فلم يمسك ألفونس نفسه عن إرسال دمعتين أخريين وهو لا يزال مبتسما، ولكنه تجلد وقد ارتاح إلى رؤية عمه، فقال: «لا أظنني أشكو إليك أمرا لا تعرفه، بل أظنك تشكو مثل شكواي أيضا ...»
فقال أوباس: «فهمت مرادك يا ولدي، ولكن الأمر الذي تشكو منه قد أصبح قديما، فلا بد من أمر حدث لك فجدد أحزانك.»
فقال ألفونس: «صدقت يا عماه، وأما ما جدد أحزاني فهو أني وقفت بين يدي ذلك الوحش الكاسر في هذا الصباح، وقفة خادم بين يدي سيده، وقفت وقد استصغرت نفسي حتى حسبتني ذبت حياء، ولو طال بي الوقوف فإني لا أدري ماذا كان يصيبني. ولما خرجت من القصر رأيت رجال الحاشية لا يعبئون بمروري بعد أن كانوا إذا مررت يتسابقون إلى تقبيل يدي.»
فقال أوباس: «وما الذي دعا إلى وقوفك هذا الموقف، وعهدي برودريك قلما يدعوك إليه؟»
فقال ألفونس: «لأني تأخرت عن موكبه في هذا الصباح، فلم أدركه إلا وهو راجع من الكنيسة.»
قال أوباس: «ما كان أغناك عن هذا التأخير، إذن لم تكن لتسمع تعنيفا ولا تتحمل لوما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا! وما الذي أخرك عن الاحتفال؟»
فلم يخجل ألفونس من أن يقص على عمه سبب تأخيره لأن عمه مطلع على ما بينه وبين فلورندا من المحبة المتبادلة، وهو الذي وضع عربون الخطبة بينهما، فقال له: «سبب تأخيري أني زرت فلورندا في هذا الصباح بعد أن طال غيابي عنها، وأنت تعلم انقطاعي عن ذلك القصر وضواحيه منذ ابتليت بمصيبة أبي. وكنت أحسب فلورندا قد تغيرت، فزرتها لأتحقق من أمرها، فطال الحديث حتى نسيت الموكب، فلم أنتبه إلا وهم عائدون من الكنيسة، فأسرعت لأكون معهم، ولم أكن أظن أن الملك يراقب حركاتي إلى هذا الحد. فلما دخلت عليه استبقاني إلى ما بعد خروج المهنئين وعنفني تعنيفا لم يكن شديدا، ولكنه وقع على رأسي وقوع الصاعقة.»
قال ذلك وكاد يشرق بدموعه، فلم يبال أوباس بدموع ألفونس لاستصغاره مثل هذه الظواهر - ظواهر الضعف البشري - فظل ساكتا ينتظر تتمة الحديث. أما ألفونس فلما رأى عمه لا يزال مصغيا، استطرد في الكلام فقال: «ومما زادني ألما أن ذلك القس الهرم كان يحاول الإيقاع بي في الشرك، فقد نبه رودريك إلى علاقتي بفلورندا، وكنت أقرأ سوء القصد من خلال عينيه الغائرتين ومن وراء ألفاظه المختلطة.»
فقال أوباس: «أراك يا ألفونس مضطرب العواطف كثيرا، ولا فائدة من ذلك، ولا عبرة بلفظ تسمعه أو إشارة تراها؛ فإنها حركات طائرة في الهواء، وما هي من الحقيقة في شيء، فخفف عنك وارجع إلى صوابك وابحث في الأمر بحثا معقولا.»
رباطة الجأش
Bilinmeyen sayfa