157

والفرما هي «برمون» القبطية، و«بلوز» الفرعونية، وهي تقع على هضبة من الأرض قريبة من البحر الأبيض ومن مصب الفرع «البلوزى» من أفرع النيل السبعة؛ فقد كان النيل في ذلك العهد والعهود التي سبقته يتفرع في مصر السفلى - الوجه البحري - سبعة أفرع: اثنان منهما هما المعروفان في وقتنا الحاضر باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكان أولهما يسمى في ذلك الزمن الفرع الفتنتي والثاني يسمى الفرع البلبيتي؛ أما الفرع الثالث فكان مستقلا عنهما يبتدئ جنوبهما بنحو ستة أميال ويتجه إلى الشرق خلال ما نعرفه اليوم باسم مديرية الشرقية حتى يصب في البحر الأبيض على مسافة تزيد على أربعة وعشرين ميلا شرقي الموقع الذي تقوم فيه بورسعيد، وهذا الفرع الثالث هو الفرع البلوزي، أما الأفرع الأربعة الأخرى فكانت تتشعب من فرعي النيل الباقيين في عهدنا الحاضر، وكان اثنان منها يجريان في مديريتي الشرقية والدقهلية أو يصبان في البحر الأبيض خلال بحيرة المنزلة؛ الشرقي منهما هو الفرع التانيتي الذي يمر بتانيس، وهي «صان الحجر » المدينة الأثرية المعروفة في عهدنا الحاضر، والآخر هو الفرع المنديزي الذي يخترق مديرية الدقهلية متشعبا من النيل عند نقطة قريبة من موقع ميت غمر ليصب في أثناء بحيرة المنزلة في موضع بين بورسعيد ودمياط، وكان الفرع السبنتي يخترق مديرتي المنوفية والغربية مبتدئا من فرع دمياط على مقربة من موقع القناطر الخيرية ليصب في بحيرة البرلس، ثم كان الفرع الكانوبي يتشعب من أوسط فرع رشيد ليتجه شمالا بغرب حتى يصب على مقربة من الإسكندرية إلى شرقيها.

وكانت هذه الشبكة المائية الرئيسية تمد ترعا كثيرة تروي هذا المثلث العظيم من أرض مصر الخصبة المعطاء، وكان هذا المثلث يمتد غربا فيما وراء الإسكندرية حتى يبلغ برقة، فكانت منطقة مريوط آهلة ألف ناسها الترف، يقيمون في منازل جميلة تحيط بها حدائق زاهرة غناء، وكانت هذه المنطقة الكثيرة الفاكهة تمتد إلى تخوم برقة وتنتج من شهي الثمار ما يرسل الكثير منه إلى بلاد الروم، وكانت أعنابها ذات شهرة واسعة جعلت «فرجيل» و«سترابو» يتحدثان عن جودة خمرها ما تحدث أبو نواس وأصحابه عن خمر هيت وعانات.

كان ابن العاص على رأس الزاوية الشمالية الشرقية من هذا المثلث حين نزل الفرما، وكانت أنباء سيره قد سبقت إلى الروم منذ تخطي تخوم مصر، فماذا تراهم يصنعون؟ لم يدر بخواطرهم أن يواجهوه أثناء سيره في الصحراء بين العريش والفرما؛ لأنهم كانوا يعلمون أن العرب أقدر الناس على حرب الصحراء، ولأن قرب العريش وما جاورها من فلسطين يجعل إمداد عمرو بالجنود من بيت المقدس وما جاورها أمرا يسيرا؛ لذلك آثر المقوقس حاكم مصر أن يدع عمرا يمضي في طريقه حتى يبعد عنه المدد أو الأمل فيه، وأن يتخذ من حصون الفرما القوية أول موضع للقاء المسلمين، دون أن يخاطر فيذهب إلى هذا الموقع بنفسه، أو يبعث إليه الأطربون كبير القواد.

وتحصن الروم بالمدينة لمواجهة العرب، مؤمنين بقدرتهم على الذود عنها ورد العدو على أعقابه دونها؛ فقد علموا أن العرب الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد، وأنهم ليس معهم من عدة الحصار ما كان مع الفرس حين هاجموا الفرما من قبل ففتحوها دون أن يلقوا كبير مشقة، وعرف عمرو عدتهم وقوتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافا، مع ذلك لم يتردد في النزول وفي إنشاب الحرب، بعد ما خطب أصحابه وذكرهم بأن المسلمين كانوا قلة دائما حيثما واجهوا الروم والفرس، وأنهم قهروا عدوهم في المواقع كلها؛ لأن الله وعدهم النصر وكان معهم، ولم يكذب عمرو أصحابه؛ فقد حاصروا الفرما شهرا ثم اقتحموها واتخذوها معقلا بعد أن هزموا الروم فيها شر هزيمة.

كيف حدث هذا؟ كيف استطاع أربعة آلاف أن يحاصروا مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون، فيقهروا جندها ويقتحموا أسوارها ويفتضوا حصونها؟ يرى بعض المؤرخين الأمر عجبا، فيلتمسون له العلة ويزعمون أن قبط الفرما أمدوا العرب بالمعونة في أثناء الحصار، فكان ذلك سبب قهرهم عدوهم، كذلك يقول المقريزي وأبو المحاسن، ويذكر ابن عبد الحكم «أنه كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.» وهذا الذي يذكره ابن عبد الحكم لا يستقيم أكثر مما تستقيم رواية المقريزي ورواية أبي المحاسن، فأبو ميامين هذا هو الأسقف بنيامين، وهو لم يكن بالإسكندرية حين مجيء العرب إلى مصر، بل كان قد فر منها منذ سنوات إلى قوص، كما ذكرنا في الفصل السابق.

ولعل ابن عبد الحكم وغيره من المؤرخين المتأخرين إنما أثبتوا هذه القصة؛ لأنهم لم يجدوا تأويلا لانتصار عمرو على الروم إلا أن يكون قد لقي العون من أهل مصر، فأثبتوا القصة وصدقوها استنادا إلى ما كان من كراهية القبط لحكم الروم وقيامهم في وجه الاضطهاد الديني الذي فرض عليهم، والواقع أن القبط لم يعاونوا المسلمين ولم يعاونوا الروم، وأنهم لا أثر لهم في ظفر المسلمين بعدوهم واستيلائهم على مواقعه وحصونه.

لا شك في أن القبط لم يعاونوا الروم في قتال العرب إلا بالقدر الذي يضطرهم إليه خضوعهم، كارهين لسلطان قيصر وعماله، ولكن لا شك كذلك في أنهم لم يعاونوا العرب، إلا أن تكون معاونات فردية يتبرع بها خفية من بلغت ثورة نفوسهم بالروم وحكمهم مبلغا جعلهم يغامرون بحريتهم وبحياتهم، ليدلوا العرب على عورات الروم، وليكشفوا لهم عن أسرارهم، أما فيما وراء ذلك فقد وقف شعب مصر من الفريقين المتحاربين موقف المتفرج شديد التطلع، لقد أصابه الروم من ألوان الظلم والاستغلال والاضطهاد بما أزال من نفسه كل حماسة لنصرهم، وهو لا يعرف من أمر العرب ما بدعوه إلى كراهيتهم ولا إلى الترحيب بهم، هذا إلى أن قوة الروم وبأسهم في مصر جعلاه يشك في الغلب، لمن يكون آخر الأمر، صحيح أن أنباء العرب وانتصارهم في الشام والعراق كانت تبلغه، لكنه لما يكن قد نسي تغلب هرقل على الفرس في مصر وإجلاءه إياهم عنها، فلو أن هذا الشعب ناصر العرب جهرة فانتصر الروم فالويل ثم الويل له، وسيلقى من ألوان الاضطهاد أضعاف ما كان يلقى من قبل، وليس طبيعيا أن يناصر الروم وفي نفسه من كراهيتهم ما فيها، أما والحرب لا تزال في بداءتها، وليس يعلم أحد مصيرها، فالحكمة تقتضيه أن ينتظر ليرى، وأن يكيف موقفه من بعد تكييفا يجنبه الظلم والضرر، ويحقق له ما يستطاع تحقيقه من منفعة.

وموقف الشعب المصري هذا هو الموقف الطبيعي لكل شعب في مثل حاله يومئذ، لقد ود أن يخرج الروم من بلاده حتى تخلص له خيراتها فيستأثر بحقه الطبيعي فيها، وحتى تتم له حريته وكرامته وعزته كاملة في كل أرجائها، لكنه غلب على أمره منذ عصف الإسكندر المقدوني بحريته واستقلاله، كما عصف بحرية غيره من الأمم واستقلالها، فلما مات الإسكندر وآل أمر مصر إلى البطالسة الإغريق، فانفصلوا عن أمتهم وانفصلوا عن رومية واستقلوا بمصر وأصبحوا مصريين، لم ير الشعب المصري فيهم عنصرا أجنبيا يثور به أو ينتقض عليه، فالأسر المالكة كانت يومئذ في مصر وفي غير مصر من أصل أجنبي، ولا يزال ذلك شأنها إلى اليوم ، وقد جاءت هذه الأسر إلى البلاد التي استقرت على عرشها غازية في عهد من العهود، مستعينة بقوات من الجنود الأجراء الذين اتخذوا الحرب والفتح صناعتهم، فلما سكنت الحرب وضوى الناس إلى السلام اطمأنت هذه الأسر إلى البلاد التي تربعت على عرشها واتخذت منها وطنها، فرحب بهم أهلوها واتخذوهم حصنا يقيهم المنازعات بينهم، وكان ذلك شأن البطالسة؛ أووا إلى مصر وأصبحوا مصريين، واستقلوا بمصر واستقلت بهم مصر، وظل الأمر على ذلك حتى جاء «يوليوس قيصر» ثم جاء «أنطونيو» فنزلا مصر في عهد «كليوباترا» وبنزولهما مصر انضمت إلى الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف الممتدة إلى أقصى الغرب وأقصى الشمال من أوروبا، وإلى بادية السماوة من أرض آسيا.

ولم يمض غير قليل على هذا الانضمام حتى جد عنصر نقل العالم من فكرة التوسع في الفتح ابتغاء المجد إلى ميدان أكثر سموا في اتجاهه، وأجدر بالإنسان يوم يتم النضج لضمير الإنسان، ذلك العنصر كان المسيحية، فقد دعت الناس إلى المحبة والإخاء، وإلى احتقار متع الحياة الدنيا، وللتنزه عن التقاتل بسببها، وما لبثت المسيحية حين انتشرت في رومية وفي مصر، أن أنست الناس ما بينهم من عداوة وبغضاء، وأن صورت أمامهم فكرة الإمبراطورية المقدسة يعيشون تحت سمائها إخوانا متحابين في ظل الله، على أن هذه الصورة سرعان ما غشيتها سحب أضعفت إيمان الناس بها، وذلك حين بدأت المذاهب المسيحية تتعدد، فبدأ أصحاب كل مذهب ينظرون إلى أصحاب المذاهب الأخرى نظرة كراهية وحقد، بذلك عاد الناس إلى ما كانوا من قبل فيه، فعاد المصريون يمقتون الرومان المتحكمين في بلادهم، ثم ازدادوا لهم مقتا بسبب الاضطهاد الأعظم الذي أخضعهم الروم له.

لم يعاون المصريون عمرو بن العاص في الفرما، فكيف استطاع بقوته الصغيرة أن يحاصر مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون فيقهر جندها ويقتحم أسوارها ويفتض حصونها، لقد أقام أمامها شهرا في الرواية المشهورة، وشهرين في رواية أخرى، فكان جنودها يخرجون إليه من حين إلى حين يقاتلونه ثم يرتدون إلى مدينتهم يتحصنون بها، وكان عمرو يغير في هذه الأثناء بكتائب صغيرة على ما حوله من البلاد، يجيء منها بالأقوات التي يحتاج إليها جيشه، وكانت حامية المدينة تتوقع، بعد أن طال حصارها، أن تبعث الحكومة المركزية إليها مددا يعاونها على رد العرب وإجلائهم عن مصر، لكن المدد لم يجئ، ولم يبلغ الحامية نبأ يبشر بقرب قدومه، عند ذلك رأى أميرها أن يغامر فيخرج بها إلى ما وراء الأسوار يلقى العدو وجها لوجه، طامعا في التغلب عليه والظفر به، لكنه ما لبث حين اشتد القتال أن ألفى المسلمين ليوثا ضارية لا تهاب الموت، فأمر أصحابه بالارتداد إلى الحصون والاحتماء بها ورآهم المسلمون يرتدون فتعقبوهم، وأمعنوا فيهم قتلا وأفشوا الاضطراب في صفوفهم، وسبقوهم إلى باب المدينة وملكوه عليهم، وتجاوزوا الأسوار إلى الحصون فاحتلوها، لم يبق للروم إلا التسليم، واستولى عمرو على المدينة، فهدم أقوى حصونها، وأحرق السفن الراسية في المرفأ القريب منها، وخرب كل كنيسة أو دير يمكن التحصن به فيها، ثم اتخذها معقلا يؤمن الطريق إلى فلسطين وإلى بلاد العرب، وأقام يفكر في الخطوة التي يجب عليه أن يخطوها بعد أن كسب الموقعة الأولى في الصميم من أرض مصر.

Bilinmeyen sayfa