وكانت هذه الصورة مغرية أيما إغراء؛ فقد كان خصب مصر ووفرة إنتاجها مضرب المثل في العالم كله؛ وكان ما يفيض عن حاجات أهلها من القمح والشعير وغيرهما من أنواع الغلال يغذي الإمبراطورية الرومية، ثم إنها كان بها غير الغلال أرزاق لا تحصى، وكانت ثروتها من الأحجار والمعادن فوق الحصر، وقد كانت، مع خضوعها لسلطان الروم وما كان من اجتياح الفرس أرضها في قتالهم قيصر أعظم مركز في العالم اجتمع فيه العلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة اجتماع نماء وازدهار يأخذ بالنظر، ويستهوي اللب، وكانت عاصمتها الإسكندرية قد احتفظت بكل ما كان لها يوم أنشأها الإسكندر المقدوني من بهاء وجمال، وأضافت إليه في أثناء القرون العشرة التي انقضت منذ إنشائها ما زادها جلالا وعظمة، وما جذب الناس من أقطار الأرض للمقام بها، فكان سكانها يزيدون على المليون، وكانوا يمثلون الأجناس والعقائد المختلفة المعروفة لذلك العهد، فلم يكن المصريون الخلص منهم يزيدون على نصفهم، وكان النصف الآخر من الروم واليونان والفينيقيين والعرب وغيرهم؛ ومن هؤلاء من كانوا يدينون باليهودية، ومنهم من كانوا يدينون بالمسيحية، وكلهم يعيشون في جو المدينة الساحر مطمئنين إلى رخائها وجلال عظمتها، وأية عظمة وأي جلال! كانت منارتها الكبرى، منارة فاروس إحدى عجائب الدنيا السبع، وكان بها من المعابد الضخمة وساحات الفن الفسيحة والقصور الفخمة والمسارح والحمامات العامة ما لا يقع تحت حصر، وكان ذلك كله يبهر السائح القادم إليها من أعظم المدن رقيا وحضارة، وكانت أكبر أسواق العالم وأكثر ثغوره ازدحاما بالحركة، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح والكتان والورق والزجاج، وغير ذلك من مزروعات مصر ومصنوعاتها، ثم كانت تحمل إليها مقادير كبيرة من الذهب والعاج مجلوبة من بلاد النوبة وإثيوبيا، ومن أنواع البهار والحرير والفضة والجواهر وغيرها آتية من بحار الهند والصين إلى البحر الأحمر منتقلة إلى النيل في القناة التي تصل ما بين البحرين، جارية بعد ذلك فوق النهر العظيم إلى الإسكندرية.
لم يكن عجبا وتجارة الإسكندرية بهذه الضخامة، أن تكون ميناؤها أكبر موانئ العالم، وأن تكون صناعة السفن أكبر صناعاتها، كانت ميناؤها تتسع لاثني عشر ألف سفينة من مختلف الأحجام، وكان بناء السفن فيها متصلا لا ينقطع في يوم من أيام العام، وكان الخشب اللازم لبناء السفن يحمل إليها من الشام، وكانت مصر تنبت نوعا متينا من الكتان اسمه «الدقس» تصنع منه حبال السفن وتنسج قلاعها، وكانت السفن الحربية تصنع بالإسكندرية كما كانت تبنى بها السفن التجارية.
وكان يبنى بها من السفن الحربية نوعان: أحدهما ضخم تحمل السفينة منه ألف رجل، والآخر خفيف تحمل السفينة منه مائة رجل، وكان النوعان يجهزان بآلات تقذف «النار الإغريقية» المهلكة المؤلفة من مواد سريعة الالتهاب شديدة الاشتعال لا يمكن إطفاؤها، ذات قوة على النسف والتحريق، تحدث تخريبا كبيرا، وتلقي في النفوس الرعب، وكان في بعض السفن الضخمة صروح عالية فوق ظهرها، فإذا حاذت إحداها أسوار مدينة محصنة كان جند السفينة مع المدافعين عن المدينة على علو سواء، فأمكنهم أن يثبوا من الصروح إلى الأسوار، أو يقيموا جسرا بين الصرح والأسوار يعبرون عليه.
أما السفن التجارية التي كانت تصنع بالإسكندرية فكان بعضها يبلغ من الضخامة أن يحمل أربعة آلاف إردب من القمح وكان الكثير منها يسير بالتجارة في البحر الأحمر، ويرسو في فرضات شبه الجزيرة، فينقل بما يحمل من التجارة الناتجة في مصر أو المجلوبة إليها صورة من حياة هذا الشعب المصري الدائم الدأب والجد إلى عرب الحجاز وعرب اليمن حضرهم وبدوهم.
لم يكن النشاط التجاري والصناعي كل ما امتازت به الإسكندرية على غيرها من مدن العالم! فقد كانت، منذ أنشأها الإسكندر الأكبر واستقر بها البطالسة إلى أن فتحها العرب، مركز النشاط العقلي والعلمي في العالم كله، صحيح أن هذا النشاط كان يخبو أحيانا ويضطرم أحيانا أخرى، وأن بعض المدن كانت تشارك فيه الإسكندرية في بعض الحقب، وبخاصة أيام حكم الرومان مصر، لكن العاصمة المصرية ظلت دائما مرجع هذا النشاط، وظل أبناؤها من العلماء والشعراء والكتاب وأرباب الفن يوجهون الحياة العقلية في العالم عشرة قرون كاملة، إليهم يرجع الفضل في نشر الثقافة الإغريقية التي سبقت إنشاء مدينتهم، وفي إقامة مذاهب جديدة يمت بعضها بأوثق الصلة إلى مذاهب الإغريق، ويخالف بعضها هذه المذاهب، ويستقل بعضها بنفسه كل الاستقلال، ولم يكن ذلك عجبا وقد كانت الإسكندرية ملجأ العلماء ورجال الفن والأدب من كل أمة وملة، وكان بها من المكتبات العامة ومن مناهل العلم ومدارسه ما لم يكن لغيرها.
وقد سمت مدرسة الطب في الإسكندرية إلى مكانة لم تسم إليها مدرسة أخرى في العالم كله؛ فكان الأطباء الذين يتخرجون فيها مشهودا لهم، وكانوا موضع الإكبار حيثما نزلوا من بقاع الأرض، كذلك ازدهرت فيها دراسات الفقه والإلهيات ازدهارا بدا واضحا في المذاهب الفلسفية التي اختصت بها مدرسة الإسكندرية، والتي حاولت التوفيق بين المسيحية في أساسها الروحي ومذاهب الإغريق الفلسفية المستندة إلى منطق العقل وحده، وكان ازدهار الفقه لذلك العهد بعض ما قويت به النزعة الدينية التي أقامت مصر وأقعدتها، ووقفتها في وجه الروم وقفة بلغت قبيل الفتح العربي حد العنف، وكان الفلك والرياضة وتقويم البلدان والهندسة من فروع العلم التي تدرس في معاهدها، وقد وضع علماؤها مؤلفات لم يبق منها إلا ما ذكره المؤرخون من بعد عنها، هذا إلى تعلق الكتاب والأدباء بالشعر تعلقا جعلهم يفتنون فيه، وجعل العلماء أنفسهم ينظمون العلم شعرا.
لا عجب، وذلك شأن العلوم والآداب، أن تزدهر الفنون وأن يزداد أهلها براعة، وأن تظهر آثارها في نشاط أهل الإسكندرية وفي حياة مدينتهم، وقد اشتهرت مصر منذ عهود الفراعنة الأولين ببراعة بنيها في هندسة العمارة، فكان طبيعيا أن تجمع عمارة هذا العهد المسيحي بين جلال المعابد القديمة وزخرف العمار الإغريقية، وأن تجمل مباني الإسكندرية بالمرمر المصري البديع ونقوش الفسيفساء ذات الألوان، والفسيفساء الزجاجية، والحق أن تنظيم الإسكندرية وعمارتها كانا من الروعة بما يقف النظر ويبهر الفؤاد؛ فقد خطت على صورة رقعة الشطرنج: ثمانية طرق تجري بين الغرب والشرق، تقاطعها ثمانية أخرى تجري من الشمال إلى الجنوب، والطريقان المتوسطان منها فسيحان تقوم على جانبيهما أفخم مباني المدينة، وكانت أسوار المدينة وحصونها وقصورها وكنائسها مشيدة من مرمر ناصع البياض يغشى النظر دونه، فكان ظاهر أكثرها يغطى نهارا بنسيج أخضر من صناعة مصر.
هذه صورة من عاصمة مصر لذلك العهد، وهي تشهد بترف أهلها وسمو مكانتهم في الحضارة، وبأنها اجتمع لها من ألوان الثقافة ومتاع العقل ما لم يجتمع لغيرها من عواصم العالم يومئذ، فقد كانت تتجاور فيها المذاهب الفلسفية والدينية المتناقضة جوار كفاح كلامي لم يبلغ حد العنف في غير العهود التي حاول الأباطرة فيها أن يفرضوا مذهبهم على أهل مصر، أما في غير هذه العهود فكان التراشق الجدلي أقصى ما بلغه النضال بين أصحاب هذه المذاهب، كان الأبيقوريون يدعون إلى المتاع بالحياة والنهل من موردها السائغ، لا ينسيهم المتاع أن الحياة سخرية مستطابة ونعيم قتال، وكان الرواقيون يسخرون من الأبيقوريين ويدعون للزهد في المتاع؛ لأنه يتلف العقل ويفسد طهارة النفس، وكان المتطهرون من المسيحيين ينأون بجانبهم عن مغريات المدينة، ويلتمسون في عزلة الصحراء القريبة منها سكينة نفوسهم وطمأنينة قلوبهم، أما في عهود الاضطهاد الديني فكان الأمر يختلف، وكثيرا ما كانت تصبح الإسكندرية الرافلة في حلل النعيم مسرحا لاضطرابات تفسد جوها المرح، وتشيع فيها القلق والفوضى.
وكان الاضطهاد الديني منتشرا في مصر وفي عاصمتها حين كان ابن العاص يحاول إقناع الخليفة بفتحها، ذلك أن هرقل لم يلبث، حين انتصر على الفرس وأعلى الصليب في بيت المقدس، وحين رأى الأنظار تشد إليه من أرجاء العالم المسيحي كله لينقذ المسيحية مما ألم بها، أن فكر في توحيد المذاهب المسيحية وصوغها مذهبا واحدا، وقد تحدث في هذا الأمر إلى بطارقة الشام وبزنطية ممن يمثلون شتى المذاهب المسيحية، ثم دعاهم إلى مجمع «خلقدونية» فأقروا مذهبا مسيحيا موحدا، عند ذلك جعل بطركة الدين في الإسكندرية لقيرس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب إليه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الرسمي «الموحد» غير أنه لم يفطن إلى أن مذهبه الذي حاول به التوفيق قد تأباه كنيسة مصر، ولم يعرف أن أهل مصر إذا أبوا ذلك المذهب كان شر الطرق إلى ضمهم للجماعة أن يرغمهم عليه ويقذف به في حلوقهم، إذ قد كرهوا مرارة مذاقه منذ ذاقوه، وعلى أي حال كانت هذه خطته في مصر والشام، وكان من رأي ذلك العصر أن أمور الدين والعقيدة مما ينبغي للدولة أن تقوم عليه ويصدر الناس فيه عن أمرها.
2
Bilinmeyen sayfa