هوامش
الفصل الرابع عشر
المجاعة والوباء
كان المسلمون في المدينة وفي شتى الأرجاء من شبه الجزيرة ينعمون بأنباء النصر الذي حالف جنودهم في العراق والشام، وبأخماس الفيء ترد إلى الخليفة، فيقسمها بينهم أعطيات تزيدهم رخاء، وتنقلهم من شظف البداوة وتقشفها إلى ما يشبه الحضارة لينا وطراوة، فقد زادتهم هذه الأعطيات قدرة على أن يبتاعوا من تجارة اليمن والشام ما يشاءون، وأن يقتنوا من خيرات مصر تجيء إليهم محمولة على السفن ما يجدون في اقتنائه متاعا لم يكن لهم من قبل بمثله عهد، وزادهم ذلك إقبالا على الحياة وتحمسا للفتح، واستمساكا بالدين القيم الذي يسر لهم نصر الدنيا والآخرة.
وإنهم لكذلك ناعمون إذ فجأهم القدر، في أخريات السنة السابعة عشرة وطيلة السنة التي تلتها، بهولين عظيمين؛ أصابهم أحدهما في موطنهم من شبه الجزيرة، وأصاب الآخر إخوانهم المجاهدين في الميادين، فأما أول الهولين فالمجاعة التي انتشرت في بلاد العرب من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، والتي دامت تسعة أشهر هلك فيها الزرع والضرع، والحرث والنسل، وأصاب الناس منها أشد الجهد والبلاء، وأما الهول الثاني فطاعون عمواس الذي امتد من الشام إلى العراق، فأفنى الألوف من خيرة المسلمين، رجالا ونساء، جندا ومدنيين، حتى ارتاع له عمر وارتاع له الناس جميعا أيما ارتياع.
وسبب المجاعة أن أمسك المطر في شبه الجزيرة كلها تسعة أشهر كاملة؛ وأن تحركت الطبقات البركانية من أرضها فاحترق سطحها وكل من عليه من نبات، فصارت الأرض سوداء مجدبة كثيرة التراب، فإذا تحركت الريح سفت رمادا؛ لذا سمي هذا العام عام الرمادة، ونشأ عن إمساك المطر وهبوب الرياح وهلاك الزرع والضرع جوع أهلك الناس والأنعام؛ فقد فني الكثير من قطعان الغنم والماشية، وجف ما بقي منها، حتى كان الرجل يذبح الماشية فيعافها لقبحها برغم جوعه وبلواه، ومن ثم أقفرت الأسواق فلم يبق فيها ما يباع ويشترى، وأصبحت الأموال في أيدي أصحابها لا قيمة لها إذ لا يجدون لقاءها ما يسد رمقهم، وطال الجهد واشتد البلاء، فكان الناس يحفرون أنفاق اليرابيع والجرذان يخرجون ما فيها.
كان أهل المدينة أحسن من غيرهم حالا أول العهد بالمجاعة، فالمدينة حضر ادخر أهلها حين الرخاء ما اعتاد أهل الحضر ادخاره، فلما بدأ الجدب جعلوا يخرجون ما ادخروا يعيشون منه، أما أهل البادية فلم يكن لهم مدخر فاشتد بهم الكرب من أول الأمر، ثم إنهم هرعوا إلى المدينة يجأرون إلى أمير المؤمنين بالشكوى، ويلتمسون لدى أهلها فتاتا يقيمهم، وازداد هؤلاء اللاجئون عددا فضاقت بهم المدينة، واشتد أهلها بالبلاء، فصاروا في مثل حال أهل البادية جدبا وجوعا.
ماذا يصنع عمر بنفسه؟ وماذا يصنع بهؤلاء الجياع؟ لقد كان بيت المال في يده، وكان في مقدور عماله بالعراق والشام أن يبعثوا إليه ما يبقي به على نظام عيشه قبل المجاعة، ثم كان له من العذر لو أنه فعل، أن تبعته كانت تقتضيه ألا يبلغ من الحمل على نفسه والقسوة بها فينوء به الجهد عن رعاية سائر المسلمين، ولكن تصرفه في هذا الموقف كان مثلا رائعا يجدر بكل من ولي الأمر في أمة أن يعرفه وأن يحتذيه.
حدث بعد ما اشتدت المجاعة أن جيء عمر بخبز مفتوت بسمن، فدعا رجلا بدويا فأكل معه فجعل البدوي يتبع باللقمة الودك إلى جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك؟ وأجابه الرجل: أجل! ما أكلت سمنا ولا زيتا ولا رأيت آكلا له منذ كذا وكذا إلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس، وظل على هذا العهد حتى أذن الله فعاد المطر وزال عن الناس الجدب.
وقد كان جادا في هذا العهد كل الجد، قدمت السوق عكة من سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام له بأربعين درهما، وذهب إليه الغلام فقال له: قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن فابتعتهما بأربعين، قال عمر: أغليت فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافا، وأطرق هنيهة ثم قال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
Bilinmeyen sayfa