159

أفتصور المسلمون الذين ساروا مع عمرو هذا المشهد الباهر لا نظير له في العالم كله؟ وهل حدثهم عنه أحد من البدو الذين ساروا معهم بعد ما فصلوا من الفرما، وحين ساروا من بلبيس بعد ظفرهم بجند الروم؟ وهل كان منهم من أحد شهد فتح المدائن وشهد أبيض كسرى ليرى عجائب الدنيا مجتمعة في هذا المكان الذي أقبلوا عليه من أرض مصر؟ أم تراهم كانوا في شغل بقلة عددهم وما يريدهم عليه عمرو من مواجهة الروم في حصون عزيزة المنال؟ لقد نزلوا قريبا من أم دنين؛ فبهرهم منظر النيل بسعة مجراه وبالخصب الممرع حوله وبأشجار الربيع ونباته يتثنى ريان ضاحك الخضرة، فوق أرض أخذت زخرفها وازينت فهي جنة للناظرين، لكنهم سرعان ما شغلوا عن هذا المنظر بالحصون القائمة أمامهم، وبما عرفوا من أن الروم أعدوا لهم بعد ما أيقنوا أن هذه الحصون ملاذهم، فإن تفتض عليهم فلا بقاء من بعد ذلك لهم، فقد جاء الروم إلى حصن بابليون بجل قوتهم، وأمدوا حصن أم دنين بمسلحة قوية، وتهيئوا لقتال لم يبق لديهم شك في أنه قتال حياة أو موت، فإما ردوا العرب بعده على أعقابهم، وإما قالوا في أعقابه ما قاله هرقل يوم ودع سورية الوداع الأخير: عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده!

وأدرك عمرو بن العاص دقة الموقف وخطره؛ فقد جاءته عيونه بأنباء عرف منها أنه لن يستطيع أن يفتح حصن بابليون أو يحاصره بمن معه من الجند، ولن يستطيع أن يفتح مدينة مصر، وهي في جوار الحصن وفي حمايته، لكنه أدرك كذلك أنه إن يرجع عن مهاجمة الروم يضعف شوكة رجاله ويذهب عزمهم، فيقوى عليهم عدوهم فيردهم ناكصين على أعقابهم، وما كان له أن يأتي أمرا ذلك أثره، وهو الذي أصر على فتح مصر، وهو موقن أن أمير المؤمنين لا ريب ممده عما قليل، لا بد له إذن من مغامرة يكتب له فيها النصر، وله من بعدها أن يداور ليكسب من الوقت ما يشاء حتى يجيء المدد، أما وحصن بابليون لا سبيل إليه فليحاصر حصن أم دنين، وليبذل في سبيل فتحه كل ما يستطيع بذله، فإذا استولى عليه أصبحت السفن الراسية في مرفئه رهن أمره، وأصبح في مقدوره أن يدبر خطته وأن يحكم مداورته.

وكان الحذر يقتضي عمرا ألا يفرط في رجاله أو يدفعهم إلى هلكة، وأن يستعجل أمير المؤمنين المدد ليضاعف الأمل في قرب مجيئه قوة الجند الذين معه؛ لذلك بعث رسولا إلى المدينة بكتاب يصف فيه مسيره إلى مصر وموقفه من حصونها وحاجته إلى المدد لاقتحامها، وأذاع في الجند أن المدد موشك أن يجيء، ثم إنه تقدم إلى أم دنين فحاصرها ووقف قبالتها يمنع عنها العتاد والميرة، ولم يفكر الروم المقيمون في حصن بابليون أن يخرجوا إليه وقد علمهم مصير الأطربون أنه لا طاقة لهم بالقتال المكشوف، أما مسلحة أم دنين فكانت تخرج إلى القتال أحيانا ثم ترتد إلى الحصن إن لم تظفر بالمسلمين، ومضت أسابيع لم يتغير الموقف فيها، وإن لم يشعر المسلمون أثناءها بشيء من القلق أن كانت الميرة في متناول أيديهم.

وإنهم لكذلك أن جاءتهم الأنباء بمقدم أول مدد لهم، وبأن هذا المدد موشك أن يبلغهم فقوى بأسهم، واشتدت سطوتهم، وأقبل المدد، ورآه حماة الحصن من جنود هرقل، فسقط في أيديهم وقل خروجهم للقاء المسلمين، فلما رأى عمرو ذلك منهم، وكان قد عرف مداخل الحصن ومخارجه، تخير وقتا أمر فيه أصحابه أن يشدوا كلهم على الحصن شدة رجل واحد ليأخذوه عنوة، وسار هو في طليعتهم إلى بابه، ففتحه الله عليهم فاستولوا عليه بعد مقتلة عظيمة، وبعد أن أسروا من بقي فيه حيا.

لم يذكر المؤرخون تفصيل ما وقع في اليوم الحاسم لهذه المعركة، ويذهب بتلر إلى أن عمرا شق على رجاله في ذلك اليوم، مستندا إلى قصة رواها مؤرخو العرب أن عمرا رأى جماعة يترددون في القتال فصاح بهم يحثهم عليه ويدفعهم إليه، فقال له أحدهم: إنا لم نخلق من حديد، فانتهره عمرو بقوله: اسكت! إنما أنت كلب! وأجابه الرجل: فأنت أمير الكلاب! فأعرض عمرو عنه ونادى بأصحاب رسول الله وقال لهم: تقدموا فبكم ينصر الله، فاندفعوا في الوطيس وتبعهم الناس، ففتح الله على المسلمين، وابن الأثير يذكر هذه القصة حين يذكر وقعة عين شمس، وأيا ما كانت الموقعة التي حدثت القصة فيها فلا ريب في أن إقبال المدد قد كان له أثر كبير في استيلاء المسلمين على أم دنين بعد أن أبطأ عليهم فتحها، وأن عمرا نزلها ثم عبر مع جنده النيل في السفن التي كانت بمرفئها، وسار على رأسهم يتخطون الصحراء مجتازين أهرام الجيزة.

أخذ الروم اللاجئون إلى بابليون حين عرفوا مصير أصحابهم بأم دنين، وتولتهم الدهشة حين قيل لهم: إن جيش المسلمين تخطى النيل ضاربا في الصحراء، فما مقصد عمرو من عبور النهر؟ وما عسى أن تكون وجهته؟ أتراه أزمع السير على الفرع الكانوبي يريد الإسكندرية محاولا فتحها بمن معه من الجند؟ إنه إذن لمردود دون غايته، ولن يبوء إلا بالهزيمة النكراء، لكنهم عرفوا من أنبائه في أثناء سيره بمصر، وجربوا من دهائه وبعد نظره ما أورثهم الريبة من مقصده، وأعماهم عن غرضه، وهو لم يفكر بالفعل في السير إلى الإسكندرية، وكيف يسير إليها وهو يعلم أنها مفتوحة لمدد الروم من البحر! بل كيف يسير إليها تاركا وراءه حصن بابليون سليما زاخرا بالرجال والعتاد! إنما فكر في أن يسير إلى الفيوم يشيع الفزع في نفوس أهلها، ويقيم الدليل للمصريين على أن دولة الروم لا محالة زائلة، وليس في طريق الصحراء بين الفيوم وبابليون عقبة واجتياز هذا الطريق هين على أبناء البادية من أهل شبه الجزيرة، وهو بعد طريق قريب يقطعه الفارس في ساعات معدودة، فإذا استطاع عمرو إشاعة الفزع في هذا الإقليم بلغ مقصده، وكسب من الوقت ما يكفي الخليفة لإرسال مدد جديد يستطيع به عمرو أن ينفذ خطته في الفتح، وأن يدخل به مصر في حكم المسلمين.

لكن عمرا لم يلبث حين بلغ تخوم الفيوم أن علم أن الروم أعدوا للدفاع عن الإقليم ووضعوا الجنود على مداخله؛ لذلك لزم الصحراء وجعل يغير بكتائب قليلة على البلاد القريبة منه، يسوق النعم طعاما لجيشه، وجاء البدو المقيمون بهذه المنطقة بأنباء عرف منها أن كتيبة من الروم بإمرة رجل اسمه حنا تسير مختفية في النخيل والآجام قبالته متنطسة أخباره فإذا حاول اقتحام البلاد الآهلة دعت الجيش المرابط في ثغور الفيوم لمواجهته، عند ذلك أغذ السير حتى بعد بحنا وكتيبته عن الجيش، ثم ارتد إليه وحاصره ومن معه وقتلهم عن آخرهم.

أذاعت هذه الفعلة الرعب في قلوب أهل الإقليم جميعا، وقد حزن قائد الروم بالفيوم لمقتل حنا أشد الحزن وأمر بالبحث عن جثته، فلما انتشلت من النهر حنطت ووضعت على سرير وحملت إلى حصن بابليون، وبعث بها إلى هرقل في القسطنطينية، وحزن هرقل لمرآها وأقسم ليدافعن عن مصر بكل قوته، واندفعت قوة من الفيوم تلقى جيش المسلمين وتنشب القتال معه، لكن عمرا اكتفى بالظفر بحنا وأصحابه وبما أنزله من الرعب في أهل الإقليم، وظل متحصنا بالصحراء راغبا عن لقاء عدو يخشى الصحراء ويرى الموت كامنا فيها، ولشد ما اغتبط الروم حين رأوه ينسحب بقواته ممعنا في الفيافي؛ فقد خيل إليهم أنه خشي لقاءهم ففر منهم، فعادوا إلى قومهم وعلى ثغورهم ابتسامة الرضا بأن كفاهم الله شر القتال!

والواقع أن عمرا لم ينسحب؛ لأنه خافهم، بل انسحب عائدا إلى أم دنين يسرع السير جهد طاقته؛ لأن رسولا من المسلمين جاءه فذكر له أن أمير المؤمنين بعث إليه بمدد جديد، وأن هذا المدد سار من الفرما إلى بلبيس في الطريق الذي سار فيه عمرو وأنه يوشك أن يصل إلى حصون الروم، فلم يكن لعمرو بد من أن يرجع للقاء المدد خشية أن يقطعه الروم عنه وأن يردوه عن عبور النهر إليه، والمحقق أنه أبدى في ذلك مهارة فائقة؛ فقد كانت جيوش الروم مشرفة على النيل من حصن بابليون، وكان في مقدورها أن تخرج من الحصن وأن تعبر النهر، وأن تحول بين قائد المسلمين والمدد المقبل إليه، لكنها لم تفعل واستطاع عمرو أن يعبر الشاطئ الشرقي وجيشه معه، وأن يتصل بالمدد الذي نزل هليوبوليس على مقربة من الحصن الروماني.

كيف أتم القائد البارع هذه المعجزة من معجزات الحرب؟ أتراه اتخذ الليل لباسا له ولجيشه ثم عبر النهر محتميا في ظلمته؟ وهل بقي الروم في غفلة عنه في أثناء سيره وأثناء عبوره فلم يواجهوه ولم يحاولوا رده؟ أم هم عرفوا مجيء المدد وسيره للقائهم فخافوا أن يتخلوا عن الحصن فيهاجمه المدد ويفتضه على من فيه؟ لم يذكر المؤرخون ما يلقي شيئا من النور على هذه المداورة البارعة، وهذا الانسحاب الدقيق من الفيوم إلى هليوبوليس، وكل ما يذكره بتلر استنادا إلى مراجعه الكثيرة أن عمرا استطاع أن يعبر النهر، إما عنوة وإما غرة من الروم «وأغلب الظن أنه عبر النهر في موضع أسفل من موضع أم دنين إلى الشمال منها، فقد علم بأن أمداد المسلمين سائرة في طائفتين ميممة شطر «عين شمس» وهي «هليوبوليس» وعلم أن مقامه في الجانب الغربي مخطر، والحق أنه فزع خوفا من أن يفطن الروم إلى الأمر، فيحولوا بينه وبين الاتصال بالمدد الذي جاء به الزبير، ولكن «تيودور» (قائد الروم) ضيع الفرصة على عادته، فلم يضرب الضربة القاضية، واستطاع عمرو أن يسير للقاء المدد ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس وقد امتلأت قلوب أصحابه عزة وبشرا بما وفقوا له من الفوز في غزوتهم.»

Bilinmeyen sayfa