فغلب الخجل على لمياء بعد هذا التنازل وقالت: «العفو يا سيدتي إنك تتنازلين كثيرا في مخاطبتي وما أنا أهل لشيء من ذلك ...»
فأحست أم الأمراء أنها ضايقتها في الحديث لأول مقابلة فرأت أن تتركها على أن تعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى فقالت: «بل أنت خير لأحسن منه ... والآن قد آن لك أن تستريحي.» وصفقت فأتتها قيمة الدار فأمرتها أن تعد غرفة خصوصية للضيفة وأن تساعدها في تبديل ثيابها وتؤانسها. فنهضت لمياء ومشت مع القيمة وقد تنبهت عواطفها وهاجت أشجانها.
فأخذتها القيمة إلى غرفة من القصر تطل على الحديقة التي فيها البركة من ناحية وعلى المسجد الجامع من جهة أخرى فساعدتها في تبديل ثيابها فألبستها ثوبا من أثواب الأميرات وهو مع غلاء قيمته بسيط في زيه بلا زركشة ولا تأنق. وقد أعجبت لمياء بكل ما شاهدته هناك من أدلة البساطة والجنوح إلى العمل. وقلما وجدت شيئا يراد به الزخرفة فقط. مع أن قصر أبيها في سجلماسة لم يكن يخلو من الترف والرخاء؛ يقلد بهما حضارة بغداد أو مصر أو الأندلس فيأتي من كل بأفخر مصنوعاتها. وأما المعز فكان يخاف ذلك الرخاء فيميل إلى التمسك بالبساطة والبعد عن الترف.
الفصل الثامن
المناجاة
ولما خلت لمياء في تلك الغرفة تصورت ما أصابها من الانتقال في ذلك اليوم. باتت أمس في فسطاط أبيها خارج القيروان وهي الآن في قصر الخليفة المعز لدين الله معززة مكرمة. وتذكرت أن المعز من نسل الإمام علي وفاطمة الزهراء، فاختلج قلبها من الفرح؛ لحصولها على الحظ بالتقرب من ذلك الدم الطاهر والشرف العظيم. ومشت إلى شرفة مطلة على الحديقة ولم تكد تجلس حتى تقاذفتها الهواجس وتذكرت خطيبها سالما وكانت قد أحبته ووطنت النفس على الاقتران به. فلما آن وقت العقد أخذت أسيرة مع أبيها ولم تعد ترى سالما ولا علمت أين هو. وكانت تعلم من أسراره ما لا يعرفه عمه وكان في ما أطلعها عليه من أغراضه أمور تنكرها عليه ولا يعلم عمه أبو حامد باطلاعها على تلك الأسرار، ولعله لو علم لم يسمح بتقربها من المعز.
فأطرقت حينا وهي غارقة في التفكير وجعلت تناجي نفسها قائلة: «أين أنت يا سالم؟ لا، لا أصدق أنك قتلت ... لا. لم تقتل بل أنت مختبئ أو متنكر ... أو لعلك تفكر في ذلك الأمر ... ليتني أستطيع أن أراك؛ لأطلعك على أمور تهون عليك العدول عن عزمك ... وأتخلص مما يعرضونه علي ... إني لا أحب الزواج إلا بك؛ لأني لم أحب سواك ولكنني مع ذلك لا أوافقك على عزمك؛ لأن فيه خطرا. آه، أين أنت؟»
وهي في ذلك سمعت حركة وحديثا في الحديقة، فتحولت مجاري أفكارها نحو ما سمعته، وجلست تتوقع أن ترى أحدا - وكانت قد ضفرت شعرها ضفيرتين جانبيتين ولفت رأسها بخمار كبير كالحبرة يغطي كتفيها وجنبيها - وما لبث أن سمعت خفق نعال على مقربة من النافذة فتراجعت وهي لا تزال تنظر نحو الحديقة؛ وإذا هي برجلين عرفت منهما القائد جوهرا وبجانبه شاب في مقتبل العمر يظهر من ملامحه أنه ابنه الحسين، وتذكرت ما قيل لها عن رغبته فيها، فأحست بنفور وانزوت مخافة أن يقع نظره عليها.
أما جوهر فكان ماشيا وعليه الجبة والقفطان وفوق رأسه العمامة الصغيرة وحولها الخمار وقد تقلد السيف. وفى مشيته وثبات قدميه ما يدل على أنه قائد عظيم، وأما ابنه فكان في مثل لباسه لكنه لا يزال يانعا وفي محياه نضارة الشباب مع هيبة القواد، والبسالة بادية في عينيه وجبينه.
ولحظت لمياء وهي منزوية أن الحسين بن جوهر لما وصل إلى جانب غرفتها التفت كأنه يلتمس أن يرى أحدا وسمعت أباه يقول له بصوت منخفض: «لا شك أنك لو رأيتها ما تمالكت عن الإعجاب بها؛ لأنها جمعت بين مهابة الرجال ولطف النساء.»
Bilinmeyen sayfa