فلما علمنا بذلك وتبين لنا أنه إذا سار هو إلى المدينة سيمتنع بأنصاره وأصحابه وربما عادوا إلى مناوأتنا فاجتمعنا في دار الندوة التي ذكرت لكم أن قصيا جعلها في الكعبة للمشورة وتفاوضنا في ماذا نفعل بهذا الرجل فقال بعضنا: «ننفيه» وقال آخرون: «إن نفيه لا يمنع اجتماعه بأصحابه وأنصاره.»
فقال آخرون: «فلنقتله ونجعل دمه متفرقا بين القبائل لئلا يجتمع أعمامه بنو عبد مناف على المطالبة بدمه.» فجئنا برجال من كل القبائل وسرنا جميعا خلسة حتى أتينا منزله وتربصنا له ريثما ينام فلما ظنناه نام وقد شاهدنا رجلا ملتفا ببردة حسبناه هو ثم خرج هو إلينا ونحن نظنه سواه فكلمنا وحثا التراب على عيوننا وفر من أمامنا فتركناه ودخلنا على النائم فإذا هو على ابن عمه ففر الآخر من أمامنا ونجا الجميع وتبعه من بقي من أتباعه في مكة إلى المدينة وهناك نصره المهاجرون والأنصار وهم جنده إلى هذا اليوم مع ما انضم إليهم من القبائل على أثر الحروب التي حاربها والغزوات التي غزاها فانه لم يدع قافلة لنا تمر بالمدينة إلا غزاها وفرق أسلابها وأموالها بين رجاله حتى كانت بيننا وبينه واقعة بدر الكبرى والصغرى وواقعة أحد وغير ذلك مما يطول شرحه.»
فعجب هرقل لحديث أبي سفيان ورآه لم يفرغ من حديثه حتى علا وجهه الاكتئاب والأسف فقال له: «وكيف حال صاحبك اليوم.»
قال: «قد انتشر أمره بين القبائل في سائر بلاد العرب إلا مكة فإنها لا تزال ممتنعة عليه ونظنها ستمتنع برجالها وقد بلغني أنه سيقدم لفتحها ولكنه سيلقى منا غير ما لاقاه في وقائعه الأخرى ومما يدلك على اغتراره بنفسه أنه خاطب الإمبراطور هرقل قيصر الروم بمثل هذا الخطاب على أننا ما برحنا نسمعه من بدء دعوته يقول أن كنوز كسرى وقيصر ستفتح له.»
فقال هرقل: «يؤخذ من كلامك أن الرجل جاءكم بالقول الحق فإن عبادة الله أولى من عبادة الأصنام وأنتم إنما قاومتموه ظلما.»
فقال أبو سفيان: «أن أكثرنا أيها القيصر يعتقد بالله ولكننا نتخذ الأصنام «ليقربونا إلى الله زلفى» ونعترف بالبعث والإعادة ولكننا لا نؤمن بالرسل.»
فاعترضه أحد البطاركة قائلا: «فلا نظنكم قاومتموه إلا خوفا على تجارتكم أن تبور إذا هدمت كعبتكم وقل توارد الناس إليها فهي مصالح دنيوية آثرتموها على مصلحة الآخرة.»
ثم أشار هرقل إشارة فهم الحضور منا أنه اكتفى من حديث أبي سفيان فتقدم الحارث إلى أبي سفيان وأومأ إليه فوقف وقبل الأرض بين يدي هرقل فقال له الإمبراطور: «لقد سرنا لقاؤك واستفدنا من حديثك ولكنك تكبدت المشقة بالقدوم إلينا جزاك الله خيرا.» فقبل أبو سفيان الأرض ثانية وقال: «أبيت اللعن أيها الملك العظيم فإني بالمثول بين يديكم أفاخر أهل الحجاز كافة إذ قلما تيسر لأحد منهم أن يخاطب قيصر الروم.» قال ذلك وخرج ورجاله معه فأمر له هرقل بخلعة من الحرير المزركش.
ثم إلتفت هرقل وتناول الكتاب وهو من الرق وأمر أن يحفظ في قصبة من ذهب وأمر بهدية إلى دحية حامل الكتاب وسلم إليه الكتاب وصرفه.
الفصل السابع عشر
Bilinmeyen sayfa