أتم عمر كلامه ثم نزل فأم الناس للصلاة، حتى إذا فرغ منها التفت إليهم فندبهم للذهاب إلى العراق مع المثنى، وذكر لهم وصية أبي بكر في ذلك، وسمع الناس نداء الخليفة، فنظر بعضهم إلى بعض ثم لم يجب الدعوة منهم أحد، وكأنما ذكروا ما أصاب إخوانهم بالشام، فلم يريدوا أن يصابوا بمثله، أليس أبو بكر قد دعاهم لغزو الشام فترددوا فقام عمر يومئذ فصاح بهم: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم إلى ما يحييكم!» عند ذلك أجابوا الدعوة، فساروا لمواجهة هرقل وجنوده، وها هم أولاء أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، ومن معهم من الصحابة ومن تبعهم من الأمراء والأبطال من مختلف الأرجاء في شبه الجزيرة، في موقفهم من الروم لا يستطيعون التغلب عليهم، ثم لم يغن عنهم أن أمدهم أبو بكر بخالد بن الوليد بعدما دوخ الفرس بانتصاراته في العراق، أتراهم يكونون أحسن حظا إذا لبوا نداء عمر وساروا مع المثنى في العراق؟! أم تراهم يقفون هناك من جنود كسرى موقف أصحابهم بالشام من جنود هرقل؟! وليس يطمع أحد منهم في أن يرد عمر خالدا إلى العراق وهم يعلمون سوء رأيه فيه، ويذكرون موقفه منه في حادث مالك بن نويرة.
والمثنى بن حارثة قائد عظيم لا ريب، لكنه ليس من قريش وليس من أصحاب رسول الله، بل هو من بني بكر بن وائل، ثم إنه لم يلبث، حين فصل ابن الوليد من العراق إلى الشام، أن انسحب من سواد العراق إلى الحيرة، ثم جاء إلى المدينة يستمد الخليفة، ويدل بذلك على أنه في مكان من الفرس لا يحسد عليه، ولعل له عذره، فاسم الفرس كان يلقي في قلوب العرب الرعب، ولقد ظن بعضهم أن خالدا غلبهم؛ لأنهم استخفوا بادئ الرأي بأمره، فلم يواجهوه من قوتهم بما يرده على عقبه، أما وذلك الشأن فما لهم ولقتال قد تدور عليهم دائرته؟
لم يخف أحد من الزعماء وأولي الرأي ملبيا نداء عمر، وإذا تثاقل هؤلاء كان غيرهم من جمهور الناس أكثر تثاقلا، هنالك أطرق عمر هنيهة، ثم عاد إلى مجلسه من المسجد وعاد الناس يتتابعون على بيعته وانصرف الناس بعد العشاء، وبقي عمر ليله يفكر، فلما أصبح وأخذ مكانه من المسجد، وعاد الناس يتتابعون على بيعته، ونادى المنادي لصلاة الظهر، فما لبث عمر حين انفتل منها أن نادى في الناس بصوته الجهير يأمرهم أن يردوا سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، ويعلل ذلك بقوله: «إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب.»
سمع الناس هذا الأمر، فشخصت أبصارهم إلى عمر، وجعلوا يتساءلون بينهم: ماذا أراد به؟! لقد سبى المسلمون من العرب في حروب الردة تنفيذا لأمر أبي بكر حين أذاع في أرجاء شبه الجزيرة أنه أمر كل قائد من قواده ألا يقبل من مرتد إلا الإسلام، ومن أبى يقاتله على ذلك، ولا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء والذراري، أفيريد عمر بهذا الأمر أن يخالف أبا بكر وأن يجري على غير سنته؟ أم أنه رأى الناس تقاعسوا حين ندبهم للذهاب مع المثنى فأراد أن يستميل العرب من مختلف القبائل إليه ليمد المثنى بهم؟ أيا ما كان الأمر، فما أمر به جديد في سياسة الدولة يقف النظر ويوجب التساؤل.
الحق أن عمر لم يذق النوم في الليلتين اللتين انقضتا منذ قبض أبو بكر إلا غرارا، فالناس يتتابعون على بيعته احتراما لعهد الصديق ووصيته، ولكن الكثيرين من زعمائهم لا يزالون يبرمون به لغلظته، وقد كان لبعضهم في ولاية الأمر مأرب، ولن تستقيم الأمور في دولة لا يتضامن أولو الرأي فيها على توجيه سياستها، والموقف أدق من أن يدعه عمر للزمن مكتفيا بأن يدعو الله أن يحببه للناس وأن يحبب الناس إليه، فإن لم يأخذ الأمر بالحزم أوشكت شئون الدولة أن تضطرب، أما وقد أمر برد السبي إلى عشائرهم فتألف قبائل العرب وكسب قلوبا كانت تنفر من شدته، فليمض غير متردد في سياسته، ولقد خرج إلى الناس بالمسجد في اليوم الثالث، فلما فرغوا من بيعته قام فيهم فقال: «إنما مثل العرب مثل جمل أنف
2
اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.»
ازدادت الأبصار شخوصا إلى عمر، وخيل إلى الحاضرين بالمسجد جميعا أن هذا الرجل سيكون عليهم سوط عذاب بشدته وغلظته، ورأى عمر ذلك في وجوههم، فصعد المنبر حين ازدحموا لصلاة الظهر فقال:
بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه، ومن قال ذلك فقد صدق. ... إنني كنت مع رسول الله، فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان - كما قال الله - بالمؤمنين رءوفا رحيما، فكنت بين يديه سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله كثيرا وأنا به أسعد.
ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عز وجل وهو عني راض، فالحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد.
Bilinmeyen sayfa