137

وقام عمر فدخل منزله، فاتبعه السائب فأخبره خبر السفطين وما فيهما من جواهر لا تقوم، وذكر له أن أهل الغزاة جعلوهما لأمير المؤمنين خاصة، روى الطبري عن السائب بن الأقرع أنه قال: «فأخبرته خبر السفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك، فأدخلتهما بيت المال وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات عمر تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما أصبح بعث في أثري رسولا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة وأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن، قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله فركبت معه حتى قدمت على عمر، فلما رآني قال: ما لي ولابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب وما لي! قلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا يقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد.»

وفي رواية أخرى أوردها الطبري كذلك أن السائب اتبع عمر بذينك السفطين حين دخل منزله وأخبره خبرهما، فقال له عمر: يا بن مليكة! والله ما دروا هذا ولا أنت معهم، فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليهم! فانطلق السائب راجعا حتى انتهى إلى حذيفة فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف قسمها بين من أفاءها الله عليهم، فنال كل فارس منها أربعة آلاف درهم غير ستة الآلاف التي أصابها من قبل.

كان اغتباط أهل المدينة لفتح نهاوند عظيما، لكنه لم يغتبط أحد بهذا الفتح اغتباط أهل الكوفة، حتى لقد سموه فتح الفتوح، ولعلهم كذلك فعلوا؛ لأن زهرة المقاتلة في المعركة كانوا من الكوفيين، أو لأن الكوفة كانت أقرب إلى مكان المعركة من المدينة، فكان أهلها أشد إشفاقا منها وأدق تقديرا لنتائجها؛ فلما تم النصر فيها دعوها بهذا الاسم تيمنا وتعبيرا عما بعثته إلى نفوسهم من الطمأنينة على موطنهم، وأيا ما كان السبب فقد كانت نهاوند فتح الفتوح بالفعل؛ إذ لم تقم للفرس بعدها قائمة، بل غزاهم المسلمون في عقر دارهم، وأزالوا سلطانهم عن كل ولاياتهم، ثم لم يغن عنهم تجمعهم لصد تيار المسلمين المتدفق في أرضهم، بل انتهى الأمر إلى إخراج كسرى من فارس شريدا يلتمس العون من غير أهله والنجاة في غير بلاده، ثم يموت بعيدا عن مواطن ملكه، كأن لم يستقر بها يوما ولم يكن بها صاحب السلطان.

وكان عمر أشد من أهل الكوفة بنهاوند اغتباطا، وأكثر لغزاتها تقديرا وبهم إعجابا، حتى لقد زاد عطاء الذين أحسنوا البلاء فيها، فمنح كل واحد منهم ألف درهم فوق فيئه تشريفا لهم وإظهارا لشأنهم، وكيف لا تبلغ منه الغبطة هذا المبلغ وكان يعلم أن جيش الفرس بنهاوند قد جمع كل الأبطال من شتى أرجاء المملكة، وأن أشراف فارس وأمراءها جميعا تعاهدوا على إخراج العرب من أراضيهم، وردهم مهيضي الأجنحة إلى شبه جزيرتهم! وها هم أولاء الأبطال يفرون منهزمين، والأشراف والأمراء يلتمسون ملجأ من خزي هزيمتهم فلا يجدونه، بل لا يجدون أمامهم إلا العرب ينتشر سلطانهم، وتعلو كلمتهم، ويهز اسمهم الأسماع والقلوب في ولايات كسرى جميعا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق.

رأيت همذان وإسراع أهلها إلى طلب الصلح التماسا للأمن حين عرفوا مصير نهاوند والفيرزان، وكان أبو موسى الأشعري أميرا على جند البصرة الذين قاتلوا بنهاوند، فلما سار منصرفا عنها مر بالدينور، فأقام عليها خمسة أيام لم يقع قتال إلا في اليوم الأخير منها، ولم يكد هذا اليوم ينتهي حتى طلب أهلها الصلح، وأقروا بالخراج والجزية، وسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فصولحوا على ما طلبوا، وصالح أبو موسى أهل السيروان على مثل صلح الدينور، وصالح عامله أهل الصيمرة على حقن الدماء وترك السباء والصفح عن البيضاء والصفراء، وعلى أداء الجزية وخراج الأرض وفتح جميع الكور بمهرجان قذق، وصالح حذيفة بن اليمان دنبارا الفارسي على بلدة ماه، وأعطى أهلها عهدا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، لهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، وعلى كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل وأصلحوا الطرق وقروا جنود المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة.

أما وقد أصاب الفرس كل هذا الفزع بهزيمة نهاوند فازدادوا اضطرابا وازدادت معنوياتهم انحلالا فليس إلا أن يأخذهم عمر وهم فيما هم فيه، وأن يدفع قواته في سائر ولاياتهم حتى تذعن كلها لسلطانه ولا يبقى فيها لمقاومة أثر، ولا تحدث أميرا من أمرائها نفسه بمثل ما كانت تحدثه به من قبل؛ لذلك عقد بنفسه ألوية عهد إلى أصحابها بالانسياح في أرض فارس جميعا، فجعل لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء درابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمرو التغلبي، وأمرهم أن يكونوا على أهبة المسير إلى هذه الأمصار والولايات.

وكذلك كانت نهاوند من فتح فارس ما كانت القادسية من فتح العراق العربي ، وقد حاول يزدجرد بعدها أن يقاوم بالري وبمرو وبإصطخر كما حاول أن يقاوم بالمدائن، وقد أمده أمراء الولايات بأذربيجان وخراسان وفارس ومكران، وحاولوا الوقوف إلى جانبه لصد تيار المسلمين عنهم والاحتفاظ لوطنهم بعزته وكرامته، وسنرى من محاولاتهم، ومن اضطراب يزدجرد بين ولاياتهم، ومن أمر المسلمين معه ما نجمله في الفصل التالي.

هوامش

الفصل السابع عشر

القضاء على سلطان الأكاسرة

Bilinmeyen sayfa