وجعلهم قبلة ومنهاجا لدار السلام، تتشرف الأرض بمواطئ أقدامهم، وتنزل الرحمة عند دروسهم وتقريرهم، ولولاهم لكانت الناس بالدين جهالا، وأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا إضلالا، ولقد غاصوا في مسالك الفقه وساروا، وداروا على مسائله وجدا وهاموا، وبينوا المسائل الفقهية أحسن تبيين، وأظهروا ما خبئ وخفي عن الغبيين، وردوا خصم الخصوم المخالفين، وأقاموا صحة الحجج والبراهين، فأحاطوا بأحكام حرامه وحلاله، ورشفوا من غوامض مائه وزلاله، ووضحوا العبارة بلباب العقول والنقول، واعتمدوا على كل قول صحيح صواب مقبول، على منهج الطريق الواضح المستقيم، غير متعرضين لكلام ضعيف ولا مين ولا ذميم، وأن ما يشتغل به العاقل اللبيب، الكامل الأديب، التفقه في دينه، والاجتهاد في فهمه وتبيينه؛ لأجل إنقاذه من الجهل المهين له في زمانه وحينه، وليعرف الحلال من الحرام والحرام من الحلال، وليحوز الخير الجزيل المتين؛ لقوله ﷺ: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
ولما كانت الفتوى من أهم ما بها يعتنى، وأجل ثمر يقتطف ويجتنى؛ لكونها من فروض الكفايات، ولعدم الاستغناء عنها في وقت من الأوقات، ولم تزل العلماء الأعلام المفتيون، يقيدون ما يقع لهم من الأسئلة والأجوبة ويجمعون، ومن كتب ما وقع له في لياليه وأيامه، فقد كتب كتابا إلى من يأتي بعده بحوادث دهره وأعوامه، ومن قيد ما رأى وشاهد في أوقاته ودهره، فقد أشهد أحوال عصره لمن لم يكن في عصره، ولقد أفادنا الماضون قبلنا بالأخبار، وأطلعونا على ما دثر وبقي من الآثار، فأبصرنا ما لم نشاهده بالأبصار، وأحطنا بما لم نحط به خبرا من الأخبار، فرحمنا الله تعالى ورحمهم أجمعين، وبوأنا وإياهم جنات عدن فيها خالدين، لقد غرسوا حتى أكلنا وإنا لنغرس حتى يأكل من بعدنا، ويستفيدون ما رأينا وشاهدنا، ويعلمون ما شهدنا وعهدنا، والناس لهم في الفنون مراتب ومقامات، ولهذا رفع بعضهم فوق بعض درجات، وما ذاك إلا فضل من المولى الكريم المتعال، يؤتيه لمن يشاء من عباده ويكسوه ثوب الإجلال، ولقد اهتم العلماء في جميع الوقائع غاية الاهتمام، واجتهدوا في حفظها لينتفع بها من بعدهم من الأنام، حتى صارت كتبا عديدة يرجع إليها، ودواوين فريدة يعتمد عليها، وبراهين غزيرة يتمسك بها، لما فيها من الأحوال النادرة والفروع الشاردة لا تكاد توجد مسطرة إلا على الندور، ولا يلتقي مثلها في الكتب المبسوطة غالبا إلا في العتور.
وقلوب أهل هذا الزمن مائلة إليها، ومعولين في الجواب عليها، قال العبد الفقير
1 / 3