وأرسل ابن عتبان إلى عمر من أنباء الفرس ما أيد أقوال سعد عن تأهبهم، وما زاد الخليفة إشفاقا من تدبيرهم، وتواترت الأنباء بعد ذلك مروعة تهز القلوب رعبا، فهذه قوات فارس التي اجتمعت بإمرة الفيرزان قد سارت إلى همذان، وهي الآن قد تابعت مسيرتها تقصد حلوان، بل ها هي ذي في طريقها إلى الكوفة وعما قريب تبلغها، ترى ماذا يصنع أمير المؤمنين؟! لقد أدرك بفراسته ما في هذه الأنباء من مبالغة يصورها الفزع؛ إذ يدفع إلى النفوس من خوف الخطر ومن توقعه ما يجعلها تتوهم الأشياء وتجسمها إلى أضعاف الواقع من حقيقتها، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن الفرس قد جمعوا وأعدوا، وأنه إلا يواجههم ويبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وقد تنتهي بهم جرأتهم إلى تهديد ما استولى عليه جنده في خوزستان والعراق العربي، الخطر إذن جسيم، والتأهب لملاقاته واجب مقدس.
وأراد عمر أن يستشير الناس، كدأبه في مثل هذه الأمور، فنادى مناديه فيهم: الصلاة جامعة، فلما التأم عقدهم بالمسجد صعد المنبر وذكر للناس ما أنهاه إليه عماله عن تهيؤ الفرس واجتماعهم وكثرة عدوهم، ثم قال: «إن هذا اليوم له ما بعده، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه حتى أنزل وسطا بين هذين المصرين فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب؟» وتكلم القوم، فأشار بعضهم بأن يسير أمير المؤمنين بالجيوش إلى العراق، وأن يدعو جنده بالشام وباليمن، ليواجه الفرس ويغزو بلادهم، وأشار آخرون أن يقيم بالمدينة وأن يبعث كل من قدر عليه من الجند لغزو الفرس، وكان قوم أكثر من هؤلاء ومن أولئك حذرا، وكان بينهم علي بن أبي طالب إذ قام فكان مما قاله: «يا أمير المؤمنين! إنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم صارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، وإنما مكانك من العرب مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، وإن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم فتألبوا عليك، أما ما ذكرت من عدد القوم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنا كنا نقاتل بالنصر، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة؛ فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان وليقم الثلث واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم.»
اقتنع عمر برأي علي وسر به فأعلن في الناس أنه مقيم بالمدينة ومرسل الجيوش تلو الجيوش أمدادا لقتال الفرس، ثم قال: «أشيروا علي برجل أوله أمر هذه الحرب وليكن عراقيا.» قالوا: أنت أفضل رأيا، وأحسن مقدرة، وأبصر بجندك، وقد وفد عليك أهل العراق وجنده فرأيتهم وخبرتهم، قال: «أما والله لأولين أمرهم رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا، النعمان بن مقرن!» قال الناس: هو لها!
وكان النعمان لها حقا، عرفه المسلمون فارسا مقداما لا يعرف التردد ولا الفرار، مكيثا غير متسرع إلا لفرصة، وكان على ميمنة أبي بكر حين خرج يقاتل الذين منعوا الزكاة فهزمهم بذي القصة، وكان في غزوات العراق كلها إلى جانب خالد بن الوليد من يوم ذهب خالد إليه، وكان النصر يسير في ركابه سيره في ركاب خالد، فلما ولى عمر سعد بن أبي وقاص جند العراق كان النعمان معه في الطليعة؛ برز في القادسية وفي فتح العراق العربي، ثم أبلى في حروب خوزستان أعظم بلاء، روي أنه كان عاملا على كسكر، فكتب إلى عمر يشكو إليه أن سعد بن أبي وقاص استعمله على جباية الخراج وهو يحب الجهاد فكتب عمر إلى سعد: «إن النعمان كتب إلي يذكر أنك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهم وجوهك.» فلما استقر رأي عمر على توليته حرب الفرس الذين اجتمعوا بإمرة الفيرزان كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار، فسر في وجهك هذا حتى تأتي ماه؛ فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، والسلام عليك.
وكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان والي الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان بن مقرن كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمرت عليهم حذيفة بن اليمان حتى ينتهي بهم إلى النعمان، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، وإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن. ودفع عمر هذا الكتاب إلى السائب بن الأقرع ليسير به إلى الكوفة، وجعل السائب أمينا على الفيء وقال له: «إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تريني ولا أرينك.»
وكتب في اليوم نفسه إلى أبي موسى الأشعري أن سر بأهل البصرة إلى ماه والأمير النعمان بن مقرن، وكتب إلى سلمى بن القين وحرملة بن ريطة وأمراء الجند الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري، وإنما أراد عمر بأمره هذا أن يقطع عن أهل نهاوند أمداد فارس فلا يزيدوا الفيرزان قوة على قوته.
بهذا كله تجهز عمر لمواجهة الخطر الذي تواترت لديه أنباؤه، وهيأ الجو حوله ليقوم المسلمون في وجه الفرس غير وانين ولا مترددين، وسارت الجيوش إلى ماه فانتهت إلى النعمان بن مقرن، وفيها الفرسان والأبطال أولو البأس والخطر، ومنهم من حضر القادسية والمدائن وغيرهما من الوقائع فأراد أن يضيف إلى فخاره فخارا جديدا، ومنهم من لم يحضر القادسية فخف يريد نهاوند لكي لا يفاخره غيره ويستعلي عليه بحسن بلائه.
وبلغوا حلوان، فأراد النعمان أن يتنطس أخبار الفرس ليعرف أبثوا من العيون والأرصاد على الطريق ما يجب الاحتياط له، فبعث طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وعمرو بن أبي سلمى المزني طليعة يرتادون ويتبينون، وسار ثلاثتهم يوما إلى الليل، ثم رجع عمرو بن أبي سلمى فأخبر القوم أنه لم ير شيئا، وسرى طليحة وعمرو بن معدي كرب طول الليل ثم رجع عمرو فسأله الناس: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ومضى طليحة ولم يحفل بصاحبيه حتى انتهى إلى نهاوند، فعلم علم القوم وعرف أنباءهم، ثم عاد فدخل على النعمان فأخبره أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، عند ذلك نادى النعمان بالرحيل، وسار في جنوده على تعبئة حتى نزل قريبا من حصون أعدائه، وهناك كبر المسلمون ثلاث تكبيرات زلزلت الأعاجم وملأت قلوبهم رعبا.
عرف الفيرزان أنباء المسلمين وأنهم جاءوا ثلاثين ألفا يقاتلونه فلم يستهن بهم، ولم يخدعه أنه قبالتهم في خمسين ومائة ألف متعاهدين على القتال إلى الموت، متحصنين في بروج ذات منعة؛ فقد حضر القادسية ورأى من بأس هؤلاء العرب ما راعه، ثم انتهت به الهزيمة كما انتهت بالهرمزان إلى الفرار؛ لذا بعث إلى عسكر المسلمين أن أرسلوا إلينا رجلا نكلمه، وسار إليه المغيرة بن شعبة فاجتاز الميادين المحيطة بنهاوند وتخطى أسوارها وانتهى إلى مقر الفيرزان فيها، وكانت نهاوند مدينة عظيمة تقع في العراق العجمي بين حلوان وهمذان على ثلاثين فرسخا إلى الشرق من حلوان وعشرة فراسخ غرب همذان، وبها مراع فسيحة وأنهار وبساتين تدر على أهلها الرخاء ورفاهة العيش، وفي وسطها حصن متين البناء قوي الجدران يحمي أسوارها الرفيعة المنيعة، وأدخل المغيرة على الفيرزان فإذا هو جالس فوق سرير من ذهب وعلى رأسه التاج ومن حوله حراسه كأنهم الشياطين يكاد التماع حرابهم ونيازكهم يخطف البصر، ودار بين الرجلين حديث ما أشبهه بما دار بين يزدجرد ووفد المسلمين بالمدائن، انتهى منه الفيرزان إلى قوله: «وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسا لجيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نركم مصارعكم.» وانتهى منه المغيرة بعد موافقته على الذي كان من شقاء العرب إلى قوله: «والله ما زلنا مذ جاءنا رسول الله نتعرف من ربنا الفتح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على ما بأيديكم أو نقتل بأرضكم.»
Bilinmeyen sayfa