الفصل الأول
عمر في جاهليته
استهل ذو القعدة لسنوات قبل مبعث النبي، فأقبل العرب أفواجا يحدون إبلهم من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ليقيموا سوق عكاظ كعادتهم قبل الحج من كل عام، وكانت السوق تضطرب بمن جاءوا إليها من مختلف القبائل، وفيهم من أهل مكة عدد غير قليل، وقد أقام هؤلاء العرب مضاربهم في فسحة البطحاء المترامية التي تقوم السوق عليها، ثم جعلوا ناحية منها للتجارة، وفي هذه الناحية أقام جماعة أمام مضاربهم متاجر يعرضون فيها سلعا قل منها ما كان من صناعة الحجازيين أنفسهم، في حين قد جاء أهل مكة ومن إليهم بأكثرها من اليمن ومن الشام في رحلتي الشتاء والصيف، والناس يؤمون هذه المتاجر رجالا ونساء، يبتاعون منها ما يشاءون، وأكثر ما تقف النسوة عند البزازين بائعي الأقمشة والثياب، يقلبن بين أيديهن شتى ألوانها، ثم يخترن من نسج اليمن أو صناعة الشام ما تهوي إليه قلوبهن، فإذا كانت بينهن مليحة جذبت إلى المضرب من الشبان والرجال من يتظاهرون بالشراء، وإن كانوا أشد حرصا على اجتلاء جمال المليحة منهم على مس الحرائر والمتاع بألوانها واقتناء ما يعجب منها، وعلى مقربة من هذه المتاجر قامت حلقات اللهو يؤمها الشبان طرفا من النهار وأطرافا من الليل؛ ولا تأبى الحسان أن يكن على مقربة منها، فإذا أقبل الليل ذهب الشبان يحتسون الشراب حتى تميل أعناق بعضهم، ثم تركوا لنوازع اللهو والهوى العنان، وكم أدت هذه النوازع إلى مهاترات ومصاولات بدأت طفيفة ثم تجسمت، حتى انتهت إلى قتال بين القبائل امتد على السنين.
قام شاعر يوما في جانب السوق ينشد قصيدة له؛ يتغزل في مطلعها، ثم ينتقل من الغزل إلى المفاخرة بنفسه وبقبيلته، ثم إلى التعريض بقبيلة نازعت قبيلته العام الفائت وإلى النيل منها، والتف حول هذا الشاعر المجيد حلقة من أهل السوق تسمع له وتستجيد غزله، فلما انتقل من الغزل إلى الفخر صفق له قوم طربا، وصاح به آخرون إنكارا واستهجانا، أما إذا انتقل إلى التعريض بالقبيلة التي خاصمت قبيلته وإلى النيل منها، فها هي ذي صيحات الطرب وصيحات الإنكار تنقلب نزاعا عنيفا يحرك السيوف في غمودها، فلما أتم الشاعر قصيدته قام شيخ ذو حكمة ودعا القوم إلى السلم، وما زال بهم حتى جنحوا لها.
كان بين الذين يستمعون لهذا الشاعر شاب تجاوز سنه العشرين، ضخم جسيم مديد القامة، تعلو هامته هامات الجمع كله، أبيض اللون تعلوه حمرة تضرب بلونه إلى السمرة، وقد كان ينصت إلى الشاعر إنصات إعجاب يدفعه ليهز رأسه الحين بعد الحين، آية اغتباطه بما سمع وطربه له ودقة تذوقه إياه، لم يشارك الصائحين في صياحهم؛ لأن مفاخرة الشاعر بقبيلته لم تعنه، وتعريضه بالقبيلة الأخرى لم يعنه كذلك؛ فهو ليس من هذه القبيلة ولا من تلك، بل لعل القبيلتين كانتا بعيدتين عن موطنه بعدا زاده انصرافا عن أمرهما إلى المتاع بجمال الشعر الذي يسمعه، وأتم الشاعر قصيدته فأقام الفتى ينصت لما يقول الحكيم، فلما جنح القوم للسلم انصرف يتقدم جماعة من أصحابه مسرعا في مشيته حتى لقد شق على تابعيه أن يلحقوا به، ذلك لأنه كان أروح في رجليه سعة فلا يعرف في المشي بطئا، وكان أصحابه يحادثونه علهم يستوقفونه فلا يفوتهم بسعة خطوه، واتصل هذا الحديث متنقلا من الحوار الهادئ إلى جدل فيه عنف وشدة، عند ذلك وقف الشاب، وقد احمرت عيناه وبدت عليه أمارات الغضب، فنفخ وفتل شاربه الطرير وقال: بهذا الفتى تخوفوني! لست للخطاب إن لم أصرعه لأول ما ألقاه!
واندفع في طريقه أكثر إسراعا، حتى كانت خطوات أصحابه من خلفه أدنى إلى الهرولة منها إلى السير، فلما بلغوا حلقة المصارعة المنصوبة في جانب من عكاظ ألفوا فتيانا أشداء مفتولي العضل يشهدون أحدهم جاثما على صدر صاحبه وقد ألقاه إلى الأرض صريعا، وما لبث القوم حين رأوا عمر بن الخطاب يسير إليهم أن فسحوا له طريقا، وقام المتصارعان فوقفا مع النظارة وأيقنا أن عمر لم يجئ شاهدا، وإنما جاء مصارعا، وأدار عمر بصره في الحاضرين ولا يزال الغضب آخذا منه، فلما صادف الفتى الذي دار عنه الحديث بينه وبين أصحابه دعاه لينازله، وابتسم الفتى وتقدم حتى توسط الحلقة، وهو أشد ما يكون اطمئنانا إلى نفسه وثقته بقوته ومقدرته، إنه لم يصارع عمر من قبل، فهذه أول مرة جاء فيها مع قبيلته إلى عكاظ؛ لكنه لم يغلب مرة منذ جاء، حتى لقد هابه الأقران وحسبوا حسابه، وكان يقرب عمر طولا وجسامة، وتقدم إليه عمر يصاوله، وحاول الفتى البدوي أن يصرع عمر، وأبدى من ضروب المهارة في النزال ما جعل النظارة يتكاثرون ويزداد عددهم إلى ما لم يألفه أحد من قبل، وأقبلت فتيات كن على مقربة من المكان سمعن اسمي المتصارعين، فحرصن أن يرين ما سيكون منهما، فقد عرفن، كما عرف الناس في الأعوام التي خلت، أن ابن الخطاب لا غالب في المصارعة له، فلما أقبل هذا البدوي وصرع كل الذين صارعوه، رجا أهل عكاظ جميعا أن يصارع ابن الخطاب، وراهن بعضهم بعضا لأي الفتيين يكون الغلب، فلما دعا عمر صاحبه للمصارعة سرى النبأ في السوق كلها مسرى البرق، وأقبل كل من لم يمسكه عمله، يريد أن يأخذ من هذا المشهد نصيب، وترك عمر صاحبه زمنا يحاوره ويحتال ليصرعه، وهو منه في موقف المدافع، لا يبذل من الجهد ما يبذل البدوي البارع، فلما أحس به هاضه الجهد انقض عليه فركب أكتافه وألقاه على الأرض صريعا، وضجت الحلقة بذكر عمر ومقدرته، وتذاكر شهودها سابق فعاله في مثل هذه المواقف، ولم تكن الفتيات والنساء أقل من الرجال والفتيان إشادة بالفتى القرشي النبيل ذي الأيد.
بدأت الشمس بعد قليل تنحدر إلى المغيب، وبدأ النظارة ينصرفون كل إلى مقصده، وصار عمر يجوس خلال السوق وأصحابه من حوله يبدون من الإعجاب به ما يكافئهم عنه بابتسامة قلما كانوا يرونها مرتسمة على محياه، وهو لم يكن يخص أصحابه بهذه الابتسامة؛ فقد كان يرى أبصار من يمر بهم شدت إليه وهم أشد من أصحابه إعجابا به، ويرى فتيات يشرن إليه ويتهافتن يردن أن يحظين منه بنظرة رضا عنهن أو هوى لحسن المليحة منهن، فيبعث ذلك إلى نفسه من أسباب الرضا ما تعبر هذه الابتسامة عنه.
وجن الليل فمال في أصحابه إلى ملهى قام على حافة السوق، تنفسح البادية من ورائه إلى مدى الأفق، وتخير عمر أدنى مكان من البادية فجلس فيه بعد أن أهدى تحية المساء لمن مر بهم من معارفه الكثيرين الذين ردوا تحيته بأحسن منها، وأضافوا من عبارات الإعجاب به والثناء عليه ما أعجبه، وأقبلت خمارة هيفاء تتهادى وكل نظرها إلى الفتى الظافر، وقد طوقت ثغرها ابتسامة بدت من خلالها ثناياها الغر العذاب، وأبدى عمر في حديثه إليها سماحة لم يبدها منذ أقيمت السوق، فلم تأب أن تتيه دلا عليه، وبعد هنيهة عادت أدراجها ثم كرت راجعة تحمل الخمر المعتقة لهؤلاء الشاربين الأوفياء الذين لم يقضوا من ليالي السوق ليلة في غير حانتها، وكان عمر بين أصحابه يشرب بالكبير، ويشرب سائرهم بالصغير، وتقدم الليل والفتيان يشربون ويسمرون، ينتقل بهم الحديث من الجد إلى المجانة، ومن الغزل بالنساء إلى ركوب الخيل، ومن أيام العرب إلى أنسابها، وعمر يفيض في ذلك كله إفاضة عليم حلت الخمر عقدة لسانه، وزاده الظفر بصاحبه البدوي إقبالا على الحديث واسترسالا فيه، وفيما يتذاكرون فارسا رأوه ضحى يركب جوادا ينهب به الأرض، صاح عمر: واللات والعزى لقد خلتني إياه إعجابا بقدرته على رياضة جواده!
وابتسم صاحبه الذي حاوره من قبل في أمر البدوي المصارع وقال: تغفر العزى لابن عمك زيد بن عمرو قوله:
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
Bilinmeyen sayfa