وكانت عاصمة مملكة القوط في إسبانيا في ذلك الوقت مدينة «طليطلة» على ضفاف نهر التاج في أواسط إسبانيا. وكانت طليطلة في ذلك العهد مدينة عامرة، فيها الحصون والقلاع والقصور والكنائس والأديرة. وكانت مركز الدين والسياسة، وفيها يجتمع مجمع الأساقفة كل عام ينظر في الأمور العامة.
وكان ملك الإسبان عام الفتح الملك «رودريك» والعرب يسمونه «لذريق»، وهو قوطي الأصل، تولى الملك سنة 709م، ولم يكن من العائلة المالكة، ولكنه اختلس الملك اختلاسا، وترك أبناء الملك السابقين ناقمين عليه. وكانت إسبانيا تنقسم يومئذ إلى ولايات أو دوقيات، يتولى كل دوقية منها حاكم يسمى «الدوق» أو «الكونت»، ويرجعون في أحكامهم جميعا إلى الملك المقيم في طليطلة.
وطليطلة واقعة على أكمة مؤلفة من أكمات يحيط بها نهر التاج من كل جهاتها، إلا الشمال، بما يشبه حدوة الفرس تماما. ووراء النهر من الشرق والغرب والجنوب سلسلة جبال تحجب الأفق عن أهل المدينة، وفيها مغارس الزيتون وكروم العنب وغابات السنديان والصنوبر. وفي منتصف المدينة، الكنيسة الكبرى التي جعلها المسلمون بعد الفتح جامعا، وهي على جانب عظيم من الفخامة والمناعة. وكان الناظر إذا ألقى نظرة على أبنية طليطلة من علو شاهق تبين فيها من ضروب الأبنية مزيجا من الطرز الرومانية والطرز القوطية. وحول المدينة من الشمال ووراء النهر من الجهات الأخرى مغارس الفاكهة والثمار وسائر أصناف الأشجار، إذا أطل الواقف من إحدى نوافذ منازلها أشرف عليها جميعا.
فلورندا
وكان في جملة قصور الملك رودريك قصر في شرقي المدينة على أكمة تشرف على ضفاف النهر. ويحدق بالقصر صنوف الأشجار والرياحين والأزهار على مرتفعات تتخللها مجاري الماء على غير نظام؛ مما يزيدها جمالا. ومساحة تلك الحدائق واسعة يحيط بها كلها، إلا من جهة النهر، سور حوله الحراس في منازل بنوها لهم بجانب أبواب البستان.
وكان بجانب قصر الملك قصر صغير متصل به يؤدي إلى القصر من جهة، وله باب مستقل يؤدي إلى البستان من جهة أخرى. ناهيك بقصور متفرقة في جوانب ذلك البستان، بعضها للحاشية وبعضها للأمراء، وفي جملتها قصر كبير كان يقيم فيه أولاد الدوقات والكونتات حكام الولايات، جريا على العادة المتبعة عند ملوك القوط في ذلك الزمان؛ فقد كان من عاداتهم أن يجتمع في بلاطهم في طليطلة أبناء ولاتهم المشار إليهم وبناتهم، يقيمون هناك ويربون في البلاط الملكي معا، يتعارفون ويتعاشرون فيشبون على ما يرضاه الملك ويتأدبون في خدمته ثم يتزوجون .
ففي صباح الخامس والعشرين من ديسمبر عام 711 للميلاد، كان أهل طليطلة مشتغلين بالاحتفال بعيد الميلاد، والناس يتقاطرون إلى الكنائس والأديرة وهم يهنئون بعضهم بعضا، وأكثر الكنائس ازدحاما في ذلك اليوم الكنيسة الكبرى؛ لأن أكبر أساقفة طليطلة يصلي فيها، ويحضر القداس الملك رودريك بنفسه ومعه حاشيته وكبار رجال دولته؛ فغصت تلك الكنيسة على سعتها وامتلأ فناؤها وما حواليه من الشوارع والسطوح بالناس على اختلاف الأجناس والأعمار، تطلعا إلى رؤية الملك ومشاهدة موكبه الحافل. ومما زاد الناس شوقا إلى رؤيته أنه كان لا يزال قريب العهد بالملك وقلما رآه أهل طليطلة، فكيف بأهل البلاد المجاورة؟! فاغتنموا فرصة ذلك العيد وهرعوا لمشاهدة الرجل الذي اختلس الملك من غيطشة ملكهم السابق.
ولم تبق امرأة لم تخرج من بيتها، إذا لم يكن لسماع الصلاة فلمشاهدة موكب الملك رودريك إلا فتاة من أهل البلاط الملكي اغتنمت فرصة انشغال الملك ورعيته بذلك العيد لتخلو إلى نفسها وتفكر في أمرها. وكانت من جملة بنات الكونتات حكام الولايات، تقيم في القصر الذي يجمعهم جميعا بجوار قصر الملك، فنقلها الملك منذ بضعة أيام إلى القصر الصغير المتصل بقصره، وهو إكرام حسدها عليه كل رفاقها ورفيقاتها، ولكنه كان سببا كبيرا في تعاستها وانشغال بالها.
فلما خرج الملك ورجال دولته وسائر أهل البلاط للاحتفال بالعيد، اعتذرت هي بانحراف صحتها. وكان ذلك اليوم صحوا زاهيا يندر مثله في فصل الشتاء، وقد أطلت الشمس من وراء الآكام، وأرسلت أشعتها على نهر التاج وما على ضفافه من الحدائق، وفي جملتها حديقة قصر الملك، فبخرت ما كان على الأوراق والأزهار من الطل. ومثل هذا اليوم يحلو للناس الخروج فيه من المنازل إلى البساتين لاستقبال أشعة الشمس والتمتع بمناظر الطبيعة.
فانتهزت الفتاة فرصة غياب الملك وحاشيته ونزلت من القصر، وتمشت في طرق تلك الحديقة وقد تدثرت فوق ثيابها برداء من الحرير الأحمر مبطن بالفرو اتقاء للبرد. وقد غطى الرداء كتفيها ومعظم جسمها إلا ذيل ثوبها الأرجواني المزركش بالقصب، فإنه ظل يتلألأ في أشعة الشمس ويجر من ورائها جرا خفيفا. وأما رأسها فقد كان مكشوفا وعليه شبكة من الحرير الأبيض تضم شعرها الذهبي ضمة واحدة، وترسله إلى ظهرها مستعرضا كأنها خارجة من الحمام، وتلك عادة الرومان في لباس الشعر اقتبسها عنهم القوط في تلك العصور. وكان ذلك الشعر الذهبي يتلألأ من خلال تلك الشبكة، وخاصة إذا وقعت عليها أشعة الشمس في أثناء مرور الفتاة بين الأشجار، على أن تسربلها بذلك الرداء لم يخف جمال قامتها ورشاقة مشيتها. وأما وجهها فقد كان ممتلئا، ناصع البياض مشربا بحمرة يكاد يشف عما تحته، وقد زاده الانحراف والذبول هيبة وجمالا، وزاد العينين الزرقاوين حدة ومضاء. ولم تكن عيناها زرقاوين تماما، بل كان فيهما مع الزرقة شيء لا يعبر عنه بغير السحر. ولها فم مع صغره لا يبدو إلا مبتسما ابتسام الوقار والحشمة.
Bilinmeyen sayfa