130

فحيثما أدى انحلال الروابط الاجتماعية في أمة من الأمم إلى انحلال روحها المعنوي، ضعفت مناعة هذه الأمة فقصرت عن أن تمد ببصرها إلى المستقبل، وأن تقدر لما يصيبها فيه، فالروابط الاجتماعية ملاك الحياة المعنوية وقوامها في الأمة، ومكان القوة المعنوية من الأمة مكان غريزة الاحتفاظ بالحياة في الفرد، وكما تدعونا هذه الغريزة للاحتفاظ بكل عضو من أعضائنا سليما ما استطعنا الاحتفاظ به والدفاع عنه، فإذا أوجب الاحتفاظ بحياتنا بتر عضو من الأعضاء لم نتردد في بتره بدافع من هذه الغريزة نفسها، كذلك تدعو القوة المعنوية القائمة من الجماعة مقام تلك الغريزة من الفرد لأن تدافع الجماعة عن كل فرد من بينها إلى غاية ما تستطيع الدفاع عنه، فإذا لم يكن بد من التضحية بطائفة من الأفراد محافظة على كيان المجموع لم تتردد الجماعة في التضحية بهم، واستحب هؤلاء الأفراد هذه التضحية دفاعا عن الكيان القومي الذي أعزهم، والكفيل وحده بأن يعز أبناءهم وحفدتهم.

وكما يحدث أن تنحل حيوية الجسم، فإذا كل عضو من أعضائه يؤدي وظيفته لحسابه لا لحساب مجموع الجسم فتضعف بذلك غريزة الاحتفاظ بالحياة ضعفا ينتهي إلى الموت، كذلك يحدث أن تضعف القوة المعنوية في الأمة بانحلال الروابط الاجتماعية بين أبنائها واقتصار كل منهم على التفكير في نفسه ولنفسه، غير معتد بما بينه وبين سائر أفراد الأمة من تضامن هو الحفيظ لكيان الجماعة، عند ذلك تضعف الأمة بعد قوة، وتذل بعد عز، وتنحل معنوياتها انحلالا هو النذير بانقراضها بوصفها جماعة لها كيانها.

الأمة التي تبلغ الروح المعنوية فيها أوج قوتها لا تعرف اليأس ولا الاستسلام وتؤثر الموت على حياة ضعف ومذلة ومثل هذه الأمة لا يمكن أن تذل أو تضعف، ولا يمكن أن تفنى؛ لأن حيويتها المعنوية تتغلب على كل ضعف وتحول دون كل انحلال ... أفرادها فيما بينهم كتلة واحدة متضامنة على الزمان كتضامنها في المكان، فإذا فقدت الأمة طائفة منهم قامت طائفة غيرها مكانها وأدت عملها، حتى تسترد بالتعويض الطبيعي ما فقدت، فتعود أكثر مناعة وأشد بأسا مما كانت، وهذه الأمة لا يمكن أن يقوم من أبنائها من يدل عدوها على عورتها حرصا على أمنه في الحياة أو على حياته نفسها، فإذا أحيط برجل من رجالاتها ما أحيط بالهرمزان آثر الموت مجاهدا ليكون جهاده ويكون موته مثلا عاليا لمعاصريه، ودرسا ساميا لمن يجيء بعده، وإذا قضى القدر أن تغلب هذه الأمة يوما فلتعود في غدها فتسترد قوتها وتثأر لنفسها، وتحيا بذلك مع سائر الأمم حياة عزة وبأس وسلطان.

أما وقد انحلت الروابط الاجتماعية في الأمة الفارسية لأسباب أشرنا إليها في غير موضع من هذا الكتاب فأدى هذا الانحلال إلى تداعي قوتها المعنوية، فقد كان طبيعيا أن يغلبها الروم وأن يغلبها العرب؛ إذ كان أبناؤها لا يلبثون حين يرون الدائرة تدور عليهم أن يدلوا عدوها على عورتها، وأن يكونوا إلبا عليها معه ليجتنوا لأنفسهم أمن الحياة وإن جنوا بأنفسهم على أمن الوطن، وقد رأيت على ذلك أكثر من مثل: رأيت اضطراب البلاط ودسائسه، ورأيت فرار القواد والجنود، ثم رأيت فرار يزدجرد نفسه من المدائن وحلوان، فلا عجب وذلك شأن الحياة المعنوية في أمة أن يغدر بها من أبنائها من ينسى أنه ابنها وأن فضلها عليه عظيم، ثم لا عجب أن يلتمس كل واحد الحياة لنفسه، والمجد لنفسه، والجاه لنفسه، ما دامت الروابط القوية قد عراها التفكك والانحلال.

تقع تستر على نهر كارون شمال الأهواز، على نحو خمسين فرسخا منها، وتقع سوس على بضعة فراسخ إلى الغرب من تستر؛ لذلك كانت المناوشات مستمرة بين أهل سوس والمسلمين في أثناء حصارهم تستر، فلما فرغوا منها كان طبيعيا أن يتجهوا إلى سوس ويحاصروها ويقاتلوا أهلها، وقد فعلوا، ولقي المسلمون جهدا في قتالهم الذي طال حتى نفد ما في المدينة من طعام، ولم يجد أهلها مفزعا من الموت إلا إلى الصلح، فسألوا دهقانها أن يفاوض المسلمين فيه، وطلب الدهقان إلى أبي موسى أن يؤمنه على حياة مائة من أهله ففعل، وسمى الدهقان المائة ونسي نفسه فأمر به أبو موسى أن يقتل، فنادى: «رويدك! أعطك مالا كثيرا.» وأبى أبو موسى وضرب عنقه، ولو أنه ذكر حكم أبي بكر، يوم عفا عن الأشعث بن قيس حين نسي نفسه في مثل هذا الموقف، لما قتل رجلا أسلمه مفاتح مدينته.

أورد الطبري في الروايات التي جرت عن فتح السوس أن سياه الأسواري كان قد خرج من أصبهان بأمر يزدجرد لقتال المسلمين، فلما رآهم غلبوا على تستر بعد أن احتلوا بلاد الأهواز، دعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه وذكر لهم فعال المسلمين وأنهم لا يلقون جندا إلا فلوه، ولا ينزلون حصنا إلى فتحوه؛ فانظروا لأنفسكم، وأنه اتفق معهم فبعث إلى أبى موسى يقول: «إنا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معك العرب وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك.» وأجابهم أبو موسى: بل لنا ما لكم وعلينا ما عليكم، فلم يرضوا، وكتب أبو موسى إلى عمر بما حدث، فأجابه: «أعطهم ما سألوك.» فأسلموا، وفرض لهم أبو موسى، وجعل لمائة منهم ألفين ألفين، ولستة هم زعماؤهم ألفين وخمسمائة.

وكتب أبو موسى إلى عمر يذكر له أن بالسوس قبر النبي «دانيال» وأن جسده مكشوف يستسقي به الناس، فأمره عمر أن يكفنه وأن يدفنه، ولا يزال قبر دانيال حتى اليوم بهذه المدينة موضع الإجلال والاحترام، وقد أقيم حوله في القرن التاسع عشر المسيحي معبد يزار ويتبرك به.

فرغ المسلمون من السوس فخرجوا إلى جندي سابور الواقعة على مقربة منها إلى الشمال الشرقي، فأقاموا على حصارها زمنا، ثم إذا أبوابها تفتح لهم فجأة، كأن الصلح بينهم وبين أهلها قد تم، وبعث المسلمون يسألونهم في ذلك مخافة أن تكون مكيدة، فذكروا أنهم قبلوا الأمان الذي بعثه المسلمون إليهم، وأقروا لهم بالجزية على أن يمنعوهم، وعجب المسلمون، ثم تبينوا أن عبدا من عبيدهم هو الذي كتب لأهل المدينة بالأمان، وكتبوا إلى عمر بما حدث، فأمر بإجازة الصلح والوفاء به.

كانت أنباء هذه الفتوح تبلغ عمر في مواقيتها، فلا يسعه كلما بلغه نبأ منها إلا أن يسجد شكرا لله على توفيقه المسلمين وتسديد خطاهم، وكان يزيده شكرا ما يعرفه من أمر هذه المدن التي تفتح، وما يذكره له الرسل من صفة ما لم يره منها، فالأهواز، أو هرمزشير على لغة الفرس كانت مدينة عظيمة تضم سبع كور على طراز المدائن، وكانت آهلة بالتجارة والسكان، وكان الفرس يعظمونها في مختلف الأرجاء من مملكتهم، وتستر عاصمة خوزستان ذات الصيت الذائع في عالم يومئذ، ومعقل الفرس الأمنع في الجنوب الغربي من سهل إيران، والسوس، وهي شوشان القديمة التي ظلت عاصمة ميديا زمنا طويلا، كانت فتنة الناس جميعا بجمالها وروعتها. وخوزستان كلها، المملكة الفسيحة الأرجاء، الممتدة ما بين العراق العربي والعراق العجمي، كانت درة من أغلى الدرر في تاج الأكاسرة، لقد نصر الله المسلمين وأعزهم في كل مواقفهم بهذه البلاد، أفيتابع عمر الفتح فيأمر باقتحام فارس إلى أقصى الشرق، أم يقف من هذه الفتوح عند ما استولى عليه، ويدع الفرس فيما وراء ذلك لا يزعجهم ولا يحرك الثارات في نفوسهم، فيدفعهم إلى مقاومة جيوشه مقاومة لا يعلم إلا الله ما تكون نتائجها؟

بينا يفكر عمر في هذا الأمر، ويستخير الله فيما يصنع، كان أنس بن مالك والأحنف بن قيس يسيران من تستر في رجالهما يحملون خمس الفيء والهرمزان معه إلى أمير المؤمنين، فلما اقتربوا من المدينة ألبسوا الهرمزان لباسه من الديباج الموشى بالذهب ووضعوا على رأسه تاجه «الآزين» المرصع بالدر والجوهر، وأمسك بيده صولجانا من الذهب الخالص المكلل بالياقوت واللآلئ، ليرى عمر وأهل العاصمة الإسلامية صورة البهرج العظيم الذي يتزين أمراء الفرس به، وبلغوا المدينة وقصدوا دار عمر، فعلموا أنه ذهب إلى المسجد يلقى وفدا من أهل الكوفة، فانطلقوا يطلبونه هناك فلم يروه وبصر بهم غلمان من أبناء المدينة عرفوا ما يريدون، فذكروا لهم أن أمير المؤمنين نائم في ميمنة المسجد متوسد برنسه، وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس له، فلما خرجوا عنه نزع برنسه ثم توسده فنام، وعاد الأحنف وأنس والهرمزان واتبعهم الغلمان والنظارة الذين أخذوا بمنظر الأمير الفارسي في حلة إمارته فساروا في أثره يملئون أنظارهم منه، حتى دخلوا المسجد وأجالوا نظرهم في أرجائه، ورأوا عمر وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، فجلسوا سكوتا مخافة إزعاجه، ولم يفطن الهرمزان إلى قصد القوم من هذه الحركات المتعاقبة ذهابا وجيئة؛ لأنه لم يفهم شيئا مما يقولون، فلما رآهم اطمأنوا بالمسجد وليس فيه إلا ذلك الرجل النائم في يده درة معلقة خيل إليه أنهم سيصلون قبل أن يلقوا مليكهم، فلم يدر بخاطره إلا أن يكون عمر الساعة في إيوانه دونه حجابه، فهذا الملك القادر الذي قهرت جيوشه فارس والروم لا بد أن يكون له إيوان على بابه حجاب، ومهما يكن من حديث الناس عن بساطة عيشه، فلن تبلغ البساطة منه أن يستغني هذا الملك الواسع عن دواوين ترعى نظامه، ولا بد لأمير المؤمنين من إيوان وحجاب ينتظم بهم وقته وعمله! ورأى الأحنف بن قيس يشير إلى كل هامس أن يمسك فلا يزعج الخليفة عن نومه، فسأل بعض ممن يعرفون لغته: فأين عمر؟ قالوا وأشاروا إلى النائم: هو ذا، وأخذ الأمير الفارسي بما رأى مما لم يكن يجري له بخاطر، فوجم هنيهة ثم سأل: وأين حرسه وأين حجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا إيوان، وزاد عجب الهرمزان فقال لمن حوله أو قال في نفسه: «ينبغي أن يكون هذا الرجل نبيا فإلا يكن فإنه يعمل عمل الأنبياء!»

Bilinmeyen sayfa