayfa