كلمة لا بد منها
نحو مسرح مصري
رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا
تقديم
المحتويات
بعض ملحوظات عن تمثيل الرواية
الأدوار
الجزء الأول
الجزء الثاني
كلمة لا بد منها
Bilinmeyen sayfa
نحو مسرح مصري
رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا
تقديم
المحتويات
بعض ملحوظات عن تمثيل الرواية
الأدوار
الجزء الأول
الجزء الثاني
الفرافير
الفرافير
Bilinmeyen sayfa
تأليف
يوسف إدريس
كلمة لا بد منها
هذه هي الطبعة الخامسة لمسرحية «الفرافير»، تظهر الآن في مايو عام 1977 بينما كتبت لنا الفرافير في شتاء عام 1964. ثلاثة عشر عاما مضت لا بد أن يضعها القارئ في اعتباره، فقد كان المسرح المصري أيام كتابة الفرافير مسرحا «تقليديا» في الشكل والمضمون، معظمه مقتبس أو ممصر، ولم يكن سوى نعمان عاشور وألفريد فرج قد حاولا خلق أشكال يدخلان بها صميم تاريخنا الخاص وواقعنا الخاص. وجاءت الفرافير، بالمقدمة التي آثرت وضعها في أول هذا الكتاب لتثير لدى النقاد والمهتمين بالحركة المسرحية ضجة عارمة عارضني فيها معظمهم: «المرحوم» الدكتور مندور، الدكتور لويس عوض، الدكتور عبد القادر، الدكتور رشاد رشدي، الأستاذ أحمد رشدي صالح، عارضوني على هيئة موضوع كبير نشر في آخر ساعة في ذلك الوقت ينفون فيه تماما وجود ما أسميته ب «المسرح المصري»، بل وبعضهم ينفي حالة «التمسرح» التي أقمت عليها المسرحية.
وإن كان كثير من هؤلاء الأصدقاء النقاد الكبار (مثل الدكتور علي الراعي والمرحوم الدكتور مندور) قد عادوا بعد هذا ببضع سنين وبعد أن رأوا فكرة ازدهار المسرح المحلي في أماكن كثيرة من العالم يسلمون معي بمعظم ما كتبته وما رأيته عن المسرح المصري وحالة التمسرح، إلا أنك وأنت تقرأ هذه المقدمة التي كتبتها لن تحس بالاستغراب لكثير مما جاء فيها وكأنها آراء سبق لك أن قرأتها أو سمعت بها، لكنها لم تكن كذلك عام 1964. كانت شيئا جديدا تماما على المسرح العربي كله، وكأن مجرد المناداة بها عمل جريء يستحق من الكاتب قطع رقبته. الآن كل شيء يبدو عاديا وليس بمستغرب، ذلك أن هذا الرأي الذي كان جريئا عام 1964 سرعان ما أخذ ينتشر ويأخذ به كتاب من المغرب ومن سوريا ومن الكويت وتونس، بل يأخذ به المسرح التجاري كمسرح تحية كاريوكا وأصبحت مسألة التمسرح تزاول بعادية مطلقة، وانطلق المسرح السياسي نابعا من الفرافير ليشمل كافة أرجاء وملامح حياتنا.
لا تؤاخذني أني أتحدث عن عملي بهذه الطريقة، فالواقع أن أحدا من النقاد لم يتتبع دور الفرافير في المسرح العربي ولا يزال دورها إلى حد كبير مجهولا بعض الشيء، حتى التمسرح، أخيرا وأنا في نيويورك رأيت مسرحية غنائية تمسرحية يجلس فيها الممثلون في صفوف المتفرجين وبينهم التمسرح وصل حتى برودواي.
هذه كلمة لا بد منها قبل أن تبدأ رحلتك مع عمل ظهر مجهولا عربيا مستنكرا، والآن، أصبح هو القاعدة.
يوسف إدريس
نحو مسرح مصري
نقرأ دائما في الصحف وفي الكتب ونسمع في الندوات السؤال: هل هناك مسرح مصري حقيقة؟ هل وجد أصلا؟! وأين اختفى إذا كان قد وجد؟ ولماذا اختفى؟
Bilinmeyen sayfa
أسئلة غريبة؛ لأنها لو ترجمت لمعناها الحقيقي لكانت مثل أن نسأل: هل هناك شعب مصري حقيقة؟ هل وجد أصلا؟ وأين اختفى إذا كان قد وجد؟ ولماذا؟
والتشبيه فيه مبالغة ولكنه صادق؛ فما دام هناك شعب فمن خصائص الحيوية ولزوميات وجوده أن يأكل وأن يشرب وأن يرقص ويضحك وأيضا أن يتمسرح - إذا صحت الكلمة - تحت أي ظرف وفي كل وقت وما دامت هناك حياة.
كل ما في الأمر أن التساؤل سببه أننا نقصد، حين نتكلم عن المسرح، ذلك المكان العالي ذا القبوة والخشبة والممثلين والروايات، وهذا مسرح صحيح، ولكنه ليس كل المسرح؛ فللمسرح أشكال كثيرة متعددة ليس هذا النوع سوى أحدها فقط، مجرد شكل واحد تطور على يد الإغريق ثم جاء الدين المسيحي في أوروبا فقضى عليه وكبته باعتباره أحد الأشكال الوثنية للعبادة، لكن قبضة الدين حين خفت عاد المسرح الإغريقي مرة أخرى فيما بعد العصور الوسطى وأصبح له شكسبيره ومولييره ... إلى آخر القصة.
أما بقية الأشكال المسرحية، فهي موجودة في حياة كل شعب. ولا بد أن تكون موجودة وحية سرت، ولا تزال سارية، وستبقى سارية إلى الأبد. هذه الأشكال ممكن جمعها تحت ظاهرة واحدة، ظاهرة بيولوجية حيوية تدفع الناس بعد انتهاء العمل واكتفاء غريزتي الوجود وحفظ النوع أو حتى من أجل اكتفائهما إلى غريزة التجمع بلا سبب فردي أو ذاتي، وإنما بتأثير الغريزة الجماعية في كل إنسان وتلبية لها. هذا التجمع يأخذ أشكالا كثيرة، ولكن يحدث فيه دائما وأبدا نفس الشيء، ذلك الشعور بالأمن الجماعي الذي يدفع كل فرد إلى نسيان خوفه الفردي ومنغصاته الذاتية وقلقه على وجوده الخاص، شعور يشبه كثيرا أسطورة البجع المسحور الذي كان يتجمع، وعند البحيرة تخلع كل بجعة غطاءها الخارجي كبجعة، ويلتئم شمل الحوريات الخارجة؛ ليرقصن ويمرحن ويستحممن معا. في التجمعات الإنسانية التي تحدث بلا سبب معيشي أو جنسي يحدث نفس الشيء ويخرج كل فرد في الجماعة من ذاته الخاصة وتلتقي الحوريات مكونة الذات الكبرى للجماعة؛ لكي تمرح وترقص وتنعم بكل ما يولده شعور الأمن الجماعي من نزوات.
هنا في اللقاء باستطاعة كل فرد أن ينظر في ذاته دون خوف وأن يسخر منها وأن يتحرر من قبضة خوفه الدائب عليها ويصبح أكثر حرية وتبدو له خصال أخرى؛ فيزداد كرمه ورغبته في السخاء على إخوته الآخرين، ويصبح أكثر استعدادا للتضحية وبذل النفس إلى آخره.
هذا التجمع، وتلك الأشكال المسرحية كثيرة الحدوث في حياتنا اليومية في الأفراح والمآتم والمناسبات، في الاحتفالات الكثيرة التي ابتكرها الجنس البشري كحجة (أحيانا مضحكة) للتجمع مثل التجمع للاحتفال بطهور أحد الأولاد، أو الاحتفال بنزول النقطة أو أعياد الحصاد والمناسبات الدينية. أكثر من هذه السهرات اليومية في البيوت بعد انتهاء اليوم والعمل، التجمعات التلقائية في الأسواق وبعد انتهاء البيع والشراء، بل إن الشعوب ابتكرت أماكن ثابتة لتجمعات مستمرة يذهب إليها الفرد استجابة لغريزته الجماعية مثل القهاوي والحانات والنوادي.
هذه كلها لحظات مسرحية، وأشكال مسرحية، كان لا بد بمرور الأزمان أن تتطور ويصبح لكل شكل منها تقاليد وتراث. وقد حدث أن أحدها وهو الصلاة لآلهة الإغريق ظلت تتطور إلى أن أصبحت اليوم ما نسميه بالمسرح، الذي كان إغريقيا ثم أصبح أوروبيا ومن ثم انتشر إلى العالم أجمع. ولكن ليس معنى هذا وليس معنى انتشاره والاعتراف به عالميا أن كل شعب من الشعوب لم يتطور لديه شكل يؤدي نفس الوظيفة الاجتماعية التي خلقت المسرح الإغريقي.
ولست مؤرخا ولا فيلولوجيا ولا عالم تراث أو فولكلور لأعرف على وجه الدقة إن كان المصريون القدماء قد عرفوا المسرح الديني بمعناه الإغريقي، فما أعرفه أن التمثيل في هذا المسرح كان يقوم به الكهنة في حجرات مغلقة، وهو شكل مختلف تماما عن الشكل الإغريقي الذي كانت تقوم به جماعات الإغريق نفسها وفي احتفالات عامة لا سرية فيها ولا غموض. كل ما يمكن الجزم به أن المسرح المصري الديني القديم كان لا بد مختلفا تماما عن المسرح الإغريقي اختلاف الديانة الإغريقية عن الديانة المصرية وزيوس الأسطوري عن فرعون الإله الحي المعبود. الحياة المصرية القديمة كان طابعها التجمع على النطاق الشعبي الواسع والاحتفالات الضخمة التي يشيدها الشعب كله، بعكس الحال في اليونان، حيث لم تكن هناك دولة كبرى، بل تقريبا كل مدينة كانت دولة، وفي المدينة الواحدة كان طابع الحياة هو الاجتماعات المحدودة الكثيرة التي هي أصلح مادة خام لنشأة المسرح؛ لأن المسرح لا بد أن يكون حضوره محدودي العدد.
في مصر على ما أعتقد كان الأمر مختلفا، والشعب كان دائما موحدا واجتماعاته تشهدها الساحات الكبرى التي يحضرها مئات الآلاف؛ لهذا فلا بد أنها كانت اجتماعات شبه رسمية إلى حد بعيد، الجمهور فيها لا يقوم إلا بدور المتفرج على احتفال أعد قبلا. وأمثال هذه الاجتماعات لا تدخل تحت بند المسرح لا بمعناه الحديث ولا بمعناه العام؛ لأن دور الجماعة البشرية فيها سلبي تماما.
الفرق بين الفرجة والتمسرح
Bilinmeyen sayfa
التجمعات البشرية المسرحية كانت تحدث بعيدا عن هذا الشكل الرسمي بنفس تلقائية حددتها في أي زمان ومكان، تلقائية سرعان ما ابتكر لها الشعب مناسبات شعبية محضة لا تمت إلى الدين أو الحاكم أو أكل العيش بصلة، ولهذا ظلت سارية مهما تغير شكل الحضارة في مصر أو نوع الحكم أو تغيرت الديانات، بل حتى رغم مقاومة الدين، فالخروج إلى المقابر كثيرا ما قاومه الإسلام وندد به خطباء المساجد، ولكن أحدا لم يستطع منع النساء وقد فرض عليهن الحجاب إلى الخروج إلى المقابر لمزاولة غريزة التجمع. وحفلات الذكر ليست سوى تجمعات الرقص الديني الفرعوني وقد أخذت ثوب الإسلام.
ولكننا لا نزال لم نصل بعد إلى التمسرح أو التجمع الناطق المنقسم إلى ممثلين وجمهور. وأنا لا أستعمل كل هذه الصفات من باب التفاصح؛ لأني حقيقة أريد أن أصف بها المسرح كما نعرفه وكما لا يزال بعضنا يخطئ في فهمه. فالمسرح ليس هو المكان أو الاجتماع الذي «تتفرج» فيه على شيء، إن هذا ابتكر له شعبنا كلمة «فرجة» أو رؤية ومشاهدة. أما المسرح فهو اجتماع لا بد أن يشترك فيه كل فرد من أفراد الحاضرين، مثله مثل الرقص من بدائيته إلى احتفالات قصر الملكة فيكتوريا، لا يسمى رقصا إلا إذا اشترك في الرقص كل الحاضرين، أو الأغنية الجماعية لا تعد جماعية إلا إذا غناها كل الناس معا؛ لأنه في كل تلك الأشكال المسرحية لا بد من توفر عنصرين؛ أولا: الجماعة والحضور الجماعي، وثانيا: قيام الجماعة كلها بعمل ما. وقد نسأل: وماذا إذن عن الأشكال التي نذهب لنتفرج فيها على راقص أو نسمع مغنية تغني أو نشهد فيها فيلما؟ أليست أشكالا مسرحية؟ والجواب لا، ليست أشكالا مسرحية، وليست إلا إشباعا فرديا لا يمكن أن يغني أو يحل محل الإشباع الجماعي. هذه الأشكال ازدهرت فقط في بلادنا بالذات لأسباب لا علاقة لها بالمسرح، ازدهرت لأن الأديان السماوية اعتبرت كافة الاحتفالات الجماعية أشكالا وثنية متخلفة حرمت القيام بها. وهكذا نشأ «تابو» جماعي ضدها وأصبحت مزاولتها مقصورة على الأفراد الساقطين في نظر المجتمع الذين طردهم المجتمع فسقطت عنهم كل تابوهاته ومحرماته، بل أصبحوا هم أنفسهم تابوها مجرما على المجتمع، وبحيث أصبح كل ما يزاولونه لا خطر البتة من تقليده أو تسرب عدواه إلى الأجيال الناشئة. ومعظم هؤلاء الساقطين كانوا لسوء الحظ فنانين، وكانوا يكونون مجتمعا منبوذا كمجتمع الغوازي في سنباط أو العوالم في شارع محمد علي أو مجتمع الجيشا في اليابان.
هؤلاء الأفراد كان يستعملهم المجتمع ليتفرج عليهم وهم يزاولون الأشياء المحرمة عليه، ويحصل بهذه الطريقة المعذبة على إشباع لغريزته المسرحية. تماما مثلما ينشأ دين يحرم التدخين ويشبه واحد ويدخن ولا يصلح في منعه زجر أو سجن ف «يسقطه» المجتمع من أفراده، ولكنه في نفس الوقت وليشبع رغبته في التدخين تلتقي جماعاته «تتفرج» على هذا «الساقط»، وهو يدخن لكي تحصل بمجرد الفرجة على ما تحن إليه حنينا شديدا وهو محرم عليها تحريما أشد.
وإلى عهد غير بعيد كانت الممثلات يعتبرن في نظر المجتمع ساقطات؛ لأن الفنانة منهن كانت لا تجرؤ على الوقوف على خشبة المسرح إلا بعد أن تتخلص من تابوه التحريم بالسقوط وبالتحول إلى كائن محرم لكي يسمح لها المجتمع والدين والتقاليد أن تمثل ما تشاء.
الفنون أصلها جماعية
وهكذا نرى كيف أن الاجتماعات الكبرى للمصريين كانت تسودها الرسميات، ولا يشترك فيها الحضور، والاجتماعات الصغرى في المناسبات جاءت الأديان السماوية وحرمت المساهمة الجماعية فيها، وأصبح حق مزاولة الرقص أو التمثيل أو الغناء مقصورا على الساقطين والساقطات، ولكن لحظات الالتقاء الجماعي لا يمكن كما قلنا أن تنعدم مطلقا، إنها فقط تتراجع وتختفي عن أنظار الأوصياء على التابوهات والتقاليد وحراسها، بل يمكن أن تلجأ إلى السرية التامة، ولكنها أبدا لا تنقطع.
وتراجعت اللقاءات إلى مستوى لقاء الشلة أو الأصحاب وإلى دواوين زمان وصلا بملكات البيوت والجلسات الخاصة، أي التي يحل للفرد فيها أن يقوم بالمساهمة في احتفال جماعي صغير بعيدا عن نظر المجتمع الأكبر. في هذه اللقاءات كان الكل يغنون ويرقصون ويسكرون و... يمثلون. فالتمثيل أيضا، كالضحك، خاصية بشرية لا يمكن إسقاطها عن الإنسان، ولكن التمثيل في هذه الجلسات كان لا يأخذ طابع الروايات، كان يأخذ أشكالا أخرى، مثل أن يروي كل حاضر نكتة، أي يأتي عليه الدور ليؤثر في الحاضرين مثلما تأثر هو بهم، أي يحدث هذا التفاعل الاحتفال الجماعي، بل إنه في مصر بالذات اخترعت المحاورة التي يسمونها «القافية»، وهي شكل مسرحي بدائي جدا، ورغم هذا فرض نفسه على المسرح المصري المنقول فترة طويلة، وكان علي الكسار يقطع المسرحية ليدخل قافية مع أحد الحاضرين.
وليس معنى مشاركة كل إنسان أن يحدث هذا بالتساوي؛ فهي مشاركة ذات درجات، ولكن لا بد من حد أدنى لها؛ ولهذا كان دائما يحدث أن ينبغ بعض الأفراد في ناحية بحيث يبدأ الرقص جماعيا مثلا، ثم لا يلبث الحضور أن يكتفوا بالتفرج على فرد أو أفراد منهم وهم يرقصون، وذلك حين تصل متعة التفرج حدا أكبر من متعة المشاركة، ولكنه اختلاف في الكم فقط وليس في النوع. إننا إذا بدأنا الغناء جميعا وأوجدنا حالة المتعة الجماعية المشتركة نكون قد دخلنا في حالة من «التجلي» تجعل إحساس الفرد بصوته وبغنائه يتلاشى إلى درجة أنه إذا توقف لا يحس؛ لأن أي مغن آخر يكون وكأنما يغني بحنجرته هو. ولعل هذا هو فكرة الكورس الأولى في الغناء الشرقي حين يبدأ احتفال الغناء بغناء الجميع إلى لحظة فقدان الإحساس بالذات حيث يكتفى بغناء فرد واحد، حبذا لو كان أجمل الأصوات، أي أكثرها غنائية أو موسيقية.
ولا بد من ملاحظة ظاهرة هامة في مجال الحديث عن الإحساس بنسيان الذات الفردية أو «خلعها»، إذ المعروف أن جميع هذه اللقاءات والاحتفالات كان يصاحبها شرب الخمر مثلا أو تدخين المخدرات، وهي كلها وسائل «تعجل» بحالة «الأيوفوريا» أو ارتفاع الروح المعنوية والمرح وتسهل عملية الانزلاق من الذات الصغرى إلى الذات الأكبر.
واجتماعات تدخين الحشيش في مصر دائما يسمونها «القعدة»؛ لأنها ليست أولا وأساسا لعملية التخدير أو التدخين، إنها أولا وأساسا للحظتها المسرحية، للسمر، للونس، والحشيش ليس إلا «الشراب» الذي لم يرد تحريمه قاطعا في القرآن، ربما لأنه لم يكن معروفا.
Bilinmeyen sayfa
أين المسرح المصري
ونعود إلى السؤال: أين المسرح المصري إذن رغم كل ما قلنا؟
في الريف لا يزال السامر مسرحا شعبيا، لا يعرف أحد متى بدأ، وفي المدينة كاد ينقرض مسرح مماثل، مسرح الحواري، وخيال الظل، والأراجوز، وكل تلك الأشكال المسرحية الصريحة. ولكني لا أعتقد أنها أشكال من احتكار الشعب المصري، ولا يمنع هذا أن شعبنا بمواهبه التمثيلية والتأليفية طورها ونبغ فيها؛ ذلك لأن الشعب المصري حدث له شيء في تاريخه لم يحدث لشعب آخر، شيء قطع تماما كل صلته بتاريخه الطويل الذي يعتبر أطول تاريخ لأي شعب معروف، وأوقف تماما سريان وتوارث التقاليد الحضارية وتراكمها في وجدان الشعب وعقله الباطن والواعي.
فبعد سلسلة من الحكومات الأجنبية التي كانت الحضارة المصرية تبتلعها دائما وتمصرها، جاء الدين المسيحي فآمن به الشعب إيمانا راسخا أقوى بكثير من إيمان أهل روما أو بيزنطة؛ لأنه كلما تقدم الشعب حضاريا أصبح أكثر قابلية لتغيير معتقداته والتعصب لكل ما هو أرقى وأحدث، وتلقف الشعب الراقي هذا الدين الجديد، فآمن به بإخلاص جعله يغير من ذاته تماما ويبتر كل صلة بكل معتقداته السابقة. وفعل هذا لمئات طويلة من السنين، حتى جاء الدين الإسلامي فاعتنقه بإخلاص كامل أيضا وغير من ذات نفسه ليخضعها لتعاليمه.
بالاختصار جاءت كتلة صلبة سمكها مئات السنين من العقيدة المسيحية والإسلامية لتقطع سلسلة التطور الحضاري، فكانت وكأنما قضينا على الحياة المصرية القديمة، وخلقنا حياة جديدة مسيحية أولا، وكأن الشعب تحول كله إلى كهنة وقسس، إسلامية إلى أقصى حد، وكأن الشعب تحول إلى أئمة ووعاظ. إن العبادة، أي إفناء الذات الصغرى في الذات الشاملة الكبرى، كانت دائما علاقة رئيسية من خصال الشعب المصري في قديمه وحديثه، وباستمرار، وكأنه يتحضر ليؤمن بشيء أو ليعبد ويمجد العقيدة أو الفكرة.
هذا الحادث الضخم كان له أثره في حياتنا اليومية، إذ كان علينا بعد الإسلام أن نبدأ في ابتكار حياة اجتماعية إسلامية جديدة، ابتكارات ظلت تتطور حتى وصلت في عهد الفاطميين إلى حد تكاملها الأول، وهو تكامل لم يكن كله من ابتكار الشعب المصري؛ فدولة الإسلام الكبرى التي أصبح جزءا منها قد حملت إليه عادات وابتكارات من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب في الأندلس، ولأن نفس الشيء كان يحدث تقريبا في كل أجزاء الدولة الإسلامية، فقد تقاربت أشكال الحياة اليومية في الممالك الإسلامية إلى حد بعيد.
وفي المسرح بالذات لم يكن هذا هو ما حدث في أوروبا، فالمسرح الإغريقي لم يمت تماما أو اندثر، وإنما بقي في الكتب وبقيت نصوصه. وصحيح أنه كبت بالمسيحية، ولكنه حين خفت قبضتها وتحركت الغريزة الجماعية لتعيده وجد كل شيء معدا لحياته الثانية، ومنها انطلق.
في مصر، حين خف الإيمان المتعصب بالإسلام أيام الفاطميين، لم يكن هناك ليزدهر إلا بعض الأشكال البدائية التي نمت بصعوبة في ظل الإيمان الجديد، فلم يسترجع الشعب عاداته في الرقص، ولكنه استرجع عاداته في تمجيد الموتى، وبدأ العصر الذهبي للعمارة، وأولها إقامة مدافن على شكل مساجد للحكام والأعيان. هناك، وعلى صورة واهية شديدة البهتان كانت ذكريات الحضارة القديمة لا تزال مجرد أحاسيس غامضة، خرجت هذه المرة على شكل إسلامي المظهر والمحتوى، احتفالات رمضان، وحفلات الذكر، ووفاء النيل، وعودة مجالس القصاصين والحكايين، وازدهار خيال الظل والأراجوز، كله إلا أن يمثل الشخص أو يقلد شخصا آخر؛ لأن التحريم الديني كان يمنعه، إذ كان فقهاء ذلك العصر وحتى إلى عهد قريب يعتبرونه نوعا من الاعتراض على الخالق في خلقه، فالإنسان في الدين الإسلامي من صنع الله، وأي انتقاد له يحمل في طياته انتقادا لصانعه. وكذلك ارتداء قناع أو تغيير ملامح الوجه حتى لو كان وجه الشخص نفسه، فهو أيضا تشويه في خلقة الله.
ولكن التمثيل نفسه لم يتوقف، ظل يزاول بأشكاله غير المحددة ودون جرأة على تعريفه أو تحديده أو تطويره، وهكذا نشأت القافية المصرية، وخلقت العبقرية المصرية وطورت من النكتة وإلقاء النكتة، ووضعت فيها كل قدرة الشعب على السخرية وكل طاقته على الإيجار. والنكتة فن مسرحي أو على الأقل نوع من الحضور المسرحي، الذي يقوم فيه شخص بإلقاء أو «تمثيل» موقف واحد متناقض من مواقف الحياة. ولقد ازدهر هذا الفن لاحتوائه على كل الطاقة الدرامية لشعب محروم من إخراج هذه الطاقة على صور أخرى، كما ازدهر فن الزخرفة المصري الإسلامي حيث حرم على الشعب إظهار طاقته الفنية التشكيلية في صور الأشخاص.
نستطيع القول إذن إن محاولة العثور على شكل صريح للمسرح المصري في العصرين المسيحي والإسلامي تعتبر نوعا من الافتراء على الواقع؛ إذ الواقع لم يكن يشتمل إلا على أشكال بدائية، وإن استطاعت أن تكفي إلى حد ما حاجة المصريين إلى التمسرح، فهي أبدا لا يمكن أن تكون قد وجدت بمثل الصراحة والتحديد اللذين وجد بهما المسرح فيما بعد العصور الوسطى من أوروبا المسيحية.
Bilinmeyen sayfa
بداية مسرحنا المعاصر
حتى إذا عبرنا تلك الفترة وجئنا إلى بداية العصور الحديثة في مصر بالذات، وجدنا حركة ترجمة نشيطة على يد المهاجرين اللبنانيين لنقل المسرح الفرنسي إلى اللغة العربية، تلك الحركة التي لا تزال سارية في حياتنا المسرحية إلى اليوم، ولا يزال الاقتباس والتعريب والتمصير من العمد الرئيسية التي يقوم عليها مسرحنا.
هذه الحركة التي تعتبر بداية حقيقية لمسرحنا المعاصر، نستطيع أن نسميها بكل ثقة أنها كانت ولادة غير شرعية لذلك المسرح، بحيث نشأ مسرحنا كحفيد ملفق للمسرح الفرنسي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتطور الأمر من الترجمة الحرفية إلى التعريب والاقتباس. وليس فقط ترجمة واقتباسا للنصوص، وإنما لمدارس التمثيل وللتقاليد المسرحية والتسميات المسرحية مما لا يزال شائعا إلى يومنا هذا، ككلمات الديكور والإكسسوار والجان بريميير والفيديت والفودفيل والدراما وغيرها، وهي ترجمات واقتباسات كانت في أولها ركيكة متهافتة، بحيث كانت ملابس العمل المسرحي الأصلي الداخلية تبدو من تحت رداء الاقتباس أو الترجمة المهلهل، ولكن الوضع لم يستمر هكذا، تطورت الحركة، وبالذات على أيدي عزيز عيد ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار، وأصبح للتمصير أو للتعريب النصيب الأكبر، بحيث إن معالم المسرحية الأصلية كانت في كثير من الأحيان تتوارى عن الأعين، وبحيث أصبح الاقتباس هو مجرد اقتباس «للرواية الجيدة الصنع» أو الهيكل العظمي المسرحي و«معظمه لمسرحيات من ساردو»، وتغطيته بلحم ودم مصري بحت، كما كنا نرى في «كوميديات الريحاني الأخيرة» و«تراجيديات يوسف وهبي في الثلاثينيات»، بل تطور الوضع خطوة أخرى ووجد في أعقاب ثورة 1919 مؤلفون مسرحيون مصريون لا يقتبسون ولا يترجمون ، ولكنهم يؤلفون قطعا مسرحية كانت إلى حد ما تدور في فلك التراث الأوروبي المترجم والمقتبس. ولهذا لم تعش مؤلفاتهم كثيرا وطغى عليها تيار الاقتباس المباشر ممثلا في الريحاني من ناحية ويوسف وهبي من ناحية أخرى، إلى الدرجة التي ذبلت فيها حركة التأليف، بحيث كادت مسرحياتنا كمسرحيات أحمد شوقي الشعرية تولد ميتة، وكاد توفيق الحكيم (وهو واحد من مؤلفي سنة 1919) يتوب عن التأليف المسرحي كلية ويذهب إلى فرنسا حيث يتحول إلى كتابة الرواية، وحيث يفاجأ هناك بالمسرح الفرنسي نفسه قد تطور إلى مدارسه الحديثة التي لم يكن شيء منها قد وصل علمه إلى المقتبسين في مصر، وبهره ما رأى إلى درجة أخذ يؤلف متأثرا بالمسرح الفكري الفرنسي، فأنتج أهل الكهف وشهرزاد.
ولكن درجات النجاح الساحق التي كان يقابل بها ما يقدمه الريحاني ويوسف وهبي وعلي الكسار لم تستطع أن توقف أبدا إلحاح الحاجة إلى المسرح المصري فكرة ودما ولحما، وهكذا حين عاد توفيق الحكيم عاد يكتب للمسرح أيضا، ولكنه لم يشأ أن يدخل برواياته لتتنافس مع البضائع الرائجة في السوق، فوضعها في كتب، وسماها تمييزا لها وارتفاعا بها عن المسرح التجاري الناجح «المسرح المقروء»، وتقريبا وعلى نفس هذا المنوال نسج محمود تيمور وعلي أحمد باكثير وعزيز أباظة.
ومرة أخرى أنبه الأذهان إلى أن هذا العرض ليس تأريخا للحركة المسرحية، ولكنه عرض لهذا التاريخ من خلال وجهة نظر خاصة. فما كادت الحرب تنتهي وتتهيأ بلادنا للثورة العارمة المقبلة حتى كانت منشئات ثورة 19 ومخلفاتها قد بدأت تلهث الأنفاس وتتسرب منها الحياة، فلم تشارك الفرقة القومية التي أنشئت لعرض المسرح المصري المؤلف أساسا مشاعر الشعب ولا بوادر تحركاته الثورية، كانت في واد والشعب في واد، وحتى التأليف المسرحي المصري كان هو الآخر في واد؛ إذ كان توفيق الحكيم قد أصبح همه أن يطور مسرحه الفكري الخاص بطريقة أصبح يبتعد بها عن الحياة وعن الناس بسرعة، وكان تيمور يؤلف عن الجن، وباكثير عن سر الحاكم بأمر الله، وعزيز أباظة عن قيس ولبنى، في الوقت الذي كان الشعب فيه يغلي تحت حكم ملك حاكم بأمر الشيطان. وهكذا حين جاءت ثورة 1952 كان مسرح ما بين الحربين قد مات دون أن يتفضل أحد بمنحه شهادة الوفاة، ولهذا لم يكن غريبا أبدا أن يصل عدد الرواد في إحدى حفلات يوسف وهبي إلى خمسة أشخاص، بطريقة يضطر معها هذا الفنان الكبير إلى إلغاء الحفلة. والفرقة المصرية الحديثة «القومية سابقا» قد استنفدت أغراضها في عرض البخيل وطرطوف ولويس الحادي عشر. وثمة فرقة أخرى، فرقة المسرح الحر، قد خرجت إلى الوجود، ولكنها لا تزال مواهب تمثيلية بغير تأليف مسرحي.
في هذه الفترة بالذات أصبحت الحاجة ماسة إلى مسرح من نوع جديد بمضمون جديد وأبطال جدد. وهكذا جاء تقديم «الناس اللي تحت» لنعمان عاشور، وجمهورية فرحات وملك القطن والصفقة وقهوة الملك والمحروسة والفراشة بمثابة بداية جديدة لمرحلة تطور هامة من مراحل المسرح المصري.
هل خلقت الحركة مسرحنا المصري الحقيقي؟
ولكن هل جاءت تلك المسرحيات لتخلق المسرح المصري البعيد عن الاقتباس والترجمة والتعريب، البعيد عن كوميديات الريحاني وتراجيديات يوسف وهبي؟
لكي نكون صرحاء مع الواقع، يجب أن نقول إن هذه النهضة المسرحية الجديدة لم تكن إلا طورا أرقى من أطوار الاقتباس والتأثر، فهي قد جاءت لتضيف دورا جديدا إلى بناية من أساسها أوروبية فرنسية معربة. كل ما في الأمر أنها هذه المرة نتيجة تأثرات بمدارس مسرحية أوسع، منها المسرح التشيكوفي والأبسني والأمريكي الحديث. التأليف أكثر تماسكا هنا، والشخصيات أكثر مصرية، ولكن القالب والموضوع لا يزالان في حدود القوالب المسرحية الروسية أو الفرنسية أو الأمريكية. إن هناك تشابها كبيرا بين الروح التي أملت كتابة هذه الروايات وتقديمها وبين الروح التي سادت مصر أثناء ثورة 19 وفي أعقابها، والتي أملت على محمد تيمور ومحمود تيمور وبديع خيري ونجيب الريحاني وتوفيق الحكيم كتابة روايات «الثورة المصرية الأولى»، روايات هدفها الانسلاخ بالموضوع وصبغه بصبغة مصرية ثورية، ولكن المشكلة الكبرى أننا فعلنا هذا في الثورة الأولى والثورة الثانية بوسائل وتكنيك ومسرح ليس مسرحنا النابع منا ومن تقاليدنا.
وهنا يبرز السؤال الخالد: هل لم يعد هناك سوى طريق واحد على المسرح المصري أن يمضي فيه، وذلك بقبول الأساس المعرب والمضي في تطويره إلى أن يتلاءم مع طبيعتنا؟
Bilinmeyen sayfa
أم لكي نكتشف مسرحنا الحقيقي الخاص بنا علينا أن نسلك طريقا مختلفا تماما، يكاد يكون عكس الطريق الأول، طريقا أشق قليلا؛ لأن علينا فيه أن نكتشف أنفسنا ونكتشفها في نقطة يكتنفها غموض كثير، هي طبيعتنا الدرامية وكنهنا المسرحي؟
تلك هي المشكلة الملحة التي أعتقد أنها أصبحت تواجه جميع المشتغلين بالمسرح المصري والمهتمين به؛ لأنها ليست مشكلة تختص بالتأليف المسرحي وحده، ولكنها تشمل طرق التمثيل والإخراج، وحتى شكل المسرح نفسه وهندسته. مشكلة خطيرة ملحة، ولكني أعتقد أننا قد وصلنا في طريق النضج إلى مستوى أصبح علينا فيه أن نناقش أمثال هذه المشاكل الخطيرة الملحة ونواجهها، بل ويذهب بعضنا إلى حد تقديم النماذج.
ولنبدأ بالسؤال الأول
إنني أعتقد أننا مهما غيرنا وبدلنا وطورنا في المسرح الأوروبي، فستبقى طبيعته أوروبية بعيدة عنا بعد أوروبا عنا، لا تندمج معنا، ولا نندمج معها، مثلنا مثل الماء والزيت، فلكل شعب من الشعوب طبيعته الخاصة التي ينتج فنونه استجابة لها. إن هناك فارقا أساسيا بين العلم والفن، فالعلم ممكن أن يكون قوانين عالمية يتداولها كل البشر ويفيدون منها ويطبقها كل شعب بنفس الروح والعقلية، ولكن حتى هذا العلم الذي يجب أن يكون شاملا وعالميا نجد له أنواعا؛ ففي الهند والصين مثلا توجد ثلاثة أنواع من الطب: الطب الأوروبي التقليدي، والطب التجريبي الهندي الشعبي، والطب العربي اليوناني الذي يستعمل تركيبات المؤلفين العرب واليونانيين القدامى. بل لقد أخبرني الصديق الدكتور أنور المفتي أن نتائج العلاج بالأنواع الثلاثة تكاد تكون متقاربة في درجة فاعليتها، بل أحيانا يتفوق الطب الشعبي التجريبي والطب العربي اليوناني على طب أوروبا نفسه. هذا في العلم، فما بالك في الفن! حيث هو ليس فقط محليا بطبعه، ولكنه ما لم يكن محليا فقد طبعه وطبيعته كفن. إن الفن الذي نسميه عالميا ليس سوى الفن الأوروبي الذي نسميه عالميا من باب التجاوز ، نظرا لدرجة انتشاره الكبرى، ولكنه أولا وأساسا فن أوروبي، بحيث إذا عزلناه عن أوروبا التي أنتجته لفقد تأثيره تماما وفنيته؛ لأن كل فن هو نتاج شعب أو شعوب تحيا في بيئة معينة وذات مزاج وتكوين نفسي معين، بحيث لا بد أن يتطابق الناتج «الفن» مع المنتج «الشعب» أو الفنان النابع من هذا الشعب.
ولهذا أيضا فالمسرح بشكله «العالمي» المزعوم أصبح يهدد المسارح الشعبية الأخرى في كل بلاد الدنيا، إلا في بلاد راسخة التقاليد المسرحية الخاصة كالصين واليابان. وهذا المسرح هو الذي قضى على مسرحنا الخاص بنا، والذي كان محتما أن يظهر إلى الوجود يوما، وهذا المسرح أيضا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحل محل مسرحنا الخاص بنا أو يمنع ظهوره، إلا إذا كان باستطاعة اللغة الفرنسية أو الإنجليزية أن تغنينا عن لغتنا العربية وتقضي عليها وتحل محلها، فالفن كاللغة جزء لا يتجزأ من طبيعة الشعب وخصائص وجوده.
والحديث هنا ليس فقط عن المسرح الأوروبي الصريح، ولكنه أيضا عن المسرح «المصري» الناتج عن التأثر بالمسرح الأوروبي، ذلك المسرح الذي يكون معظم بل كل رواياتنا التي ألفت للمسرح إلى الآن وبما فيها المدرسة المصرية الحديثة. إن ازدهار هذا النوع ورواجه لا ينفي أبدا أنه ليس منا وليس من طبيعتنا، بل إنه يؤكد حاجة شعبنا إلى المسرح بشكل عام وأهميته في حياته، بحيث إنه حين لا يجد مسرحه يقبل على المسرح الآخر، و«شيء خير من لا شيء بالمرة».
الفن إذن خاصية من خواص كل شعب، والمسرح أيضا كما رأينا جزء لا يتجزأ من طبيعة كل شعب، والمسرح الأوروبي سيظل أوروبيا بالنسبة لنا، وكذلك كل الأشكال المتفرعة منها والمتأثرة به، وكل مدارسه في التمثيل والإخراج والهندسة المسرحية.
ولا يبقى أمامنا سوى استجلاء الجانب الأشق. أشق جانب، وهو: من أين؟ وكيف يمكن؟ وماذا بالضبط نقصد بمسرحنا المصري الحقيقي النابع منا ومن طبيعتنا والذي لا يمكن أن ينفصل عنها؟
رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا
بعد نشر المقالة الأولى من سلسلة «نحو مسرح مصري» ووجهت بعاصفة من المناقشات بعضها يعارض وبعضها يؤيد، عاصفة جعلتني أزداد إيمانا أن الموضوع فعلا يشغل الأذهان، وإذا كانت الكثرة الغالبة لم تستطع أن تكون فيه رأيا قاطعا، إلا أن هذه المناقشات الحية الحامية أقنعتني أن كلا من المهتمين بأمر المسرح يحاول أن يحدد له موقفا في هذا الموضوع الخطير.
Bilinmeyen sayfa
ولقد أسفت لبعض المفهومات الخاطئة التي تكونت على أثر هذه الدعوة، وأولها وأخطرها ذلك الذي يدعي أننا نريد أن ننغلق على أنفسنا ونقطع ما بيننا وبين أوروبا من علاقة علمية وفنية، أو كما سماها البعض «شيفونية ثقافية». ولست أدري من أين جاء هؤلاء بهذا المفهوم؟! ما العلاقة بين الدعوة إلى اكتشاف المسرح المصري وتقديمه وبين مقاطعة أوروبا ثقافيا وفنيا؟ وهل إذا قد طالبنا بضرورة أن يكون لنا موسيقانا الخاصة النابعة منا، هل يفهم من هذا أننا نطالب بمقاطعة أوروبا موسيقيا وغلق آذاننا عن أن تسمع روائع شوبان وتشايكوفسكي؟ إن هذا المفهوم يحب البعض أن يدعيه ليقف في وجه كل طموح فني في بلادنا باعتبار أننا مهما فعلنا فلن نصل أبدا بفننا الخاص إلى ما وصلت إليه أوروبا، وسنبقى متخلفين بمئات السنين. ومعنى هذا ببساطة أننا يجب أن نيأس ويجب أن نعتمد كلية في غذائنا الروحي على معاني أوروبا وكتابها. ولو أطلقنا لهذا المنطق العنان لكان علينا أن نتنازل عن لغتنا الأخرى باعتبارها لغة غير أوروبية متخلفة، وننتقي لنا لغة أوروبية حديثة متطورة، نتعلم كيف نتفاهم بها، ذلك أن الفن كاللغة، وكما أننا لا نعتبر أن هناك لغة عالمية ولغة محلية، وإنما هناك لغات واسعة الانتشار وهناك لغات محدودة الانتشار، فأيضا نحن لا نعتبر أن هناك فنا عالميا وفنا محليا، هناك فنون أوروبية واسعة الانتشار وفنون شرقية أو عربية أو صينية محدودة الانتشار، محدودية لا ترجع أبدا إلى أسباب فنية، إنما ترجع إلى أسباب سياسية بحتة، وإلى انتشار اللغات والفنون الأوروبية بسبب نمو الحضارة الأوروبية وطغيانها واستعمارها لمعظم أجزاء العالم، ومحاولة صبغها بالصبغة الأنجلوساكسونية أو الجرمانية أو الأمريكية، لا يضير فننا إذن أو لغتنا أنهما محدودا الانتشار، فهما يعانيان نفس الغلبة على أمرهما كما كنا كشعوب نعاني.
إنني أعجب أحيانا لهؤلاء المثقفين الذين يعقدون الجلسات «الفنية»، ويتحدثون باحترام يقترب من مرتبة التقديس عن السيمفونية وبيتهوفن وموزار، حتى إذا جاءت سيرة فنوننا كانت تنتابهم حالة قيء حادة وقالوا لك باشمئزاز: أين هذه العبقريات كلها من «موالنا» الخائب، أو «على بلد المحبوب وديني»؟! هؤلاء المثقفون ليسوا مثقفين بالمرة، أو على الأقل لا يمكن أن يحتسبوا من مثقفي شعبنا. ممكن اعتبارهم مثقفين أوروبيين أو متأوربين؛ لأن فن أي شعب كلغة أي شعب لا يمكن أن يقارن بفن أي شعب آخر أو لغته أو يميز عليهما. لا يمكن أبدا أن نقول إن الألمانية لغة أفضل من اللغة اليابانية، أو إن الروسية أفضل وأروع ألف مرة من العربية ... وبنفس هذا المنطق لا يمكن أبدا أن نقول إن السيمفونية أروع آلاف المرات من الموال الأحمر ... فإن عظمة كل فن وعظمة أي لغة لا يمكن تحديدها إلا بالنسبة للشعب الذي يتحدث هذه اللغة أو يستوعب هذا الفن.
قضية أساسية
وهذه قضية أساسية لا بد من الوقوف عندها؛ لأنها مهمة للغاية، وفي رأيي تشكل أكبر الخطر على فنوننا وكياننا الروحي، ومن ثم على مستقبلنا. يجب أن نفهم وندرك ونعي أن الفن ظاهرة إنسانية اجتماعية لا بد لإنتاجها من بيئة معينة تتبع شعبا معينا وتنتج من أجل ذلك الشعب: أن ريمسكي كورساكوف لم يكتب موسيقاه لتذاع من إذاعة كولومبيا في أمريكا، وشوقي لم يكتب شعره ليقرأه الشعب الهندي وينتشي به، وبرخت لم يكتب مسرحياته إلا بالألمانية وكتبها أساسا للشعب الألماني، وكذلك كان يفعل إيريا ماريا ريمارك برواياته، صحيح أن أنيسكو كاتب روماني الأصل، ولا يكتب للشعب الروماني، ولكن أنيسكو اتخذ فرنسا وطنه الثاني، ويكتب للشعب الفرنسي، وللحركة الثقافية الفرنسية، وكذلك يفعل بيكيت، وأروين شو لا يكتب مسرحياته للشعب الإنجليزي، ولكنه يكتبها أولا للشعب الأيرلندي، وكذلك آرثر ميللر، وتينيسي ويليامز. إن بعض روايات تينيسي وليامز ليست مكتوبة للشعب الأمريكي كله، ولكنها مكتوبة أساسا للشعب الأمريكي في ولايات الجنوب، تماما كما كان يفعل فولكنر وشتاينبك، ولوركا لم يكتب مسرحياته وشعره وأعماله كلها إلا نابعة من الشعب الأسباني وموجهة إليه.
الفن إذن، أي شكل من أشكال الفن، لا بد أن تكون له أرض ينبت منها ويقف عليها ولا بد أن يكون موجها أساسا إلى سكان هذه الأرض بالذات. كل ما في الأمر أن بعض هذه الأعمال مكتوب بلغات واسعة الانتشار أو ترجم إلى تلك اللغات، فانتشر في أنحاء العالم وأصبح كما يخطئ البعض ويسمونه «أدبا عالميا». في حين أن العالمية في الأدب خرافة، وأي كاتب يحاول أن يكتب أدبا يقرؤه العالم أجمع وينفعل به إنما هو كاتب أو فنان أفاق. ليفانتيني لا يمكن أن يكون صادقا مع نفسه أو مع الشعب الذي أنشأه وزوده بالقدرة والتعليم والمادة التي يكتب منها، لا يمكن أن يحدث لأن الفن والأدب مادتهما الإنسان، ولم يوجد إلى الآن ذلك الإنسان «العالمي» المعلق في أثير الكرة الأرضية غير المرتبط بوطن أو بشعب أو بزمان ومكان. هذه نقطة، والنقطة الثانية أن ليس هناك فن أسمى من فن (ونقصد بالفن هنا أن يكون العمل فعلا قد ارتفع إلى مستوى الفن الحقيقي) فن الكتاب الألمان ليس أروع من فن الكتاب الروس، تماما كما أن الشعب الألماني ليس أروع من الشعب الروسي، تماما كما لا يمكننا أن نقارن تماثيل الفراعنة بتماثيل هنري مور، أو نقارن بين الملوخية كغذاء شعبي يذوب فيه المصريون حبا وبين الكبيبة الشامي التي لا يستسيغها معظم المصريين ويلتهم الشوام أصابعهم وراءها استحسانا.
لا بد أن نسلم لكل شعب من شعوب الأرض - مهما بلغت درجة حضارته أو درجة تخلفه - تكوينه النفسي والروحي وذوقه وأحاسيسه المستمدة من تراثه ومناخه وتاريخه وتقاليده، لا بد أن نسلم أن الإنسان لم يوجد بمفرده أبدا أو بمطلقه، وإنما وجد دائما وسيظل موجودا كجزء من جماعة ذات كيان وإحساس وذوق خاص.
إذا سلمنا بهذا أدركنا على الفور أن اختلاف الفنون والآداب في العالم حقيقة يجب أن يكون مفروغا من أمرها، فبصرف النظر عن أن في اختلافها إثراء للتراث العالمي، فإن اتفاقها جميعا على موضوعات معينة وقواعد محددة وشكل واحد معناه أن شعوب الأرض جميعها لا خلاف بين تكوينها إطلاقا، ولا بين أذواقها وما تفضله وما تستسخفه. وهذا كما نعلم جميعا محض هراء.
الخطوة التالية
من هنا نستطيع أن نخطو خطوة أخرى ونقول إن الأنواع الفنية لا بد أن تختلف من شعب إلى آخر اختلاف الأشكال البشرية والملامح حتى من شعب إلى آخر، فلا يمكن أبدا لشكل المسرح الإغريقي الذي وضع أرسطو قواعده، لا بين أذواقها وما تفضله وما تستخفه، وهذا كما نعلم جميعا محض أن ينطبق انطباقا تاما على المسرح الصيني؛ لأننا حينئذ نقلب الفن من حقيقة نسبية نابعة من الشعب ومرتبطة ارتباطا عضويا بالإنسان ومزاجه وكيانه إلى حقيقة موضوعية كحقائق العلم لا تقبل الجدل.
والعلم وحقائقه مختلف اختلافا جذريا عن الفن؛ لأن العلم موضوعي والفن ذاتي، العلم قوانينه خالدة وثابتة وكوزموبوليتانية، والفن قواعده متغيرة ومختلفة من بلد إلى بلد ومن حضارة إلى حضارة، ومن تركيب نفسي إلى تركيب نفسي، والدليل أمامنا بسيط: إن القواعد التي وضعها أرسطو في كتابه الشعر للمسرح لا تنطبق على المسرح الياباني أو الصيني، فهل معنى هذا أن نخرج هذين المسرحين من دائرة الفنون المسرحية لأنهما لم يتبعا قواعد أرسطو، أو المعقول أكثر أن نقول إن أرسطو وضع قواعد معينة لمسرح إغريقي معين نشأ في شعب معين، يعبد آلهة معينة، وإن للمسرح الصيني قواعده الأخرى التي وضعها أناس غير أرسطو، ولكنهم ليسوا مشهورين شهرته؛ لأن أرسطو وجد الحضارة الأوروبية التي استعمرت العالم وفرضت تراثها ومقاييسها عليه، بينما لم يجد منشئو المسرح الصيني ومقننوه من يفرض أسماءهم وقوانينهم على العالم والتاريخ.
Bilinmeyen sayfa
من أجل هذا لا بد أن نفرق تفريقا حادا بين العلم العالمي من جهة، وبين الفن من جهة أخرى. فبقدر ما تكون قوانين العلم عامة وشاملة وتنطبق على أي زمان ومكان، فالفن لا تنبع قيمته إلا من محليته ومن البيئة التي أنتجته. بمعنى أوضح، العلم عالمي بطبعه، والفن محلي بطبعه.
ومسرحنا كما ذكرنا نقل مسطرة - كما يقولون - من المسرح الأوروبي، ورغم كل ما حدث فيه من تعديلات وتغييرات إلا أن أصله الأوروبي لا يزال هو السمة الواضحة التي لا يمكن أن تفلتها عين خبيرة، وكان لا بد لنا إن آجلا أم عاجلا أن نفطن إلى هذه الحقيقة ونحاول بمجهودنا نحن، وبقدر المعرفة التي زودتنا بها أوروبا، أن نكتشف مسرحنا المصري ونقدمه.
والحقيقة أن هذه المشكلة ليست مشكلة مسرحنا وحده، موسيقانا أيضا تعاني من نفس الحالة، فن العمارة عندنا لا يزال أجنبيا مائة في المائة، بعضه طلياني وبعضه فرنسي، والحديث منه أمريكي، كله ما عدا تلك الجهود الذي يبذلها المهندس حسن فتحي لخلق نوع من المعمار المصري الأصيل معتمدا على أحدث تكنيك معماري عالمي وعلى جذوره المصرية الأصيلة.
وليست العمارة وحدها. إننا إذا دققنا النظر في كافة مجالات حياتنا، من السينما إلى برامج الإذاعة، إلى الصحف وطريقة صدورها وكتابة أخبارها، إلى التعليم الجامعي، إلى الحياة الاجتماعية التي يحياها الناس - لوجدنا أن الكثير من هذه المجالات يمشي على نسق أوروبي مائة في المائة بلا أي محاولة منا لاكتشاف تقاليدنا نفسها وتطويرها.
خذ الزي مثلا: إن شعبنا لا يزال محتفظا بأزيائه القديمة الخاصة، في حين أن سكان المدن والمثقفين نفضوا يدهم نهائيا من الرداء الشعبي، واستبدلوا به البدلة والكرافتة والقميص، وكأنه بهذا اللباس يريد أن يظهر تحضره، وكأن منتهى التحضر أن تخلع ملابسك أنت التي ابتكرها أجدادك لتلائم أجواءنا ونفسيتنا وتقيد نفسك في بنطلون ضيق وياقة تخنقك وكرافتة لا فائدة منها بالمرة إلا لإظهار أنها واردة من أوروبا ومن أرجانس باريس، وبمثل ما غير ملابسه يريد أيضا أن يغير مخه وأفكاره وأسلوب حياته، بالاختصار يريد أن يفر من بلادنا وشعبنا إلى بلاد أرقى.
وأبادر وأقول إني لا أطالب بالتخلي عن هذا كله، فلا بد لنا كشعب أن نستخدم أحدث وأرقى وسائل الحضارة: أن نركب العربات والطائرات في تنقلنا، أن نستورد أدق أدوات النسيج، أن ندخل السينما، ونشاهد التليفزيون، كل المشكلة أننا لا نريد أن تدفعنا تلك الوسائل الصناعية الحديثة إلى نسيان كياننا النفسي الخاص بنا، إلى أن تنقلب الآية وبدلا من أن تخضع هذه الوسائل لإرادتنا الخاصة، نخضع نحن لتلك الوسائل وننساق وراءها، تماما كالذي يقرأ كتابا ممتعا لألدوس هكسلي، وبدلا من أن يهضم محتوياته ثم يستعملها في إثراء أفكاره وحياته الواقعة، ينسى هذا الكيان وينساق وراء المؤلف الإنجليزي ويدمن تقليده إلى درجة يصبح معها كالذي رقص على السلم، فلا هو قد أصبح إنجليزيا بتقليده لحياة الإنجليز، ولا هو بقي مصريا يحيا في شعب مصري.
إننا نريد إذن أن نفتح الباب على مصراعيه أمام الكتب والحضارة والثقافة الأوروبية، ولكن لا لنتبناها كلية حتى لننسى كياننا الخاص تماما، ولكن لنستوعبها وندرسها ونخرج منها بأفكار وثقافة يمكن أن نستعملها لكي ننمي نحن ثقافة شعبنا الخاصة وفنونه بمختلف أنواعها.
هذه النقطة التي تبدو من فرط بساطتها عديمة الأهمية، هي في نظري حجر الزاوية في مرحلة انتقالنا هذه، مرحلة بناء أنفسنا، وإهمال هذه النقطة يؤدي إلى أسوأ العواقب. ولنأخذ مثلا الفن التشكيلي في مصر: لماذا لا ننفعل الانفعال الذي يهز الجسد ويبلبل الروح إذا نظرنا إلى لوحة من لوحات فنانينا التشكيليين، قد نسعد ونصفق ونكتب مطالبين الجمهور «الجاهل» أن يأتي ليتفرج على هذه الأعمال، ولكن المشكلة أننا نفعل هذا بدون انفعال عميق نابع منا ومما توارثناه عن آبائنا وأجدادنا. ولهذا نجد فنون الرسم والتصوير والنحت لا تزال تدور داخل نطاق ضيق جدا، لا يفهمها أو يقدرها سوى الفنانين زملائهم وسوى بعض النقاد؛ ذلك لأن اللغة التي تستعمل في فنوننا التشكيلية، والألوان والموضوعات كلها، لا تنبع من بلادنا، ولا يفهمها أحد في بلادنا، إنما فقط يفهمها أولئك الذين يعرفون كيف يتكلمون ويرسمون تلك اللغة.
ولهذا أيضا نحن لا زلنا ننتظر الرسام الموهوب الذي يتعلم الرسم ويدرس كافة مدارسه الفنية في العالم كله، ثم ينسى ما درسه تماما ويبدأ بوحي من إيمانه ببلادنا وشعبنا، يختار من الواقع موضوعه ومادته الخام ويرسمه بلغة الناس؛ لغتنا نحن التي نفهمها والتي يتحدث هو بها، ويجعل ألوانها نابعة أيضا من طريقتنا في التلوين وقدرتنا على تذوق بعض الألوان دون البعض الآخر. عشرات المعارض زرتها، وكنت دائما أجد صورها المعروضة كئيبة، باردة، قليلة الضوء؛ لأنهم تعودوا على الرسم الأوروبي حيث الجو الكئيب هناك، وحيث لا توجد شمس متوهجة كشمسنا طول العام، حتى الألوان المستخدمة كلها من مشتقات الرصاص أو غيره من المواد التي لا توجد إلا في أوروبا، ولهذا فهي دائما متقاربة كئيبة لا تثير في النفس سوى الحزن والشجن.
في العمارة، في النحت، في الرسم، في الموسيقى، في السينما، في أثاث المنازل، في عاداتنا الاجتماعية، بدأنا فعلا، بل قطعنا شوطا طويلا ونحن لا نزال عالة على ما تقدمه أوروبا، حتى الموبيليا التي يصنعها نجارو دمياط، يصنعونها طبقا لكتالوجات تنشرها المجلات المختصة في أوروبا وأمريكا. وهذه المواضيع كلها تثير الكثير من الجدل عند بعض المهتمين بمسائلنا العامة. غير أن الجدل يتبلور في النهاية ليحدد بوضوح اتجاهين؛ الاتجاه الأول: أن ننقل كل ما نستطيع نقله عن أوروبا، وبعد أن نستوعبه تماما نبدأ نحن نصنع احتياجاتنا الخاصة، وهي نظرية تشبه تماما ذلك الذي يقول للكاتب الشاب الناشئ عليك أولا أن تقرأ كل الآداب العالمية وتستوعبها، ثم بعد هذا وليس قبله بالمرة تجلس لتكتب، في حين أن الطريقة الوحيدة للكتابة هي أن تقرأ وتكتب في نفس الوقت، وتتعلم وتعلم، وتنتج فنك الخاص وأنت تستعرض فن سابقيك ومعاصريك في كل أنحاء الأرض، تكتب لأنك عن طريق الكتابة، وليس عن أي طريق آخر، تستطيع أن تجد ذاتك وطريقتك وتكتشف مواضيعك، وتقرأ لا لكي تقتبس، أو تحاكي، وإنما لكي تتثقف الثقافة العامة الواجبة التي تمنحك القدرة على رؤية واقعك أكثر واكتشاف ما يصلح فيه ليكون لنا.
Bilinmeyen sayfa
أما الاتجاه الثاني: فهو متطرف أيضا، إذ ينادي بأن استيعابنا للثقافة الأوروبية سيؤثر على تكويننا النفسي ويطبعه بطابع أجنبي، بحيث إننا حين نكتب سنجد أنفسنا مضطرين رغما عنا إلى المضي في نفس الطريق الذي مضى فيه الأوروبيون. وهو أيضا اتجاه خاطئ، ومعناه أن نغلق على أنفسنا الأبواب ونحاول أن نبدأ من البداية حتى ننتج الفن المصري الخالص المنقى من كل شائبة أجنبية.
وكلا الاتجاهين خاطئ، فنسيان أنفسنا يماثل تماما الوعي بأنفسنا وعيا مبالغا فيه، بحيث يجعلنا نبتعد عن كل ما أنتجه الآخرون باعتبار أنه ليس من إنتاجنا ولا يمت بصلة إلينا. وهذا الرأي الأخير يثير مشكلة كبرى أيضا لا بد من التعرض لها هنا، فأي شعب في الدنيا لا يمكن أن ينغلق على نفسه تماما وينعزل عن المجتمعات الأخرى. إن الشعوب كالأفراد ليست كتلا حديدية صماء، منفصلة لا يمكن أن يحدث بينها وبين أي كتلة أخرى مماثلة اتصال أو تجاوب، بل إنه حتى الكتل توجد لديها خاصية انجذابها لبعضها البعض. الشعوب كالأفراد في حالة تفاعل مستمر لا يتوقف أبدا، تؤثر في غيرها وتتأثر، وتلتقط من بين عادات هذا الشعب أو ذاك ما يتمشى مع ذوقها ووجدانها. إنها مجموعات هائلة الضخامة من البشر تحيا فوق أرض واحدة، تتزاور وتتفاعل وتتبادل ألوان المعرفة والثقافة، ومن المستحيل أن تتوقف عجلة التبادل أو التفاعل تلك.
لا يمكن إذن أن نعزل أنفسنا عن التيارات المسرحية في العالم، وعن أدب المسرح وتراثه، وأيضا لا يمكن أن يستمر هذا التفاعل من جانب واحد بحيث نظل نحن الآخرين المقلدين والعائشين عالة على شعوب سبقتنا في الحضارة.
ولا يبقى حينئذ سوى حل وحيد، هو أن نفتح أبوابنا على آخرها أمام الثقافات الأجنبية، وندرسها ونتعلمها، ولكننا لا نؤجل ما نستطيع أن نعمله نحن إلى أن تتم عملية الاستيعاب كلها، وإنما علينا أن ننفتح لنطلع على ثقافات غيرنا وفنونه ثم ننغلق وننسى هذه الثقافات تماما وتلك الفنون حين نريد أن نكتب لأنفسنا.
بهذه الطريقة وحدها نضمن مسايرتنا للعالم في أقصى وأحدث درجات تحرره، وفي ذات الوقت نضمن عدم إلغاء شخصيتنا الخاصة واليأس التام من فننا وثقافتنا. وأغرب شيء أن هذه الاتجاهات المتطرفة الخاطئة لا توجد في الحقل الثقافي الفني وحده، ولكنها موجودة أيضا في حقل آخر بعيد عن هذا كله، حقل الصناعة مثلا: إن خطة التصنيع تسير على نفس مبدأ الاعتماد الكامل على المصانع والمعدات الأوروبية، ومع أننا دائما نسمع أن هذا الاعتماد مؤقت جدا، بحيث إننا بدأنا منذ الآن في إجادة بعض مراحل التصنيع الأولى تمهيدا لتصنيع كل معداتنا بأنفسنا في المستقبل، مع هذا فإن أحدا لم يسأل نفسه: وحتى بفرض أننا صنعنا الآلات والمعدات هنا، فماذا تكون النتيجة الحتمية؟ النتيجة أننا سنظل أيضا تلامذة لأوروبا الصناعية، وستظل أوروبا تسبقنا بمراحل عديدة، ولن نتمكن يوما من الأيام أن نسبقها؛ إذ هي قد بدأت قبلنا بعشرات ومئات السنين، وأخضعت شكل معداتها وآلاتها لاحتياجاته الاجتماعية والاقتصادية والصناعية، ونحن نأخذ عنهم الصناعة كما ابتكروها هم وليس كما نحتاجها نحن، وسنظل نأخذها كما ابتكروها. أن ننتج «تراكتور» مصريا شيء جميل، ولكن سنظل بضع سنين إلى أن نستطيع إنتاجه، حيث تكون صناعة التراكتورات في أوروبا قد تطورت بأسرع مما نتصور، وأصبحت تكاليف إنتاج التراكتور هناك أقل بعشرات المرات من إنتاجنا هنا، وصناعته أكثر إتقانا. نفس ما يحدث في المسرح، فنحن مثلا إذا بدأنا إنتاج مسرح اللامعقول الآن على نسق ما يحدث في فرنسا، فإنه بعد عشر سنوات يكون هذا اللون من المسرح قد تطور إلى درجة غير معقولة، بينما نحن كالتلامذة لا نزال في مرحلة القراءة الرشيدة.
لهذا كان من رأي الكثيرين، فوق استيراد المصانع الأوروبية وإقامتها، أن نعنى في نفس الوقت بصناعتنا المحلية التي ننفرد بها ونطورها ونضخم إنتاجها إلى أن تصبح سلعة خاصة بنا تقف على أقدامها في السوق العالمي. لو أننا اتجهنا لتصنيع القطن وحشدنا له كل طاقتنا الصناعية، لو أننا استطعنا أن نحيل إنتاج السجاجيد والأكلمة إلى صناعة ضخمة، لو استطعنا أن نبتكر في صناعة «الحصر» والأسبتة وكل تلك الصناعات التي نتميز بها وننفرد، حينئذ كنا نستطيع أن نتحدث عن صناعة مصرية خالصة نابعة منا ومن ظروفنا ووحيدة من نوعها في العالم وفريدة.
التفاعل بيننا وبين أوروبا إذن تفاعل واجب ومحتم، وليس بيننا وبينها فقط، بل وبين آسيا وأفريقيا وأمريكا وبقية دول العالم، ولكن المشكلة الخطيرة هي أنه يجب أن يكون تفاعلا، أي يعتمد على الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر؛ لأن الأخذ فقط والتأثر فقط لا يقودان في النهاية إلا لانعدام شخصيتنا.
لا بد أن تكون لنا إذن شخصيتنا المستقلة في الأدب والفن والعلم وفي كل مجال، شخصية تنمو على طريقين أساسيين؛ أولا: تعميق جذورها في تراثنا وتاريخنا، وثانيا: فتح جميع النوافذ الحضارية عليها. إننا نعود ونؤكد ونقول إنه يجب أن تكون لنا شخصيتنا المستقلة، فإذا لم تكن موجودة فعلينا أن نوجدها.
تلك هي النقطة الأساسية التي دفعتني للكتابة عن المسرح باعتبار أننا لم نجد بعد شخصيتنا المستقلة في المسرح (بصرف النظر عن غياب تلك الشخصية في الموسيقى أو الرسم أو غيرهما، فحديثنا ينصب فقط على المسرح)، ولقد ذكرنا أن هناك مسرحا حاضرا وموجودا، وكان موجودا من زمن طويل، ولكن الأمر الذي يحتمل كثيرا من الشك هو أن يكون ذلك المسرح ممثلا لشخصيتنا المسرحية. وفي رأيي الشخصي أنه لا يمثلها، وأنها لم تخلق بعد، ودون خلقها وزرعها وإنباتها مجهود ضخم متواصل لا بد أن يحصل عبئه كل مهتم بشئون المسرح وكل صديق له.
ورغم هذا فهناك أشياء ستساعدنا كثيرا في مهمتنا، فقط علينا أن ننسى كل مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن أرسطو وشيكسبير وموليير ونقاد المسرح الكبار، وبعين كاشفة وبأفق مفتوح نبحث عن الأشكال المسرحية في حياتنا، إذ تلك هي البذور أو اللبنات الأولى أو مادتنا الخام التي منها سنصوغ الجنين ونضع الأساس.
Bilinmeyen sayfa
البذور المسرحية في حياتنا
سبق أن ناقشنا حالات «التمسرح» التي نزاولها كشعب والتي كانت عرضة لتغييرات وتبديلات تبعا لتغير نظام الحكم والعقائد في تاريخنا منذ الفراعنة إلى الآن. ولكننا هنا سنناقش الشكل المسرحي الذي تبلور لدى الغالبية العظمى من جماهير شعبنا في الريف والمدن، وهو السامر. والسامر حفل مسرحي يقام في المناسبات الخاصة، سواء أكانت أفراحا أم موالد، ولكن الملاحظ أن عدد المحترفين فيه قليل جدا، لا يتعدى فرقة الموسيقى وراقصة الفرقة والمغني، أما الممثلون فهم في العادة أشباه محترفين، إذ هم أصحاب حرف يمضون نهارهم في عملهم اليومي المعتاد، حتى إذا جاءت الليلة وجاءت السهرة انقلب هؤلاء إلى فنانين باستطاعتهم إمتاع الألوف وإضحاكها.
والرواية في السامر أو كما يسمونها «الفصل» ليست رواية واحدة، وإنما هي عدة «فصولات» بعضها يعمد إلى الإضحاك وبعضها الآخر يعمد إلى إزجاء الحكم والمواعظ. وهذا النوع الأخير لا يهمنا كثيرا لانخفاض قيمته الفنية؛ إذ إن فنية هذا المسرح على حقيقته لا تتجلى إلا في الروايات المضحكة. هذه الروايات ليس لها نصوص مكتوبة، وإنما لها نصوص أو مواضيع متوارثة، وقبل بداية كل فصل يتفق الممثلون في همسات سريعة على الخطة العامة أو يعدلون فيها. هي ليست بالضبط «الكوميدياي لارتي»؛ لأن الأدوار في هذا النوع توزع توزيعا عادلا بين الممثلين، أما في كوميدياتنا نحن، فالأدوار غير موزعة؛ إذ إن هناك دورا رئيسيا واحدا هو دور «فرفور» أو في روايات وبلاد أخرى «زرزور» هو المحور الرئيسي الذي تدور حوله الرواية، وبمواقفه وآرائه وحركاته يضحك الناس، بحيث يتضح لنا في النهاية أن الأدوار الأخرى ليست سوى مناسبات «تفرش» لفرفور جمل حواره أو سخريته وليست أدوارا تمثيلية بالمعنى المفهوم.
وفرفور أو زرزور مثال صادق للبطل الروائي المصري، الحدق، الذكي، الساخر، الحاوي داخل نفسه كل قدرة علي الزيبق وكل مواهب حمزة البهلوان.
وفرفور هذا أو زرزور ليس ممثلا بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة ممثل؛ لأنه في حقيقته أيضا وفي حياته العادية فرفور. إنه ظاهرة اجتماعية موجودة في كل زمان ومكان، تستطيع إذا ما فحصت ألفا أو ألفين أن تجده، ذلك الإنسان الساخر بسليقته وبطبعه، ذلك الذي لا يتصيد الانفعال ولا يدعي ما ليس فيه. إنه مضحك ومهرج وحكيم وفيلسوف في نفس الوقت. وعلى أمثال هذا النوع من الناس كان يعتمد التمثيل، زمان، قبل أن يعي الناس بحقيقة التمثيل وأن اسمه مسرح، وحقيقة الممثلين، زمان حين كان الجمهور يدفع بفرافيره فقط إلى الحلبة ويلتهب سعادة وحماسا وضحكا لكل ما يقولون؛ فالفرافير دائما لهم وجهة نظر جديدة وأصيلة وغريبة؛ ولهذا كان لا يجرؤ على الوقوف وسط الجموع المحتشدة إلا فرفور حقيقي يتحدث ويضحك ويهرج بالسليقة، ولا يفتعل؛ إذ هو في حياته أيضا فرفور، والناس تتداول أخباره الخاصة وعلاقاته بزوجته وأولاده وجيرانه وكأنها نوادر جحا. زمان قبل أن يصبح التمثيل «علما» يدرس في المعاهد، و«فنا» في الكتب، يستطيع كل من شاء أن يطلع عليه وينجح في القبول. زمان قبل أن تصبح المسارح بتذاكر وديكورات وحجز وتأليف.
وهؤلاء الفرافير كانوا لا يستطيعون أن يمثلوا إلا أدوار الفرافير؛ لأن التمثيل عندهم وعند الحقيقة ليس حرفة باستطاعة أي ممثل أن يتقمص أي شخصية تخطر للمخرج على بال؛ لأن التمثيل ليس مجرد «فن» التمثيل كما أن الكتابة ليست مجرد «فن» الكتابة؛ إذ إن الكاتب لا يستطيع أن يكتب في أي موضوع وإلا تحولت كتابته إلى نوع من الصنعة الحرفية، وممثل دور فرفور لا يمثل لأنه يمثل بوجهة نظر وبالذات بوجهة نظره الخاصة. إنه مبشر بوجهة نظره الخاصة هذه أكثر منه ممثلا، وهي التي تضحك.
ولكنه أبدا ليس نبيا ولا رسولا، إنه فقط فرفور، يبهر الناس وهو يضحكهم، ثم يضحك عليهم حين يبهرون، يأتيه الناس متسخي الأرواح متعبين، وهو الذي يتولى بقدرة خارقة غسل أرواحهم وتطهيرها بلسانه وبذراعيه وبجسده وبكل الطاقة المحشودة داخله، ينطق فيحسون جميعا أنه يتكلم باسمهم، وأنه ليس صوته وحده ولكن صوتهم جميعا إذا أرادوا التحدث، إنه وحده «كورس» كالكورس الإغريقي تمثل في فرد ليؤدي وجهة نظر الجماعة الساخرة.
قلت إن فرفور هذا ليس نبيا ولا فيلسوفا خاصا، ولكنه مجرد تلميذ من تلامذة الفرفورية الطبيعية التي ليست مذهبا ولا تمت إلى المذاهب بصلة. وتلامذتها لا يدخلونها بإرادتهم أو باختيارهم. إنها هي التي تختار تلاميذها ليتعلموها إلى آخر العمر. إن الفرافير هم ساعات الشعب المضبوطة التي عليها أن تضبط حياتهم، وليسوا أفرادا ممتازين بقدر ما هم ظواهر اجتماعية، وجدوا منذ أن وجد الإنسان، وسيظلون ما ظل المجتمع. إنها الجماعة البشرية حين تنتج من بين آلاف أفرادها فردا وظيفته الأولى وعمله أن يرى حياتها ويراقبها ويتذوقها، إذ الآخرون مشغولون تماما بمزاولة هذه الحياة، لتستطيع الجماعة بعدئذ أن تلتئم وتقضي كل حين ليلة تسمع فيها رأي هذا الذواقة الجريء الذكي الوهاج الصريح صراحة قد تخدش حياء المستحين فيهم، ولسانه يشملهم جميعا، ومن أكبر كبير إلى أصغر صغير، ولا تغضب الجماعة أبدا منه ومن رأيه وإنما تتقبله، ومن فرفور فقط على استعداد لتقبله، وتسلم به، بل وفي معظم الأحيان يعلمها كيف تكون مثله فرافير على حياتها الخاصة وأسرارها التي لا يعرفها سواها، وبهذا يكون فرفور قد حقق هدفه الأعظم بأن ترك في كل منا جزءا فرفوريا يراقب ويتذوق ويضيق ويسخر، وعلى أساس هذا الجزء الساخر، وليس على أساس ضميرنا الجاد، نمتنع عن أشياء وتتفتح آفاقنا على أوضاع ونقبل على الحياة مرة أخرى ونحن أكثر وعيا بأخطائنا وأكثر تواضعا وأكثر حبا للآخرين، فلنسمه إذن الضمير الجماعي الساخر، فلنسمه قرن استشعاره، فلنسم الفرفورية دينا صلاته الضحك، ولكننا أبدا لا يمكن أن نحيطها كلها باسم؛ إذ فاعليتها أكبر وأعظم من أي اسم. تلك هي الشخصية الرئيسية التي يقام حولها السامر من قديم الزمان في بلادنا، ومن ملامحها وملامح السامر نستطيع أن نتعرف على نقط هامة في حياتنا المسرحية. ولكن، هل هذه هي كل الملامح والنقاط؟
ذلك هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه.
الفرفورية إذن علامة واضحة مميزة من علامات التمسرح على هيئة سامر، ولكونها كذلك فهي سمة أصيلة من سمات الشخصية المسرحية المصرية. ولقد بلغت هذه السمة من القوة حد أنها فرضت نفسها فرضا على كافة الأشكال المسرحية التي وفدت إلى مصر وترعرعت في المدن، مكونة مسارح عماد الدين وروض الفرج، القائمة على الروايات المترجمة والمقتبسة والمعربة، وكانت هي السبب مثلا في خلق مسرح علي الكسار الكوميدي، إذ إن علي الكسار لم يكن يمثل طول حياته إلا دور فرفور غير تلقائي، فرفور متعمد، لا يظهر في حلقة السامر وإنما في مكان محدد، دخوله بثمن، والناس يدفعون الثمن ويؤمونه ليزاولوا حالة التمسرح.
Bilinmeyen sayfa
كانت الروايات التي يقدمها مسرح علي الكسار مزيجا من الاقتباس غير المتقن والتأليف الركيك ومحاولات ساذجة لإحياء تراث ألف ليلة وليلة ومعالجة بعض قصصه. ولكن النص على أية حال لم يكن مهما أبدا في روايات الكسار؛ إذ كان هو كفرفور أهم ما في رواياته، وكان الكسار في مسرحه هذا يزاول الفرفرورية نقلا عن تراثها الطويل الخالد في وجدان الشعب ولياليه وحواريه. وكثيرون ممن شاهدوا روايات الكسار، خاصة في فترة ظهوره الأولى، لا بد ما زالوا يذكرون كيف كان يوقف أحيانا أحداث مسرحيته ليلقي بنكتة أو ليدخل «قافية» مع أحد المتفرجين، وكيف ينتهز فرصة كلمة تفلت من لسان متفرج طويل اللسان لينسى الكسار الرواية كلية وينهال بكلماته اللاذعة على المتفرج سيئ الحظ، بل كان أحيانا يضطر، حين لا يتطوع أحد المتفرجين ببدء مشاكسته إلى الاتفاق مع بعض أصدقائه أو معارفه للقيام بأدوار «المتفرجين» هؤلاء.
الفرق بين الفرفورية والأراجوزية
في الناحية المقابلة لفرفور، أو على وجه أدق، على السكة الفنية التالية المؤدية إلى ملامح الكوميديا المصرية نجد «الأراجوز». وإذا كان فرفور مزيجا من السخرية والفلسفة والشيطنة، وسوق «العبط على الهبالة» مقرونة بالذكاء والقدرة على إضحاك الآخرين والضحك عليهم في آن واحد، فالأراجوز هو تطوير ال
Staire
الكائن في فرفور، تطوير يدفع به إلى أن يصبح الناقد الحاد اللاذع ولا شيء سواه.
والأراجوز قطعا لم تخترعه أو تبتكره العقلية المصرية، ومن المحتمل جدا أن يكون قد انتقل لمصر أثناء فترة التفاعل الكبرى بين أرجاء الإمبراطورية الإسلامية في عصرها الذهبي.
ولكن الحاسة الفولكلورية المصرية استطاعت أن تجد في هذا الفن ضالة منشودة وتمصره تمصيرا تكاد تحس معه أنه من هنا نشأ وإلى بقية البلاد انتشر، و«تشعبه» حتى لنحس به نابعا من مكنون الشعب وأعماقه معبرا عن أدق خلجاته ومواطن ألمه الدفين، تلك التي لا يعرفها غير الشعب ذاته. وفي الأراجوز أيضا يقوم نفس الشخص بتأليف المشهد وإدارة حواره وتمثيله وتحريك النماذج، وفن الأراجوز لا يعتمد على الروايات كما يحدث في السامر، إنه فقط يقدم اسكتشات مسرحية تؤلف كلها بحيث تعطي الأراجوز أكبر قدر من الفرصة لينال فيها التناقض الاجتماعي أو الإنساني بعصاته، فالأراجوز لا يستعمل كفرفور لسانه، إنه في مواطن اللسان يستعمل العصا، وكأنما ليقنعك أن هناك موقفا ومشاكل في الحياة لا تحلها قوة اللسان أو القوة العضلية، وإنما لا بد لحسمها وردعها من استعمال قوة الجماد، القوة الغاشمة.
وفرق كبير بين عصاة فرفور التي تصدر الصوت ولا تحدث ألما وبين عصاة الأراجوز التي كلما غورت في الرءوس وطحنتها تعالت ضحكات الناس وضجات استحسانهم؛ ففرفور مثال للفنان الناعم اللاذع في خبث، المؤلم بغير جروح، الجارح بلا دماء، هو فقط بكلامه، بلسانه، بوسيلته الكبرى لإيصال الحقيقة يريد أن يحرك الضمير الجماعي الساخر لدى الناس، بينما الأراجوز أكثر مباشرة وحدة وسرعة، يريد إحداث الأثر، عيني عينك، وعلى مشهد ومرأى الحاضرين، بل يريد هذه الطريقة المباشرة الواضحة أن تنتقل إلى صوته، فصوت الأراجوز لم يختر هكذا عبثا، ليس أبدا لاختيار نوع مشوه من الأصوات أو للسخرية عن طريق النغمة، ولكن الهدف إيجاد نوع متميز من الصوت، ماركة مسجلة تغنيك عن التساؤل وتبدو لك من مجرد سماعها وكأنها الصدى الساخر لصوت البشر، مثلك حين تريد إغاظة شخص فتقلد صوته بطريقة مضحكة، نوع من الصوت يحمل السخرية منه فيه، مقلقا للأعصاب رفيعا حادا وكأنما هو مسنون أو مسقي بالزيت كالكرابيج ليلدغ ويجرح. وهو أخنق قليلا أيضا، ربما لتدل الخناقة فيه على خناقة الحكمة، وتريد أنه لا يقوم بدوره المؤذي حبا في الأذى أو الجرح أو الإحراج، لكن الحكمة غير خافية، حكمة واضحة وضوح الشمس، وضوح العداء الذي كان يكنه رجل الشارع في مصر لرجل البوليس، أو للحماة أو للزوجة القبيحة، وليس من قبيل الصدفة أن هذه كلها بعض النماذج لضحايا عصاة الأراجوز، النماذج التي يختارها ليصب عليها سخريته ونقمته. ولم يكن صدفة أيضا أن كان الأراجوز هو الأب الشرعي لفن المونولوج في بلادنا، فقد جاء المونولوج بعد عصور التحضر على الطريقة الأوروبية ليعبر بالضبط عما كان يعبر عنه الأراجوز، إنما بلغة أكثر «أدبا» وبأسلوب يحل فيه النصح المباشر مكان اللدغ المباشر وتحل فيه الموعظة الحسنة محل العلقة.
وعلى الناحية المقابلة الأخرى للأراجوز، نجد فنا آخر هو فن خيال الظل، وهنا نجد أن الفنان المصري الشعبي قد نحا بهذا الفن وجهة أخرى غير الكوميديا والسخرية، فن خيال الظل هو فن «الفانتازيا» الشعبية، رواية أو حدوتة تقوم على افتراض فانتازيا مثل أن يبلع الحوت إنسانا ويظل حيا داخله أو تظهر للصياد عروس البحر ويعشقها، وغالبا ما تنتهي هذه الفانتازيا بمأساة. هنا يطلق الفنان الشعبي لخياله العنان متناولا مادة الحدوتة الشعبية محيلا إياها إلى دراما ذات فصول تساعد طريقة العرض على تجسيدها وعلى إكسابها - إلى حد ما - شكل الواقع. وباستطاعتنا أن نقول من هذه الزاوية إنه إذا كان الأراجوز يعتمد على التناول المباشر للحياة، والفرفورية وروايات السامر تعتمد على التناول الفني للحياة الواقعة، فخيال الظل يعتمد على التناول الأسطوري لتلك الحياة. والأسطورة في أدبنا الشعبي مرتبطة، ولا ندري لم، ارتباطا وثيقا بالفاجعة
Tragedy ، ولأننا فيما سبق قد حاولنا أن نلخص مفهومنا المصري للشخصية الكوميدية في فرفور والأراجوز، فأعتقد أنه قد آن الأوان لنتناول مفهومنا للشخصية التراجيدية والتراجيدية نفسها.
Bilinmeyen sayfa
الفاجعة المصرية
لا شيء يؤكد اختلاف ملامحنا المسرحية المصرية اختلافا جذريا عن الملامح الإغريقية ومن ثم الأوروبية مثل مفهومنا كشعب للمأساة أو الفاجعة. المأساة الإغريقية لون من ألوان المسرح، أراد به الإغريق أن يصوروا بطولة الإنسان وهو يقاوم أو يناضل قدره المحتوم، إنها دائما تبدأ بافتراض أن البطل كان ضحية لعنة أو مقدر إلهي كتب عليه فيه أن يقتل أباه مثلا ويتزوج أمه، هذه نهاية حتمية لا بد أن ينتهي إليها البطل، والمؤلف بعد هذا حر في معالجة ما يحدث قبل هذه النتيجة وما يحدث بعدها، فالمهم أن النتيجة واقعة مهما حاول بطلها الهرب أو الفكاك أو اجتمع أهل الأرض جميعا ليحولوا بينه وبين مصيره المحتوم.
البطل هنا إذن ضحية مغلوبة على أمرها، ضحية بريئة لا ذنب لها أو ذنبها الحقيقي أنها إنسان غير قادر على خط مصيره، وليست إلها قادرا على التحكم في وجوده ومنتهاه، البطل التراجيدي الإغريقي إذن ليس هو البطل الحقيقي للتراجيديا، وإنما البطل هو الذي يقول كلمته سواء كانت خطأ أو صوابا، عبثا أو سخافة، لتستحيل إلى حكم نافذ غير قابل لأي تبديل أو تحريف. وكان هم المؤلفين الإغريق أن يحاولوا قدر طاقتهم أن يجسدوا بطولة الإنسان الخارقة وهو يكافح ويحيا دون أن يدري مصيره المحتوم. كان همهم أن يحظى هذا البطل، هذا الإنسان، بعطف الناس، وحتى عطف الآلهة أو القدر الشرير وإيضاح أن ما يرتكبه الإنسان من شر مسألة لا ذنب له فيها وإنما هو مسوق إليها بفعل قوى خارجة عنه وعن إرادته.
أما بطلنا التراجيدي هنا في مصر، أو البلاد العربية، أو الشرق عامة، فهو مختلف. إنه ليس ضحية لقدر مجرم أو عابث، البطل هنا بطل حقيقي، ليس للأعمال البطولية التي يقوم بها، ولكن لأنه هو الذي يملك مصيره في يده ويتولى تحديد خط حياته، بمعنى أنه هو الذي يتولى الاختيار ويتحدد مصيره نتيجة محتمة لهذا الاختيار. مأساة الإنسان هنا هي مأساة اختياره، هي مأساة القابض على مصيره المالك زمام أمره. إنه هنا ليس ضحية أحد أو قوة خارجة عنه، وإنما هو ضحية نفسه أو ضحية قدرته على الاختيار وإرادته: هو الطماح مثلا الذي يبدأ خط مصيره برغبة عارمة في الاستحواذ على ما لدى الغير إلى أن تؤدي به هذه الرغبة إلى التورط في دوائر مأساوية أوسع وأوسع حتى ينتهي إلى ارتكاب الجريمة الكبرى، القتل أو انتهاك الحرمة أو التضحية بأعز الناس لديه على مذبح شهوته. وحينئذ يقام عليه الحد وينال الجزاء العادل وينتهي مقتولا أو واقعا في نفس الحفرة التي حفرها لأخيه أو ذاهبا إلى النار في يوم القيامة.
وجهتا نظر إلى الحياة الإنسانية مختلفتان تماما؛ فعند الإغريق الإنسان ضحية ونضاله نضال ضحية قد خططت لها الآلهة ورسمت طريق الحياة والمصير، الإنسان بإرادته وعقله وشخصيته ليس سوى أداة تتحقق بها إرادة سكان الأوليمب أو سكان السماء. وعندنا هنا الإنسان هو الذي يصنع حياته ومصيره، ولهذا فهو مسئول عن إجادة هذا الصنع أو تشويهه، مسئولية يحاسب عليها حسابا عسيرا وينال في النهاية ما يستحق من ثواب أو عقاب. عندنا هنا الإنسان حر أن يختار حرية لا حد لها، وفي الوقت نفسه هو مسئول عن ذلك الاختيار مسئولية لا حد لها، بنفس القدر من الحرية تكون المسئولية. أما لدى الإغريق فليست للإنسان ذرة حرية، وبالتالي فهو ليس مسئولا، وأديب ليس مسئولا أبدا أنه قتل أباه وتزوج أمه، فهي جريمة فرضت عليه فرضا ولم يكن في المأساة كلها سوى دمية تحركها أصابع القدر، ومن قال إن الدمية مسئولة؟!
ومن العجيب أن الشرق بعد هذا اتهم بالتواكل والاعتماد على «الله» في كل كبيرة وصغيرة من أموره، أي الاعتماد على القوى الخارجة عنه، وهي إلى حد ما تهمة صحيحة، ولكن ليس سببها أبدا نوعا من التبني لوجهة النظر الإغريقية أو الأوروبية. إن الإنسان الشرقي «يستعين» فقط بهذه القوى الخارجة عنه في تحقيق ما يريده هو وما اختاره بإرادته المطلقة الحرة. إنه هنا ليس «قدريا» يؤمن أن مصيره قد حدد قبل ولادته، ولكنه «مجتهد» فقط، وحر، ولإحساسه بضخامة المسئولية الملقاة على عاتقه، وأية مسئولية أضخم على الإنسان من مسئوليته عن نفسه ومصيره، ثقل الإحساس بتلك المسئولية هو الذي يدفعه للاستعانة عليها بالله وبالناس وبكل ما تستطيع أن تصل إليه يده. إن حياتنا حافلة بكلمات مثل «المكتوب» و«المكتوب على الجبين» و«القدر»، وكل هذه الشعارات التي كان من الطبيعي والمعقول أن تكون هي شعارات الحياة لدى الإغريق والأوروبيين، ولكننا هنا نتحدث عن المفهوم المأساوي أو التراجيدي أي المفهوم الفني، وهناك فارق كبير بين الحياة الواقعة والمفهوم الفني المنعكس منها، فلعل في حياتنا تسليما مطلقا بالقضاء والقدر والنهايات المحتومة، ولهذا جاء فنانونا وأبطالنا التراجيديون يحملون مفهومات مختلفة تماما، ولعل الحياة لدى الإغريق ومن بعدهم الأوروبيين حافلة بشعارات وإحساس حرية المصير والفاعلية المطلقة للإرادة الإنسانية وقدرتها، ولهذا جاءت أساطيرهم ومآسيهم بمفهوم يقلل كثيرا من حدة ذلك الإحساس ويتعمد إظهار الإنسان بمظهر العاجز أمام القوى التي حددت له المنتهى والمصير والتي لا يملك أمام إرادتها إلا الخضوع والعجز والتسليم.
لعل هذا، ولكن المآسي الإغريقية على أية حال لا تستطيع هزمنا من الأعماق أو استدرار دموعنا لإحساسنا أن أعماقنا ترفضها وترفض أصلا أن تصدقها أو تنفعل بها، بل هي لا تبعث عندنا إلا على الضحك؛ فنحن لا نستطيع أن نعقل أو نصدق أن الإنسان منا غير مسئول عن نفسه وعن مصيره من أكثر من سبعة آلاف عام، ونحن نؤمن ونبشر بهذه الحقائق المبدئية من حقائق الوجود الإنساني، ولا تزال الصور والرسوم على جدران مقابر الأقصر تقص قصة الموت وما يحدث للإنسان بعده، قصة الميزان الذي توزن به أعماله والصراط المستقيم الذي عليه أن يسير فوقه، وكل هذا الاختبار وتقدير مدى ما قدمه في حياته من حسنات أو سيئات ليتحدد مصيره بناء على النتيجة. ولكننا نلمح أيضا أن كلمات مثل «عبث الأقدار» و«سحت الأقدار» وكل حديث عن القدر، كلها في أغلب ظني مستوردة، مفهومات معربة عن الحضارة الإغريقية بالذات، سواء بالاحتكاك على المستوى الشعبي أو بالكتب التي قام العرب بترجمتها عن الإغريق.
إن النقاش المشهور في تاريخ العرب حول هل الإنسان مسير أم مخير، ليس وليد الحضارة العربية أبدا، ولكنه نقاش كالنقاش حول مسرح اللامعقول في حركتنا الأدبية الآن، و«عبث» الوجود، نقاش منقول ضمن ما نقلناه أو ننقله عن الحضارة الإغريقية أو الأوروبية. إنها قضية أثيرت ونشأت وأصبح لها مدارس واتجاهات، ليس نتيجة لانبثاقها عن التفكير العربي المحض، ولكن نتيجة لحركة الترجمة الضخمة التي قام بها العرب للتراث الإغريقي واستشراء علوم المنطق والجدل بعد ترجمة أرسطو والسوفسطائيين ونشوء قضية جدلية في شكلها مثل قضية هل الإنسان مخير أو مسير، قدرية في مضمونها لأن الإغريق وحدهم هم الذين خلقوا وابتكروا وتبنوا فكرة أن المصير الإنساني ليس من صنع الإنسان ولكنه من صنع آلهة ظالمة أحيانا، وعادلة في بعض الأحيان.
بمعنى آخر إن المسرح المأساوي عندنا كان لا يمكن أن ينشأ على نفس النمط الذي نشأ عليه المسرح المأساوي الإغريقي، فمفهوم المأساة مختلف تماما. المأساة هنا تنشأ خارج الإنسان والإرادة الإنسانية، وتؤدي إلى تغييرات مأساوية فيه وداخله، بينما المأساة عندنا تنشأ من داخل الإنسان نفسه، من سوء اختياره لحياته أو لصفاته أو لمثله، وتنتهي وقد فلت الزمام من يده وأصبح لهذه المأساة التي نشأت من داخل الإنسان نتائج خارج هذا الإنسان تتصل بالناس من حوله أو بمجتمعه.
المأساة هنا ميتافيزيقية محضة، والمأساة هنا اجتماعية محضة، المأساة هناك تناقش العلاقة بين الإنسان وخالقه أو المتحكم في مصيره، والمأساة هنا تناقش العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وجناية الإنسان على الإنسان وليست جناية القدر على الإنسان.
Bilinmeyen sayfa
ولهذا فالمأساة هناك تدور خارج نطاق العقل البشري والتفكير والذكاء والإرادة الإنسانية؛ لأنها واقعة مهما كان عقل الضحية أو تفكيره أو ذكاؤه أو إرادته، بينما المأساة هنا تعصف بالعقل والعاطفة معا وبالإرادة وبالذكاء، ولا بد أن يتغير وقعها ونتائجها من إنسان إلى إنسان. المأساة هناك قدر لا يمكن تجنبه، بينما وجهة نظر شعبنا هنا أن لا شيء، حتى الموت، يمكن أن يقال عنه إنه قدر لا يمكن تجنبه، فالمأساة يمكن تجنبها، ويمكن تداركها، ويمكن الحيلولة في الوقت المناسب بينها وبين أن تحدث أصلا. المأساة هناك غريبة عن الحياة البشرية، مفروضة عليها، والمأساة هنا تنبع أساسا من الحياة البشرية وتسير على نفس خطوطها وبنفس منطقها.
هنا، في مصر، لا يمكن أن تخلق عقليتنا المسرحية بطلا كأوديب مكتوبا على جبينه أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ولكنها تخلق بطلا كعنترة، أو تخلق ابن جارية ليصبح أشجع الشجعان في قبيلته وأشدهم وليسود تلك القبيلة ويحكمها ويقودها ليفتح بها البلاد والأمصار. هنا قدر عنترة في يده، يبدأ ابن جارية وينتهي ملكا عظيما؛ لأنه كان شجاعا وكان شهما، وكان أسود ولكن أخلاقه حر أصيل. أما أوديب فسواء كان شجاعا أم جبانا، عظيما أم حقيرا، غبيا أم ذكيا، فلم يكن ليغير هذا كله من مصيره قيد شعرة، وكان لا بد أن يبدأ ملكا وابن ملك لينتهي شحاذا أعمى تقوده ابنته.
صحيح أننا في قصة عنترة نجد أن فلانا البطل كان مكتوبا في لوحه القدري أن أحدا لا يستطيع قتله سوى فلان الآخر، فهو مثل لا ينقض ما قلناه، بالعكس، إني أراه يدعمه؛ لأن راوي القصة هنا وخالقها لم يلجأ لهذه الحيلة إلا لسبب فني محض في القصة يتصل بالحبكة، أي لجأ إلى هذا المفهوم لجوءا عقليا ابتكاريا محضا.
إن هذا اللجوء لا يدل على إيمان المؤلف بالمكتوب، ولكنه يد على «معرفة» المؤلف بأنه من الممكن أن يكون القدر مكتوبا، معرفة لا بد جاءت من اختلاط الثقافتين وتفاعلهما. في حين أننا حين نتحدث عن المفهوم المأساوي فإننا نتحدث عن هذا الذي أخرجته قرائح المؤلفين الشعبيين دون قصد أو انتباه ودون تداخل من عقولهم المحدودة الواعية، نتحدث عما خلقته العاطفة والوجدان، وليس ما ابتكره العقل وقشرة المعرفة الرفيعة فيه.
قصة أيوب المصري، لو كان مؤلف إغريقي قد عالجها لكان قد صور مرض أيوب على أنه مصير قدري محتم وجعل همه أن يجسد صراع أيوب ضد ذلك المصير، وكيف تخلت عنه الزوجة والأهل والأصدقاء، ذلك الصراع اليائس الذي ينتهي حتما بانتصار المصير المحتوم. المؤلف المصري لم يفعل هذا، لقد جعل أيوب «يختار» أن يصبر على بلواه، وجعل زوجته «تختار» أن تقف بجانب زوجها المريض، وجعل صراعهما طول الوقت موجها إلى المحافظة على الموقف الذي اختاره كل منهما، ولأنهما صمدا ولأنهما ضربا بصمودهما مثلا للبطولة، فقد جاءت النهاية مختلفة تماما، وشفي أيوب.
في قصة بهية ومتولي، اختارت بهية أن تحترف الدعارة، وفي لقائها بأخيها وقد جاء يحاسبها قالت إنه كان مكتوبا عليها أن تفعل ذلك، بمعنى أن المؤلف الشعبي هنا يستعمل فكرة المصير المقدر كحجة تسوقها بهية للتخلص من مسئوليتها عن اختيار ذلك الطريق، حجة لم تفلح في إقناع متولي ولا تفلح في إقناع أحد من المصريين؛ لأننا لا نؤمن في رواياتنا بفكرة ذلك المكتوب، وكان لا بد لبهية أن تنال جزاءها على يد متولي.
أجل، هناك مسرح مصري
من تلك الحقائق المتناثرة التي وردت عبر الخاطر، ومن غيرها من الأدلة والشواهد، من الواقع والحياة، من القوانين الأزلية الأساسية للوجود التي تنص على أنه متى وجد شعب ما فلا بد أن يخلق هذا الشعب فنونا، كافة ألوان وأشكال الفنون، فنونا متميزة عن فنون الشعوب الأخرى ومختلفة اختلاف الحياة عند هذا الشعب وعند ذلك، نستطيع أن نقول إن هناك مسرحا مصريا كائنا في حياتنا وموجودا، ولكننا لا نراه؛ لأننا نريد أن نراه مشابها ومماثلا للمسرح الإغريقي والأوروبي الذي عرفناه وترجمناه واقتبسناه وعربناه ونسجنا على منواله من أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم.
كل ما ينقص هذا المسرح المصري كي يوجد ويأخذ مكانه في حياتنا هو أن نعيد النظر في أنفسنا وفي حياتنا تلك لنفرق بين الأصيل فيها والمكتسب، هو أن نتعلم كيف نحترم ذاتنا وما تفرزه تلك الذات من فنون. إننا شعب كامل متكامل، له أغانيه وموسيقاه ورقصاته ومسرحه، وحمدا لله أننا في عصر بدأنا فيه نبحث عن ذاتنا ونفخر بها ونقدمها. بدأنا نسمع أصواتا تطالب بإيجاد الفن التشكيلي المصري والألوان المصرية وموضوعات التصوير المصرية، بدأنا نحس بالحاجة الملحة إلى رقصنا الشعبي فنكتشفه ونعده ونقدمه على المسارح، بدأت محاولات في الموسيقى لإدخال الميلوديات الشعبية في إطارات السيمفونية والكونسرتو. ولنا عند هذه النقطة بالذات وقفة؛ إذ إن هذه المحاولات في رأيي ليست الاتجاه السليم بالمرة، فإن محاولة إخضاع الموضوع المصري للشكل الأوروبي محاولات لا يملك الإنسان أمامها إلا السخرية والضحك، فإنها أبدا ليست تطويرا لموسيقانا ولا ارتقاء بها، وهي لا تتعدى - كمحاولة لتطوير لغتنا مثلا - كتابتها بالحروف اللاتينية. إن الفن ليس فيه أشكال ومضمون، إن المضمون شكل والشكل مضمون، وهذا المضمون لا يمكن أن يصلح له إلا هذا الشكل بعينه، وذلك الشكل خلق خصيصا من أجل ذلك المضمون. والكونسرتو والسيمفونية ليست مجرد إطارات وبراويز يمكن للإنسان أن يضع فيها أية صورة لتصبح عالمية، إن الكونسرتو والسيمفونية مثلها مثل الأوبريت والأوبرا كوميك، أشكال أوجدتها مواضيع فنية، أوجدتها الموسيقى الأوروبية في مراحل نموها المختلفة، وهي لا تصلح إلا لتلك الموسيقى بعينها، وعلينا نحن إذا أردنا أن نطور موسيقانا أن نبحث لها عن أشكال تعبر عن هذه الموسيقى المتطورة نفسها، أشكال خاصة بنا منتزعة من صميم خيالنا ومفهوماتنا الفنية يفرضها مضمون العمل نفسه.
إنها نفس المشكلة في المسرح، فلا يكفي لإيجاد مسرحنا المصري أن نعثر على الموضوع المسرحي المصري، وإنما يجب أن نخلق لهذا الموضوع الشكل المسرحي النابع منه والملائم له والذي يستطيع إبرازه وتقديمه إلى أبعد وأوسع مدى.
Bilinmeyen sayfa
وهذا العمل الذي لم تستغرق كتابته سوى جملة واحدة أو بضعة أسطر قد يستغرق لإنجازه أعمارا بأكملها، فهو عمل ليس سهلا أبدا، إنه في حاجة إلى جهد وعرق وقدرات ضخمة على الخلق والابتكار، في حاجة إلى تكاتف جهود وإضافات و«مهاويس» مسرح، في حاجة إلى تنظيمات مسرحية على هيئة جمعيات صغيرة متآلفة تبحث وتنقب وتجرب. أو قد ينقذنا من هذا المجهود كله ظهور عبقرية مسرحية فذة تختصر الزمن والعمل وتقدم هكذا ببساطة العباقرة الموضوع المسرحي المصري الإنساني العالمي في الشكل المسرحي المصري الذي يصبح علما على إنتاجنا المسرحي ويقف جنبا إلى جنب مع غيره من الأشكال المسرحية الأوروبية والصينية واليابانية.
وإيجاد هذا المسرح واكتشافه وتطويره ليس مهمة على كل أصدقاء المسرح ومؤلفيه والمهتمين به أن يؤدوها كنوع من الواجب أو مدفوعين بالنعرة القومية أو الوطنية، إنه ليس واجبا ولا «عياقة»، إنه ضرورة كضرورة أن نعيش ونتحدث ونغني ونسمع الموسيقى. ضرورة لا يمكن أن يؤديها مجرد الشعور بالواجب أو مجرد الحماس، فهي ضرورة فنية لا بد للتصدي لها من قدرة على خلق الفن وحاسة مرهفة لتمييز الأصيل فيه من المستورد. لا بد من موهبة مسرحية حقيقية، كل المطلوب من نقاد المسرح وأصدقائه أن يخلقوا الجو الملائم للإقدام على هذا العمل، أن يتبنوا الدعوة إلى إيجاد المسرح المصري، أن تعم حركتنا الفنية والأدبية موجة حماس لكل ما هو مصري وأصيل في النصوص المسرحية وفي الديكور المسرحي وفي طريقة الإخراج المصري وطريقة التمثيل، أن تتولد الرغبة المتصلة لتمصير كل هذا أو لإيجاد المقابل المصري له. لا بد أن لنا طرقنا الخاصة في التقمص والتشخيص والتمثيل، ولا بد أن لنا خيالنا الخاص في تصور بيئة النصر المسرحي ونقلها إلى حيز الوجود. لا بد أن لنا ذوقنا الخاص في التنكر، فنحن مثلا نكره الأقنعة ولا نستحب التمثيل بها، فماذا بالضبط نحبه ونفضله، تلك هي واحدة من عشرات المشاكل التي سوف تثيرها في أذهان المهتمين موجة المطالبة بالمسرح المصري.
وفي النهاية
وإذ أقول هذا لا أعني مطلقا أن تتوقف حياتنا المسرحية حتى نحقق لها المسرح المصري، إنه عمل يجب أن يسير جنبا إلى جنب مع حركة سيرنا المسرحية، بل يجب أن نبحث فيما قدمه المسرح المصري من مسرحيات مؤلفة لنعثر على كثير من ملامح مسرحنا الأصيل. حقيقة أن مؤلفي هذا النوع من المسرح قد تأثروا ونقلوا لنا الأشكال والموضوعات المسرحية الأوروبية، ولكنهم رغما عنهم وبحكم طبيعتهم وتكوينهم الحي قد أفرزوا في إنتاجهم هذا مصريتهم، متفرقة أحيانا، مستترة أحيانا أخرى. إن في روايات توفيق الحكيم بالذات ملامح كثيرة من ملامح مصريتنا الفنية، في طريقة إدارته للحوار، في القافية اللغوية المستترة، في ادعاء بعض الشخصيات الغباء أو التغابي، في كثير جدا من المواقف والعلامات المسرحية ستجد أن هذا الكاتب المسرحي الكبير كان كاتبا مسرحيا مصريا، سواء بوعي أو بغير وعي، ونفس الشيء في نعمان عاشور وسعد وهبة ورشاد رشدي. ولكن المشكلة أنها ملامح متفرقة، ساهم الشكل الأوروبي الكلاسيكي الذي نؤلف عليه في تشتيتها وإضاعتها، بحيث يبدو العمل مصريا حقيقة وأبطاله بأسماء مصرية والصراع صراعا مصريا، ولكنا نحس أنه بالضبط ليس هو المسرح المصري كما نريد ونشتهي. فمسرحنا هذا مثلا غارق في الواقع إلى آذانه، من الواقع تنبع مشاكله، وبالواقع تعالج، في حين أن مؤلفنا المسرحي الشعبي لا يهتم بالواقع هذا الاهتمام كله، إنه يستعمل منه بعض اللبنات والكلمات، ولكن التركيبة المسرحية مختلفة تماما عن تركيبة الحياة في الواقع والشخصيات شخصيات مسرحية، بينما الشخصيات في عيلة الدغري مثلا أو السبنسة أو لعبة الحب شخصيات واقعية، والفرق بين الشخصية المسرحية والشخصية الواقعية هو تماما كالفرق بين هاملت وبين بطل سارق الدراجات أو بين ناعسة أيوب المصري وبين زوجة مسعد في مسرحية اللحظة الحرجة. إن الشخصية المسرحية عالم مختلف تماما عن عالم الشخصية الواقعية، إنها كون بذاته، ليس منتزعا من كوننا الواقع، ولكنه يوازيه، بل وأحيانا يتفوق عليه. إن المسرح ليس هو المرآة التي ننظر فيها فنرى أنفسنا. إن هذه هي إحدى مهام المسرح، ولكن مهمته الأكبر والأعم أن نرى أنفسنا من مستوى أعلى، من كون آخر، بعين بطل مسرحي حقيقي.
إنه ليس نقدا أوجهه لمسرحنا المعاصر ولا محاولة لتحسينه، فهو كما هو في أحسن صوره وأشكاله، ولكني أقول إن المسرح المصري والموضوع المسرحي المصري والشخصية والطريقة المسرحية المصرية شيء آخر غير هذا، شيء ليس أحسن أو أبشع، ولكنه ببساطة مختلف، هذا كل ما في الأمر.
وأنا لا يعنيني بهذا الذي أكتبه أن أخاطب كل المهتمين بالمسرح في مصر من مؤلفين ومخرجين ونقاد وممثلين وجمهور، فمثل هذا الافتراض عبث، ليس من ورائه طائل، فأنا أعرف أن معظمهم سيثور بشدة وستتعالى أصوات كثيرة تحتج وتقول: كيف نطالب بمسرح مصري ونحن الآن نزاول ونتردد ونؤلف المسرح المصري؟! أعرف هذا تمام المعرفة، ولكني أخاطب بما كتبته أناسا آخرين، أناسا يحكمهم الإخلاص لشعبنا وفنوننا بحيث لا يقف أمام هذا الإخلاص حائل من مصلحة أو ارتباط ... أخاطب القابلين للإيمان بالفن المصري وبإمكانية وجود واكتشاف وتطوير هذا الفن المصري ليستمتع به شعبنا أولا ويكتفي، ثم ليأخذ مكانه بعد هذا بين فنون بقية شعوب العالم. أنادي بضرورة تحرر فنوننا وعلومنا وآدابنا من التبعية لأوروبا، بأن نعب ما نشاء من التراث الأوروبي، ولكن حين نبدأ العمل أو نخلق علينا أن نعمل لأنفسنا ولشخصيتنا نحن، علينا أن نحقق ذاتنا نحن، علينا أن نكون تلامذة في دراستنا ومصريين في خلق علومنا وفنوننا وآدابنا.
تقديم
من قراءة المقالات الثلاث التي نشرتها في مجلة الكاتب، لا بد أن يحس القارئ أن مهمة خلق مسرح مصري وروايات مصرية أصيلة تتناول حياتنا بالأسلوب المسرحي الشعبي مطورا إلى المستوى الذوقي والجمالي والمفهومات الفنية العالمية - مهمة شاقة. والبحث عن شيء غير موجود وغير معروف أو كائن دائما مهمة شاقة وعسيرة، وهو بحث أضناني على مدى سبع سنوات منذ الفترة التي انتهيت فيها من كتابة مسرحية اللحظة الحرجة وطويت في ذهني بعدها صفحة هذا النوع من المسرح والمسرحيات، مصمما أن لا أعود للكتابة المسرحية إلا إذا عثرت على المسرح والمشكلة المصرية المحلية العالمية الحديثة كما أتصورها.
ولو خيل لي أن نتيجة هذا البحث الدائب الطويل والتفكير المتصل والتأزمات التي استغرقت مني عامين بأكملهما، لو قيل لي إن هذا كله سينتهي فجأة ذات ليلة من ليالي سبتمبر 1963 لما صدقت. كنت قد عدت من إجازة متقطعة قضيتها في مصيف بور سعيد، وشرعت بعد العودة مباشرة في إكمال مسرحية كنت قد بدأتها قبل الذهاب إلى بور سعيد، واحدة أخرى من أربع أو خمس تجارب كاملة لا تزال راقدة في درج مكتبي إلى الآن. أبدأ الواحدة منها وأنا مدرك أنها ليست بالضبط ما أريد، وطريقها ليس هو الطريق، وأنتهي منها لأقبرها بين الأوراق مهما بلغ مستواها ومهما أعجب بها الأصدقاء، فلقد صممت، وكنت غير مستعد أن أساوم نفسي أو أقبل أنصاف الحلول. وذات ليلة وصل مشهد المسرحية إلى نقطة حوار معينة، حوار روحه قريبة الشبه جدا من روح «الفرافير»، ومرة واحدة وجدت الفرافير تخطر لي: الفرافير المسرح، والفرافير المسرحية، هكذا معا في لحظة واحدة. وقضيت أياما محمومة ممتعة أكتب، حتى حين مرضت وأصر الأطباء على دخولي المستشفى لإجراء عملية جراحية، رفضت وأبيت أن أتحرك من حجرة المكتب إلا بعد أن أنتهي تماما من الفرافير.
وقدمتها على الفور للمسرح القومي، ولكني كنت لا أزال غير مستريح تماما إلى وجود الفصل الثالث، معتقدا أني لو غيرت محاكمة فرفور السافرة للفلسفة والفلاسفة وأوردتها ضمن الفصل الثاني على ألسنة أصحاب الأدوار كلها و«المتفرجين»، وقمت بحذف بعض الأجزاء وإضافة أخرى لتكاملت وحدة العمل. ولقد شجعني على هذا الاتجاه أنه كان نفس رأي الصديق الأستاذ أحمد رشدي صالح والأستاذ أحمد عباس صالح، في حين عارض الأستاذ محمد عودة وأصر على إبقاء الفصل الثالث. ولكن المسرحية بحجمها الأول كان تمثيلها يستغرق أكثر من أربع ساعات، وكان لا بد من إجراء التغيير، كل ما في الأمر أني دفعت للمسرح القومي بالنسخ كما هي لتوزيعها على أعضاء لجنة القراءة وحجز مكان لها في الموسم واتخاذ بقية الإجراءات اللازمة لعرضها، وفي نفس الوقت عكفت على إعادة كتابة الجزء الثاني بالطريقة المنشورة هنا، وهي نفس الطريقة التي قدمت بها على المسرح، وقد كان في نيتي لدى نشر المسرحية أن أنشر الطريقتين معا، تاركا للقارئ أن يفصل بينهما خاصة، والأمر ليس بدعة، فبعض الكتاب الأوروبيين يفعلون الشيء نفسه وينشرون المسرحية بأكثر من صورة، ولكن حجم هذا الكتاب لا يكفي، ومن ناحية أخرى أنا أميل إلى تفضيل الشكل المدمج، وهو نفس رأي مخرج العرض الأول الأستاذ كرم مطاوع الذي فضل الطريقة الثانية ونفذها على المسرح.
Bilinmeyen sayfa
وهناك شيء آخر أحب أن أنبه إليه، فلقد كتبت الفرافير، ليس فقط على أساس دمج خشبة المسرح بصالة المتفرجين وإحالة المسرح كله إلى وحدة واحدة تضم الممثلين والجمهور معا، واعتبره البعض شيئا غير جديد باعتبار أنه استعمل في المسرح الصيني والياباني وعند بريخت وبيراندللو، ولكن الفرافير مكتوبة على أساس قاعدة أخرى أشرت لها في «نحو مسرح مصري»، وهي قاعدة التمسرح، بمعنى أن حالة التمسرح الكاملة في رأيي لا بد لوجودها أن يساهم ويشترك كل فرد من الجماعة البشرية الموجودة مشاركة شخصية في اللحظة، فلو كانت حالة التمسرح حالة رقص فلا بد أن يبدأ الاحتفال بأن يرقص الجميع، يرقص كل «فرد» حتى تصل «الجماعة» إلى الحد الأدنى من النشوة، تلك التي يستوي لديه عندها أن يرقص هو أو يتفرج على رقص غيره، وقلت إن هذا هو ما يحدث في الغناء الشرقي الذي كان يبدأ بغناء جماعي من الكل حتى يصل الموجودون إلى لحظة الحد الأدنى من الانسجام والنشوة، تلك التي يحس فيها الإنسان أنه قد أصبح على اتصال تام بغيره وبالجماعة والطبيعة والكون، حينئذ وعند هذه اللحظة لا يصبح ضروريا أن يغني المرء بنفسه كي يمضي قدما في طريق متعته الفنية، ولكن لحظتها يستوي عنده أن يغني (أي يرسل) أو يسمع (أي يستقبل). هنا، تسكت في العادة معظم الأصوات وينفرد بالأداء صوت واحد من المستحسن أن يكون أجملها جميعا، بحيث ينتشي صاحبه لأنه يغني لهم ويرسل وينتشي الآخرون لأن متعتهم بالاستقبال قد أصبحت تعادل إن لم تتجاوز متعتهم بالإرسال. وقلت إن هذا في رأيي يعد التفسير الوحيد لظاهرة الكورس في الغناء الشرقي أو المسنداتية أو غيرها.
قصدت إلى أن تحدث نفس حالة التمسرح هذه في الفرافير، بحيث لا بد أن يشعر كل متفرج وممثل وكل حاضر أنه يساهم ويشترك بحرية في إيجاد حالة التمسرح وشمولها، ولهذا فمعظم حوار الأجزاء الأولى من الفرافير - بجانب أدائه لوظيفة النص في المسرحية - يساهم من ناحية أخرى في التمهيد لحالة التمسرح ثم إيجادها ثم تطويرها. وبالنسبة لجمهور مسرح عام المهمة صعبة، فهم مجموعة من الغرباء تلتقي لأول مرة وربما لآخر مرة في مكان كهذا، وقد جاءت لتتفرج على رواية ما. لا بد من إلغاء الرواية الجاهزة التي تعودوا عليها وإشعارهم أن الرواية تؤلف أمامهم وأنهم ممكنهم أن يتدخلوا في تأليفها ويغيروا ويبدلوا منها، لا بد من إلغاء التمثيل والتفرج والممثل والمتفرج، لا بد للجميع أن يخلعوا ذواتهم الخارجية وتخرج طبيعتهم الإنسانية المكنونة لتتجمع كلها، وتكون الذات الجماعية الواحدة التي ستستمتع بالتمسرح.
على هذا الأساس فهناك في النص عدد من الأدوار المكتوبة لمتفرجين، أي مفروض فيهم أنهم متفرجون جالسون في الصالة، ولكنهم سيتدخلون في أوقات معينة ويشتركون في الرواية، والحل الثاني كان أن يقوم بهذه الأدوار متفرجون حقيقيون قياما تلقائيا بلا كلام مكتوب أو توزيع أدوار، ولكنه حل للأسف ولألف اعتبار غير ممكن، ولهذا كتبت هذه الأدوار لممثلين يجلسون في أماكن متفرقة من الصالة ويقومون بأدوار «المتفرجين»، وهؤلاء المتفرجون يتدخلون بكلمات قليلة وتعليقات سريعة أول الأمر، ولكن في لحظة من اللحظات ، تلك التي يفشل عندها فرفور في إيجاد حل ويطلب من الحاضرين أن يشتركوا معه وأن يقترحوا عليه الحلول، في تلك اللحظة ينتقل الحدث المسرحي إلى الصالة، وتصبح هي خشبة مسرح كبيرة تضاء فيها الأنوار بينما تخفت الأضواء على الخشبة الحقيقية كي تستحيل إلى صالة ليس بها غير متفرجين، هما فرفور وسيده، ومن مكانه في هذه الصالة يتولى فرفور مهمة الاشتراك في المؤتمر الكبير الذي ينعقد لاقتراح الحلول ويعلق عليها أو يفندها أو يسخر منها بمثل ما يفعل أي متفرج طويل اللسان.
هذا ما أردته وبنيت النص عليه، ولكن المخرج مع احتفاظه بنفس كلمات النص فعل شيئا آخر، جمع هؤلاء «المتفرجين» في كورس، وآثر أن يجعلهم يصعدوا خشبة المسرح باقتراحاتهم وحلولهم التي آثر أيضا أن يقولوها كمجموعة.
ولقد عارضت في هذا باعتبار أنه يلغي ركنا مهما من أركان حالة التمسرح التي قصدت إليها، ولكن لأني أعتبر الإخراج المسرحي فنا يجب أن تتوفر له وجهة النظر الخاصة، تركت للمخرج حرية أن يطبق وجهة نظره تلك وأن يكون في نفس الوقت مسئولا عنها، وهو ما حدث. وصحيح أن الكورس كان بارعا في أدائه وملفتا للنظر، إلا أن نظرية التمسرح لا تزال باقية جديدة غير مطروقة في انتظار مخرج آخر يدركها ويحسها ويقدمها.
كذلك اقتضت عملية ضغط زمن الرواية اختصار أجزاء من حوار بعض المواقف، اختصارا تم في بعض الأحيان على حساب المعنى العام للرواية، بحيث أساء البعض فهم المضمون وافترضوا أشياء كثيرة حاسبوني عليها، والنص منها بريء، بحيث إني أطلب ممن حضر العرض المسرحي وخرج بمفهوم ما، أي مفهوم، أن يعيد قراءة هذا النص الكامل، فلربما غير من رأيه أو من مفهومه، خاصة وقد اتضح لي أثناء العرض ضرورة إجراء بعض التعديلات الطفيفة التي لا يمكن التنبؤ بها قبل رؤية العمل مجسدا ومعروضا وفي حضرة الجمهور. •••
بقيت كلمة تعتبر في رأيي جزءا لا ينفصل من هذه المسرحية، كلمة لا بد أن أقولها لأصدق مع نفسي ومع الحقيقة، وأنصف جنودا مجهولين، لولاهم ودون أدنى مبالغة لما كان هذا العمل، ولما كنت أنا نفسي. فلقد مرضت أثناء كتابة الفرافير، وبسببها، إلى درجة الموت، وليس فقط الإشراف عليه، حتى إنني كنت أترك كل ليلة لأخي كلمة أقول له فيها ما يجب أن يفعله بالمسرحية إذا مت، وأحيطه علما بالجزء الناقص منها وأحداثه وأسلوب كتابته، وأحدد له اسم الصديق الذي يتولى التنفيذ ويكمل الفرافير. وإذا كنت لا أزال أحيا والحمد لله، وإذا كانت الفرافير قد أنقذت هي الأخرى، فالفضل في هذا لزوجتي رفيقة العمر وزميلة ساعات الرعب، ولأخي أحمد إدريس، الذي ترك حياته كلها وتفرغ لي، وللصديق الكبير الذي طرد شبح الموت من حجرتي ليتربص له في حجرته ويغتاله في طرفة عين، المرحوم الدكتور أنور المفتي، الذي مات قبل أن يراها، إليهم أهدي، بتواضع وخجل من ضآلته، هذا العمل.
المحتويات
الفصل الأول
المكان:
Bilinmeyen sayfa
أي مكان.
الزمان:
أي الزمان.
الفصل الثاني
المكان:
نفس المكان.
الزمان:
بعد مرور أي زمن على أحداث الفصل الأول أو حتى قبل حدوثه.
ملحوظة
ورغم هذا فالرواية ممكن أن تعرض عرضا مستمرا من بدايتها إلى نهايتها دون إسدال ستار وتقسيمها إلى أجزاء.
Bilinmeyen sayfa
بعض ملحوظات عن تمثيل الرواية
(1) المسرح
هذه الرواية مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور مع الممثلين في تقديم العمل المسرحي باعتبارهم وحدة واحدة، ولهذا فالجمهور هنا يعتبر جزءا من الممثلين، والممثلون يعتبرون جزءا من الجمهور. وإذا كان المسرح الإغريقي ومن ثم الأوروبي قد اصطلح على تسميته بالخدعة المتفق عليها، فمسرحنا في رأيي هو الخدعة التي لم يتفق عليها، الخدعة الكاملة المباشرة بلا أي محاولة لتخفيفها أو مواربتها.
المسرح الأمثل في نظري لتمثيل هذه الرواية ليس هو المسرح العادي، حيث الجمهور الذي يواجه الحائط الأول الذي تفرج عنه الستارة، ولكنه المسرح الدائري أو الحلقة التي تتكون نتيجة تجمع أي جماعة من الناس على شرط أن تزود بالإضاءة الكافية، ولا يحتاج الأمر إذن لأبواب دخول وخروج، فباستطاعة الممثل أن يخترق الصفوف في طريقه إلى الدائرة المسرحية في الوسط وهو داخل ثم وهو خارج.
ولكن، نظرا لأن توفر هذا النوع من المسارح التلقائية غير مضمون الحدوث، فيمكن تمثيل الرواية على المسرح العادي، بحيث تتخذ إجراءات ميكانيكية لإلغاء المسافة الكائنة بين خشبة المسرح وجمهور الصالة، وهي المسافة التي تخصص للأوركسترا في الغالب، إذ يمكن تغطيتها، ومد الغطاء إلى مسافة ما في مشاية الصالة الرئيسية بحيث تصبح الصفوف الأولى في متناول مقرعة فرفور، ومن ناحية أخرى ممكن وضع كراسي للمتفرجين العاديين فوق المسرح من الخلف بحيث لا يرى المتفرج ستائر خلف الممثلين وإنما يجد جمهورا أيضا يكون شبه الدائرة المفروضة. بالاختصار لا بد من اقتراب الجمهور من الممثلين واقتراب الممثلين من الجمهور إلى درجة تلغي المسافة النفسية الكائنة بين من يؤدي الدور ومن يشاهده. (2) عن التمثيل
بالنسبة لفرفور بالذات، فقد أفردت له نقطة خاصة. أما بالنسبة لبقية الشخصيات، فإني مع إيماني الشديد بالمواهب الضخمة التي يتمتع بها ممثلونا المسرحيون بمختلف مدارسهم، إلا أني شخصيا أميل إلى الطريقة التي لا تجعل الممثل يندمج اندماجا كاملا في الدور بحيث ينسى جمهوره تحت شعار «الانفعال الحقيقي الصادق»، ولست أيضا من أنصار أن يتحول الممثل إلى خطيب لا عمل له إلا هذا الجمهور. إني من أنصار مدرسة «عين في الجنة وعين في النار»، عين على الدور والموقف والانفعال، وعين على الجمهور؛ ذلك لأن هذه الرواية بالذات والمسرح المصري كما أراه عموما لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة، ولكنه يعتمد على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها، ولمخاطبة هذا الشعور لا بد من «عين» حدسية وإحساسية للممثل تقيس مدى ودرجة حرارة التجاوب، بحيث بناء على الإشارات الواصلة إليها تتأنى أو تسرع أو تتوقف أو حتى تضيف كلمة ما إلى النص؛ ذلك لأني لا أؤمن أيضا بالدور المرسوم قبلها بالبرجل والمسطرة، لأني أؤمن بالدور الذي يرسم كل ليلة بمسطرة وبرجل مستمدين من جمهور الحاضرين الجدد ومشاعرهم. إن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء، ومحاولة الممثل أن يرى المواقف، لا بعينيه وحده، ولكن بعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها، فلا تصبح خطابية رصينة كمونولوجات جورج أبيض المشهورة أو هامسة متهافتة كتلك التي يسمونها الطريقة الحديثة في الإحساس والتمثيل، ولكنها تصبح همسا له وقع الخطب الرنانة، وخطبا رنانة تتلقفها الأذن وكأنها همس. (3) عن الأقنعة
أشار علي أحد الأصدقاء الذين أتيح لهم أن يقرءوا هذه المسرحية أن أوصي باستخدام الأقنعة في تمثيلها، باعتبار أنها أنماط وشخصيات قناعية. ولكني لا أحبذ استعمال الأقنعة هنا، فأنا شخصيا أكره التمثيل بالأقنعة، وشعبنا يكرهها تمثيلا أو حقيقة. وليس لدينا مانع أبدا أن يلعب الماكيير بوجه الممثل كما يشاء، ولكن فكرة القناع نفسها لا تعجبنا إلا في حلقات زورو، فلمسرحنا تقاليد عريقة ربما أعرق من الكورس والقناع وقواعد أرسطو. (4) عن شخصية فرفور
في تصوري للمثل الذي يقوم بدور فرفور قلت أن لا بد أن يكون خفيف الدم أصلا أو معروف عنه أن لسانه لذاع، وكثيرون من الممثلين قد يضايقهم النص على شيء كهذا، فالممثل الأصيل في رأيهم باستطاعته أن يقوم بأي دور يشترط أن يحسه إحساسا كاملا ويهضم الشخصية، ثم إن خفة الدم أو اللسان اللاذع في الحياة العادية قد تختفي تماما على المسرح، بينما الممثل الذي يبدو وقورا في حياته باستطاعته أن ينقلب إلى فرفور حقيقي على المسرح، وهذا كله قد يكون صحيحا إذا نظرنا إلى التمثيل باعتبار أنه فن التمثيل، ولكنني أحس دائما أني ضد هذا الرأي، فالكتابة أيضا فن، ولكن الكاتب لا يستطيع أن يكتب أي موضوع، ولا أن يجيد تصوير أي شخصية، فالكتابة فن وإيمان معا، وكذلك الموسيقى ليس باستطاعته أبدا أن يؤلف أي موسيقى، إنه دائما يختار المواضيع التي توافق حاسته الجمالية ويستطيع بها أن يعبر عن وجهة نظره. لهذا أنا لا أعتقد أن الممثل الموهوب هو الذي باستطاعته أن يمثل أي دور، إنه لا يكون موهوبا حينئذ، ولكنه على أحسن الفروض «صنايعي» أو «حرفي»؛ ذلك لأن التمثيل ليس مجرد فن وموهبة، إنه يحتوي أيضا على مثل وإيمان ورسالة. وقد يكون هذا الرأي مخطئا في كثير من الحالات أو مبالغا فيه، ولكني هنا في شخصية فرفور كما حلمت بها دائما أريد لها ممثلا من ذلك النوع، ممثل لا يمثل ولا يتصيد الانفعال ولا يدعي ما ليس فيه، ممثل بسليقته، فرفور حقيقي. والفرافير موجودون، ولكنهم قليلون، من بين كل ألف أو بضعة آلاف نجد فرفورا، في مدرستك الثانوية، في كليتك، في قريتك أو مصنعك أو مؤسستك، لا بد التقيت يوما بهذا الإنسان الذي لا يكف لسانه عن سلخ الأوضاع والآخرين والأصدقاء والأعداء ونفسه وكل شيء، الناس تضحك وتأخذه على أنه مجرد مضحك ودائما تنتظر تعليقه. ولكن هذا الفرفور نفسه، هل هو مجرد إنسان همه أن يضحك الآخرين؟! إنه قطعا يجد متعة في إضحاك الآخرين، ولكن لماذا هو وحده القادر على هذا؟ ألمجرد كونه سريع البديهة أو قادرا على اصطياد موضع النكتة أو السخرية؟ ولماذا يجد هو في هذا الحدث أو ذاك ما يستطيع أن يسخر منه ولا تجد أنت؟ لا بد أنه إذن إنسان غير عادي، ليس فوق البشر، ولكنه مختلف عن البشر، على الأقل في وجهة نظره. وأهم ما يميزه أنه مؤمن بوجهة النظر هذه أكثر حتى من إيمانه بنفسه؛ إذ كثيرا ما يستعملها للسخرية من نفسه. إنه إذن إنسان له وجهة نظر قد تضحك لفرط غرابتها، ولكن أثرها أبدا لا يزول إذ هي تهدم وتبني في أنفس الناس بينما هم مشغولون بالقهقهات.
إن الممثل اللائق لهذا الدور لا بد أيضا أن يكون ممثلا له وجهة نظر فرفورية أو قريبة منها، فالتمثيل زمان، زمان جدا، كان يعتمد أساسا على الفرافير، زمان قبل أن يعي الناس بحقيقة التمثيل وأن اسمه مسرح وحقيقة الممثلين، زمان حين كان الجمهور نفسه يدفع بفرافيره فقط إلى الحلبة ويلتهب سعادة وحماسة وضحكا لكل ما يقولون، فهم ليسوا ممثلين، إنهم مؤلفون أيضا وحكماء وساخرون ولهم وجهة نظر جديدة دائما وغريبة. كان لا يجرؤ على الوقوف وسط الجموع المحتشدة إلا فرفور حقيقي يتحدث ويضحك ويهرج بالسليقة، ولا يفعل، ولا يفعل، إذ هو في حياته أيضا فرفور، والناس تتداول أخباره وتعليقاته وحكاياته وكأنها نوادر جحا. أما والتمثيل قد أصبح «علما» يدرس في المعاهد، و«فنا» في كتب يستطيع من يشاء أن يطلع عليها وينجح في القبول، وأصبحت المسارح بتذاكر وديكورات وحجز وإخراج وتأليف، أما وقد اتخذ هذا الفن طابع العصر الصناعي وأدخلت عليه كافة التحسينات الميكانيكية من أضواء ومسرح دائري ومؤثرات صوتية، فالوضع أيضا قد شمل الممثلين وأصبحوا يستعملون كقطع الإكسسوار في أي دور وأي رواية؛ لأن الهدف نفسه من التمثيل والمسرح تغير، لم يعد رسالة ووظيفة اجتماعية، وإنما أصبح طريقا إلى الشهرة والمجد والمكانة.
ولقد قرأت كتبا كثيرة عن فن التمثيل، ورأيت الطرق التي تشبه التنويم المغناطيسي التي يلجأ إليها المخرجون حتى الكبار منهم مثل ستانلافسكي في تعليم الممثلين كيفية تقمص الأدوار، أي أدوار، وأي ممثلين، وأي روايات؛ لأن الفرقة كالمعهد قد أصبحت مصنعا لتخريج قطع غيار بالجملة.
Bilinmeyen sayfa
إني واثق أني لو سألت أي ممثل عندنا إن كان باستطاعته أن يقوم بدور البطولة، أي بطولة، لأي مسرحية أو فيلم، لصرخ بملء صوته: أجل، حتى قبل أن يقرأ الدور أو يعرفه؛ لأنه الحاوي القادر على كل الألعاب. وهؤلاء في رأيي لا أكن لهم احتراما كثيرا، فالتمثيل فن كبير؛ لأنه فن الوصول رأسا إلى قلوب الناس وعقولهم، فن التغيير الكبير الذي يحدث للنفس حيث تدخل الرواية بوجهة نظر وتخرج بها مبددة مبعثرة لا تصر قبضة ملح. وأن يحدث هذا لا بد من ممثل، ليس فقط مؤمنا بدوره إلى درجة تقمصه تماما، بالعكس مؤمن بالدور إلى الحد الذي لا يتقمص فيه، إلى الحد الذي يصبح الدور المكتوب نفسه كالرداء الضيق على الممثل؛ لأنه هو الممثل، أكبر وأعظم منه لأنه هو الحقيقة، هو الشخصية الحقيقية، هو الذي يقول ما يقول، لا لأنه سيؤثر به على الناس، ولكن لأنه هو أولا وأساسا مؤمن بهذا الذي يقول أو يفعل. وحين أقول الإيمان لا أقصد ذلك النوع المحدود من الإيمان، أقصد به الإيمان المتفتح الواسع، إيمان الفنان أو بتعبير أدق وجهة نظره التي تشمل العالم كله ومستعدة أن تتحمل مسئوليته وتصفح عن خطاياه، إيمان الرسل العظام والأنبياء. (5) مؤهلات فرفور الأخرى
وفرفور ليس نبيا ولا رسولا، إنه فقط فرفور. ولكني أتصوره دائما خارقا للعادة، لا بقوته فقط وإنما بعينيه، عينيه الصغيرتين اللتين كلما لمع بريقهما أحسست أن حدثا يوشك أن يقع؛ لأن فرفور سيفتح فهمه ويتحدث. فرفور ذلك الجسد الضئيل أو النحيف المحشورة فيه طاقة نشاط هائلة، إني أريده في كل مكان على المسرح، بحيث لا تستطيع أن تضبط انتقالاته، وحبذا لو استطاع أن يقفز في الهواء أن يصنع «السومر سولت» حتى يبدو جسده في نفس اشتعال عقله، وتبدو حركته لاذعة مباشرة هي الأخرى كلسانه، أريد أن أحس فيه بشيء غير آدمي ينتمي إلى الجن مثلا والعفاريت، أريد أن يحس الجمهور أنه فعلا ليس ممثلا ذا قدرات خارقة، أريده أن ينفض عن ذهنه كل أمجاد هاملت وعطيل وقيصر وأخلاقياتهم الشاعرية وشجاعتهم التي يجيدون الحديث عنها وأفكارهم التي تأتي مرتبة، وكأنما ينطقها محلل نفسي حكيم؛ لأني أريده بطلا يبهر بشخصيته ووجوده لا أن يفترض الناس مقدما بطولته، أريده أن ينتزع إحساس الناس بأنه غير عادي رغما عنهم، أريده أن يبهرهم وهو يضحكهم ثم يضحك عليهم حين يبهرون، أريد أن يحس أن جمهور المسرح الحاشد أمامه أناس جاءوا متفرقين متعبين متسخي القلوب والأرواح، وأنه وحده الذي سيتمكن من أن يقوم بغسل أرواحهم جميعا: بذراعيه، بلسانه، بجسده، بالطاقة الهائلة المشعة منه يلوك أرواحهم ويعصرها، ويعود يلوكها ويعصرها دون أن يحسوا لحظة واحدة أن شيئا غير عادي يحدث، ودون أن يبدو على فرفور أيضا أنه يقوم بشيء غير عادي. أريد ليس فقط أن يقول ما كتب له من حوار، ولكنه يكون على استعداد لأن يكبح جماح متفرج طويل اللسان، ذا بديهة حاضرة، بحيث يستطيع أن يروض الأنفس الهائجة حتى يدركها السلام. أريده ذا صوت خاص، ليس كالريحاني أو إسماعيل يس أو فؤاد المهندس، لا، صوت طيع، باستطاعته أن يهمس بوضوح، وأن يصرخ أيضا دون أن يفقد وضوحه، أريد للسخرية أن تخرج لا من فمه ولكن من صدره، من قلبه، من أعماقه فعلا لا تشبيها؛ لأنه لن يكون المعبر عن نفسه وحدها، ولكن عما هو أعمق من نفسه، عن نفوس الجماهير المحتشدة لتراه، أريده أن ينطق فيحسون جميعا أنه ليس صوته ولكن صوتهم هم، لا لأنه جميل، ولكن لأنهم يتعرفون فيه على ملامحهم وخصالهم، على صبرهم الطويل الذي لا مبرر له، على سخطهم على طريقتهم في إبداء السخط، طويلا ممدودا بلا ليونة، عريضا أجش حين يشاءون، لاذعا كالكرابيج في اللحظة التي يحبون فيها أن يسمعوا الطرقعات، صوت وكأنما يسمع الدنيا كلها صوته، يخاطب به الأعماق الدفينة للناس، وليس رغباتهم واندفاعاتهم السطحية الشكلية التافهة، صوت ينبع منها كبئر البترول المحفورة لعمق، ويرتد إليها.
باختصار أريده مزيجا من البطل الأرضي السماوي الجني الآدمي، حتى يصبح لكلامه فاعلية لا يستطيعها أي كلام آخر، وحتى يتقبل الناس هذا الكلام كما لا يتقبلون أي كلام آخر.
ترى هل أستطيع أن أجد الفرفور الذي يحقق هذه الصورة؟
كثيرا ما كنت أترك المواقف وأسرح وأسائل نفسي: ترى كيف يعيش الفرفور في حياته العادية؟ ما رأي زوجته فيه أو أصدقائه؟ وما رأيه فيهم؟ وأفعل هذا لإدراكي أن شخصا كفرفور لا يمكن أن يحبه القريبون منه، فنحن نعجب بالخارق للعادة، ولكن لا نحبه إذ نحن لا نحب إلا ما تعودنا حبه، أما فرفور فممكن أن نحيطه بهالة، ونحن به، ولكنا دائما وأبدا سنخافه ونخاف أن نقترب أكثر من اللازم منه. أما من ناحيته فهو أيضا لا يحبنا هذا الحب البسيط المباشر، إذ هو لا يحبنا بطريقتنا في الحب، ولكن بطريقته هو، وطريقته معقدة مركبة عسيرة الفهم، فهو لا يحبنا كما نحن، ولكن يحب لنا أن نكون على صورة أمثل ويضيق بعجزنا عن تحقيق هذه الصورة، ويشفق ويغضب ويزدري ويسخر ويشتم، ومن مجموع هذا كله تتكون عاطفته ناحيتنا، أقصد حبه لنا، وبنفس هذه الطريقة المركبة يبدي لنا هذا الحب، ويشتم ويغضب ويسخر، ولا ندرك نحن أبدا أنه يقول لنا بهذا كله أنه يحبنا.
الأدوار
المؤلف كبيرا
فرفور
السيد
المؤلف صغيرا
Bilinmeyen sayfa