في طريقه إلى الشام، فلما بلغها ألفى رسول أبي عبيدة بها يذكر له انتصارهم قبل ثلاثة أيام من وصول القعقاع إليهم، ويستشيره في الفيء وهل يكون لرجال القعقاع نصيب منه، واطمأن عمر ولم ير بعد الذي بلغه أن يتابع مسيرته، فكتب إلى أمين الأمة كي يشرك أهل الكوفة في العطاء؛ فسيرهم لنجدته هو الذي أدخل الرعب إلى قلب عدوه فأدى ذلك إلى هزيمته، «جزى الله أهل الكوفة خيرا، يحمون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار»، ثم تحمل راجعا إلى المدينة.
ترى هل انسحبت جنود هرقل إلى قنسرين أو حماة أو غيرهما من البلاد التي اندلع فيها لهيب الثورة لينظموا بها صفوفهم للمقاومة، أم تعقبهم المسلمون فقضوا عليهم؟ وماذا فعل الثوار بحلب وأنطاكية والمعاقل المنيعة حين بلغهم انتصار المسلمين بحمص؟ لا يذكر المؤرخون عن ذلك شيئا يصح الوقوف عنده، وأغلب الظن أن فلول الروم التي نجت من الموت طارت إلى السفن بأنطاكية فأقلعت بهم في البحر إلى الإسكندرية أو إلى بزنطية وقد تولاهم وتولى قيصر اليأس أن يعودوا إلى الشام أبدا، ولم يلبث الثائرون حين عرفوا إقلاع السفن بالجند أن هدأت ثورتهم، فعاد خالد بن الوليد إلى قنسرين، وعاد كل أمير في شمال الشام إلى إمارته، مطمئنين جميعا إلى أن الأمور سكنت إلى قرار لن يكدر صفوه من بعد مكدر.
على أن مقام خالد بقنسرين لم يطل؛ فقد سارت القوات التي فصلت من العراق يظلها لواء سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة بإمرة عياض بن غنم لغزو الجزيرة وتأديب أهلها، فلما بلغت منازل القبائل التي آزرت هرقل كانت هذه القبائل قد بدأت تنصرف مرتدة عن حمص، وكان سهيل بن عدي قد سلك بجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، فتحصن أهلها منه فحاصرهم، فقالوا فيما بينهم: «أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء!» وبعثوا إلى عياض بن غنم بواسط يريدون الصلح، وعقد لهم سهيل بن عدي الصلح عن أمر عياض؛ لأنه أمير القتال وجعلهم من أهل الذمة، أما عبد الله بن عتبان فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، ومن ثم عبر النهر وسار إلى نصيبين،
2
فلقيه أهلها بالصلح فعقده لهم على صلح أهل الرقة، وقدم الوليد بن عقبة على بني تغلب وعرب الجزيرة فضووا إليه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، وكتب الوليد إلى عمر بالمدينة يخبره بما صنعوا وأقام ينتظر جوابه في أمرهم، ثم إن عياضا ضم إليه سهيلا وعبد الله بن عتبان وسار في الناس إلى حران، فأخذ ما دونها، حتى إذا انتهى إليها تلقاه أهلها بالإجابة إلى الصلح والجزية، فأجراهم مجرى أهل الذمة، وكذلك فعل أهل الرهاء حين سار إليهم سهيل بن عدي، بذا دخلت الجزيرة كلها في حكم المسلمين، فكانت أسهل البلاد وأيسرها فتحا، وبفتحها التقى سلطان المسلمين بالعراق والشام.
ومن عجب أن يكون ذلك شأن القبائل التي كاتبت هرقل ووعدته بتأييدها، وإنما عذرها أنها رأت الروم يفرون أمام عدوهم، فأيقنت أن هؤلاء المسلمين قد صنع لهم فلا سبيل إلى مقاومتهم، والخير كل الخير في مصالحتهم. وإن المؤرخين البزنطيين ليذكرون أن حاكم الرهاء صالح عياضا على أن يدفع له مائة ألف ذهبا يتقي بها غزو المسلمين ولايته وأن هرقل رفض صنيعه وعزله عن عمله، فلم ينفذ لقيصر أمر بعد أن زال سلطانه عن هذه الأرجاء وصار كل أمرها للمسلمين، وكيف ينفذ له أمر وقد صار لا يستطيع أن يرفض لأمير المؤمنين مطلبا؛ لأنه لا يستطيع أن يؤيد رفضه بالقوة التي تدعمه وتعززه!
لما كتب الوليد بن عقبة إلى عمر يذكر له أن عرب الجزيرة نهضوا معه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، كتب عمر إلى هرقل يقول:
إنه بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ثم لنخرجنهم إليك.
ولم يجد هرقل بدا من النزول على ما أراد عمر فأخرج إيادا من أرضه؛ فعاد أربعة آلاف منهم إلى منازلهم حتى خضعت لسلطان المسلمين، وتفرق سائرهم فيما بين الشام والجزيرة من بلاد الروم، وإنما كتب عمر إلى هرقل هذا الكتاب حتى لا يتخذ المنهزمون أمام المسلمين أرض عدوهم ملجأ يتحصنون به ليوم ثأر، وحتى يجمع العرب كلهم في صعيد واحد تحت سلطان واحد.
لم يصنع بنو تغلب صنيع إياد، ولم يرتحلوا إلى أرض الروم؛ لكنهم أبوا على الوليد بن عقبة حين لم يقبل منهم إلا الإسلام، واحتكموا فيما بينهم وبينه إلى أمير المؤمنين، وكتب الوليد إلى عمر بإبائهم، فأجاز عمر رأيهم وأبى أن يفرض الوليد الإسلام عليهم، «فإنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل من أحد فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا ينصروا وليدا ولا يمنعوا أحدا من الإسلام.» فلما بلغهم حكم عمر رضي بعضهم أن يدخل في دين الله، وأصر بعض على نصرانيته، ثم لم يقبل هؤلاء أن يكونوا أهل ذمة يؤدون الجزية، وذهب وفد منهم إلى المدينة، وكان بينهم بعض من أسلم منهم، فقال مسلموهم لعمر: «لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن ضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزية، على ألا ينصروا مولودا إذا أسلم آباؤهم.» وأصر عمر على أن يؤدوا الجزية، فقالوا: «والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم.» قال عمر: «لئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ثم لأسبينكم.» قالوا: «فخذ منا شيئا ولا تسمه جزاء.» قال عمر: «أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم.» ولما رأى علي بن أبي طالب ما بلغه هذا الحوار من شدة، قال: يا أمير المؤمنين! ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال عمر: بلى! ورضي منهم الصدقة بدل الجزاء.
Bilinmeyen sayfa