بباب قديس والمكر عسير
عشية ود القوم لو أن بعضهم
يعار جناحي طائر فيطير
6
وكتب سعد إلى عمر بقصة عمرو وبشر وما قال لهما وردهما عليه، وبعث إليه بأبياتهما، فكتب عمر إليه: أن أعطهما على بلائهما، فأعطى كل واحد منهما ألفي درهم أرضتهما ولم تغضب أحدا؛ فقد عرف الناس جميعا أنهما، إلى حسن بلائهما، أحرص على المال من غيرهما.
وكذلك انتهت المعركة إلى ما رأيت من نصر حاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقا لمعرفة أنبائها، يقول المؤرخون: «كانت العرب، من العذيب إلى عدن أبين، ومن الأبلة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدا يكشف ما يكون من خبرهم.» وكان عمر بن الخطاب أشد الناس تطلعا وشوقا لمعرفة ما تنتهي إليه؛ لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى أهله ومنزله، وإنه ليسير يوما إذ لقيه راكب على ناقة عرف حين سأله أنه مقبل من هناك، فقال له: يا عبد الله حدثني، قال الرجل: هزم الله المشركين، وجعل عمر يخب معه يسأله والراكب يحدثه وهو على ناقته لا يعرفه، وكان هذا الراكب سعد بن عميلة الفزاري رسول سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين، وكان يحمل رسالة سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من أصيب من المسلمين وأسماء من عرف منهم، فلما دخل الرجلان المدينة وسلم الناس على عمر بإمرة المؤمنين، قال ابن عميلة: هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين! وأجابه عمر في بساطة: لا بأس عليك يا أخي! وتناول منه كتاب سعد وقرأه على الناس.
بينما كان عمر يتلو على أهل المدينة كتاب سعد بالفتح، كان يزدجرد بالمدائن قد كرثته الأنباء، فأكب يستعيد أقوال رستم وما كان يشير به فيتولاه الحزن ويقعد به الهم دون التفكير فيما يستطاع عمله ... وماذا يستطيع هو، وماذا تستطيع فارس كلها؟! لقد انطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعا إلى طاعتهم معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غلبوا على أمرهم، كان سعد يعذرهم تألفا لهم وحرصا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم، بل لقد أقبل عليه من قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين من ذكر أن إخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام كانوا أوفر منهم عقلا وأكثر حكمة، ثم أعلنوا بين يديه إيمانهم بالله ورسوله، ماذا يستطيع يزدجرد إزاء ذلك كله وقد كانت تبلغه أنباؤه فتزيده هما على همه وتدفع اليأس إلى نفسه، لولا أن أبقت حمية شبابه سرابا من الأمل يلمع أمامه فيخدعه عن الواقع، ويغريه بالتعلق بعرش حرمه صبيا، فلما اعتلاه تزلزلت قوائمه، وتزعزعت أركانه! وهيهات لسراب أن يحقق أملا، أو يدفع للقضاء حكما! •••
هذه وقعة القادسية التي فتحت الطريق إلى إيوان كسرى في عاصمة ملكه، ومهدت للإدالة من دولته والقضاء الأخير على سلطانه؛ لذلك روى أكثر المؤرخين من تفاصيلها ما روت كتب السيرة من تفاصيل غزوة بدر، وأضافوا إليها من الخوارق ما لا يحمل على تصديقه إلا ما كان لهذه الغزوة من أثر حاسم في تاريخ العالم، بل لقد أسهب المستشرقون والفرس في روايتها ما أسهب المؤرخون المسلمون، وليس في ذلك من عجب والقادسية أعظم أثرا في تاريخ الإنسانية من غزوات تيمورلنك ونابليون، بل من كل الغزوات التي وقعت إلى عصرنا الحاضر وكان لها في توجيه الحضارة أبلغ الأثر.
من الحق على المؤرخ، وذلك شأن القاسية، أن يقف عندها يستشف أسرارها ويستخلص عبرها، لقد فتح خالد بن الوليد سواد العراق وسار فيه من جنوبه إلى شماله، وأخضع ريفه ومدنه، وتولى كل أمره، وكان له في قتال الفرس عليه معجزات باقية على التاريخ، أفيرجع ظفره بهم إلى تشاغلهم بما كان في بلاطهم من اضطراب، وما كان بين أمرائهم من تنازع على العرش جعلهم يقتتلون، فيقتل بعضهم بعضا غيلة حينا وجهرة حينا، حتى لقد جلس على هذا العرش تسعة ملوك في أربع سنوات؟ إن يكن ذلك هو الذي أظفر خالدا بهم، فكيف ظفر به أبطال القادسية، وقد اجتمعت كلمة فارس بعد شتات، وقد تعاقد الأمراء والرعية جميعا على أن يكونوا رجلا واحدا حول يزدجرد ينصرونه ويؤازرونه؟ نعم كيف بقيت العلة وقد انتفى سببها، وكيف ظفر المسلمون على قلتهم بالفرس على كثرتهم، والفرس في بلادهم وهم أصحاب العدة والحضارة، والمسلمون طارئون عليهم، وأكثرهم بدو على فطرتهم، لا يملكون من عدة الحرب ما يملك عدوهم، ولا يعرفون من أساليبها ما يعرف!
السر في ذلك أن اجتماع كلمة الفرس لم يغير ما بأنفسهم، وإنما كان أمرا ظاهرا قضت به ضرورات الساعة، ثم بقيت القلوب في أعماقها شتى، وبقي السادة والأمراء يفكر كل منهم في نفسه وفي مطامعه قبل أن يفكر في وطنه، فلو أنهم انتصروا على العرب وأجلوهم عن بلادهم، لعاد الأمر كما كان، ولاضطرب البلاط كرة أخرى، ولطغت المطامع الذاتية على كل اعتبار سواها، ألم تر إلى رستم كيف تلكأ فلم يخرج على رأس الجيش إلا كارها مخافة ثورة الشعب به إذا خرج يزدجرد مكانه! ألم تر إلى تباطئه وتباطؤ سائر القواد في السير حتى قضوا أربعة أشهر منذ فصلوا من المدائن إلى أن بلغوا القادسية! والواقع أن رستم لم يكن يرى في النجوم إلا ما كان مرتسما في قرارة فؤاده، لقد استولى عليه حب نفسه فعز عليه أن يهزم أو يقتل، فرأى مصير وطنه مرتبطا في النجوم بما يخاف من هزيمته ومقتله، ولو أنه عرف فارس ونسي نفسه ورأى موته وحياته سيين في سبيل وطنه، لما تعلل ولا تباطأ، ولما رأى في النجوم ما رأى، ولسما بروحه فوق الخوف وفوق الإشفاق، ولسرت منه إلى القواد والجند قوة تجعلهم جميعا يخوضون غمار الموت لا يبالونه، لكن القواد والجند كانوا كرستم تعلقا بذواتهم وإشفاقا مما يصيبهم، فكانت روح كل واحد منهم أعز عليه من فارس ومن كل ما فيها، وإنما كانوا يسيرون إلى المعركة تحرك الرؤساء أطماعهم وأهواؤهم، ويحرك الجند إذعان ومذلة ألفوها أجيالا طويلة، أترى ما تقضي به ضرورة الساعة من اجتماع الكلمة كافيا ليقضي في النفوس على هذه العوامل الكمينة التي تأصلت فجعلت كل رجل في الدولة يعيش لذاته، وكل جماعة فيها لا تفكر إلا في مصالحها؟
Bilinmeyen sayfa