6
تبنى السلطة في المجتمع التملكي من خلال استغلال الأشخاص الواقعين تحت وطأتها، وهذا الاستغلال يكون في أحيان كثيرة مخالفا لرغبات الأفراد وتوجهاتهم؛ لذلك يكون من أهداف مثل هذه السلطة السيطرة على هذه الرغبات وترويضها وكبحها. يقول فروم:
والذي يجري الحد منه وكبحه، هو التعبير الحر العفوي لإرادة الأطفال والناشئين والمراهقين ثم البالغين والكبار، وكذا ظمؤهم للمعرفة، وبحثهم عن الحقيقة، ورغبتهم في المودة والحب، ويرغم الشخص أثناء نموه على التخلي عن معظم رغباته واهتماماته المستقلة الأصيلة وعن إرادته الشخصية؛ ليتبنى إرادة غير إرادته، ورغبات ومشاعر غير رغباته ومشاعره، تفرضها كلها الأنماط الاجتماعية للفكر والشعور، وعلى المجتمع، وعلى الأسرة باعتبارها الوكيل النفسي الاجتماعي للمجتمع أن تحل المعضلة الصعبة: كيف يمكن تحطيم إرادة الشخص دون تمكينه من الوعي بذلك؟ والحق أنها قادرة بالفعل - من خلال عملية معقدة من التلقين والثواب وبث الأيديولوجية المناسبة - على النهوض بهذه المهمة على نحو لا بأس به، إلى الحد الذي يجعل أغلبية الناس يعتقدون أنهم يسيرون حياتهم وفق إرادتهم دون أن يكونوا على وعي بأن إرادتهم ذاتها مصنوعة ومكيفة.
7
هناك تفاعل دائم بين الدائرة النفسية للفرد وبين البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع؛ ونتيجة لذلك يتكون ما يسميه الكتاب ب «الشخصية الاجتماعية». البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع تشكل «الشخصية الاجتماعية لأفراده»؛ بحيث تجعلهم راغبين في فعل ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، وفي المقابل تؤثر الشخصية الاجتماعية في بنية المجتمع، بحيث تساعد على استقراره أو تتحول على العكس إلى قوة تفجير أو تغيير.
أحد الأدوار المهمة للشخصية الاجتماعية يتمثل في إشباع الاحتياجات الدينية للكائن الإنساني. وحين يتحدث فروم هنا عن الدين فهو يوسع مدلول الكلمة لتشمل أي إطار توجيه يوفر للفرد موضوعا يكرس من أجله حياته؛ وبالتالي عندما يتحدث فروم هنا عن «الدين»، فإن مفهومه لا يتضمن بالضرورة مفهوما معينا للرب، ولا يقتصر على ما نضعه عادة تحت مفهوم الدين. وإعادة التعريف هنا ليست هدفا في حد ذاتها بقدر ما هي تمهيد للفكرة الأساسية.
هناك حالات لا يوجد فيها تجاوب بين النظام الديني الرسمي أو المعلن من ناحية، والشخصية الاجتماعية السائدة من ناحية أخرى؛ بمعنى وجود تعارض بين الطريقة التي يصف الشخص (أو المجتمع) بها نفسه، وبين الممارسة الاجتماعية السائدة في الحياة، في هذه الحالات نكون في حاجة للتنقيب تحت هذا الدين الرسمي، عن البناء الديني الحقيقي. وبالتالي فقد يعتبر البعض نفسه «متدينا» بالمعنى الضيق للكلمة، بينما هو في حقيقة الأمر «لا ديني» مثلا؛ لأن النموذج الحقيقي الذي يفسر سلوكه ومبادئه وحركته في الحياة ليس هو الدين المسيحي أو الإسلامي.
8
في نهاية العرض أقول: أحيانا ما ننظر لمثل هذه النوعية من الكتابات بطريقة تمنعنا من الاستفادة الكاملة منها؛ كلما وجدنا كتابا أجنبيا يهاجم الغرب أو ينتقد جوانب معينة في مساره، استخدمناه لتبرير أوضاعنا، وكأننا المقابل الآخر للغرب وعيوبه. نهاجم الغرب بكلماته دون أن ندرك أننا ربما نملك نفس هذه العيوب التي نعيبها عليه وأكثر، ونفتقر في المقابل إلى الكثير مما يميزه. من ناحية أخرى نحتاج لكي نستفيد من تجربة الغرب، إلى الاطلاع على الكتابات التي نقد بها ذاته، نحتاج إلى معرفة العيوب والعثرات مع الميزات ونقاط القوة. وهذا الكتاب واحد من كتب كثيرة، تعالج الموضوع من وجهات نظر متنوعة ومتعارضة، لا أقول بعرضي له إن كل ما يقوله صحيح؛ لكنه يعرض نقاطا مثيرة للاهتمام، وبه طريقة مختلفة للنظر للأمور وصياغتها، وأظن أن مطالعته مطالعة متأملة ستثري وتفيد من يقرؤه.
الكتاب: الإنسان بين الجوهر والمظهر: نمتلك أو نكون.
Bilinmeyen sayfa