3
مع تكرار كتابة قصص وروايات وسيناريوهات أفلام تتناول فكرة السفر عبر الزمن، أصبحت فكرة مألوفة للكثير منا، لم تعد تثير دهشتنا بنفس الدرجة، ولم تعد صعبة الفهم أو التصور بالنسبة لنا؛ وهو ما يجعلنا ككتاب وقراء ومشاهدين ننتبه إلى جوانب أخرى من القصص التي تحتوي ضمن أحداثها على سفر عبر الزمن. فكرة السفر عبر الزمن هي أحيانا مجرد خلفية أو حيلة لمناقشة أسئلة وقضايا وجودية، يمكننا أن نتواصل معها ونحس بالألفة معها رغم أنها تحدث في سياق خيالي؛ لأن البطل الذي يعود بالزمن، والأسئلة التي تتمخض عن هذه العودة حول إمكانية تغيير الماضي أم لا، هي أسئلة قديمة مرتبطة بفكرة القدر، والمصير، والاختيار، والحتمية.
للتوضيح يمكن تخيل أن يكتب أحدهم معالجة عصرية لقصة «أوديب» مثلا، فيستبدل السفر عبر الزمن بالنبوءة التي بدأت بها المسرحية اليونانية؛ كأن تبدأ بمسافر من المستقبل يجيء محملا بالمعرفة المشئومة، يجيء لمنع حدوث الواقعة، ثم يمكن للمعالجة الحديثة أن تكمل أحداث المسرحية الأصلية دون تغيير كبير. ستظل الأسئلة التي تطرحها المسرحية واحدة، وسيظل إحساسنا بالتعاطف مع البطل الذي يحارب بلا جدوى مصيره المحتوم. وفي إطار سعي أبطال المسرحية لتفادي النبوءة التي بدأت بها الحكاية، يلعبون في الحقيقة أدوارهم في تحقيق هذه النبوءة.
أيضا قصة «أهل الكهف»، سواء في معالجتها القرآنية أو في معالجة توفيق الحكيم المسرحية لها، تتضمن السفر عبر الزمن. ففي بعض القصص الحديثة، نشاهد البطل الذي يتم تجميده لمدة عقود أو قرون ليستيقظ بعد ذلك في زمن آخر لا يألفه (يحضر في ذهني الآن فيلم
Demolition Man 1993
على سبيل المثال). وفي معالجته لقصة أهل الكهف، يستغل الحكيم القصة القرآنية ليصوغ تساؤلاته عن الزمن، والقدر، والحب، والموت. يقول الحكيم على لسان «مشلينا» في ختام المسرحية:
إنا لسنا حلما. لا، بل الزمن هو الحلم! أما نحن فحقيقة. هو الظل الزائل ونحن الباقون، بل هو حلمنا. نحن نحلم الزمن، هو وليد خيالنا وقريحتنا ولا وجود له بدوننا. إن عقلنا المادي المحدود منظم جسمنا المادي المحدود، آلة المقاييس والأبعاد المحدودة، هو الذي اخترع مقياس الزمن. أولم نعش ثلاثمائة عام في ليلة واحدة فحطمنا بذلك هذا المقياس؟ نعم، لقد استطعنا أن نمحو الزمن، تغلبنا عليه (لحظة) لكن - وا أسفاه! بريسكا - ماذا يحول بيني وبينها الآن؟ الزمن؟ نعم محوناه، ولكن ها هو يمحونا؛ الزمن ينتقم. إنه يطردنا الآن كأشباح مخيفة، ويعلن أنه لا يعرفنا، ويحكم علينا بالنفي بعيدا عن مملكته. ربي! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتراها انتهت بالنصر له؟ (بعد لحظة منهوكا) آه ... لقد تعبت ... تعبت من الكلام ومن التفكير ... ومن الحياة، بل من ... الحلم ... هذه ليست الحياة ... بل هي حلم مشوش مضطرب.
4
أحداث هذا الفيلم أبعد ما تكون عن الواقع، وعن أي تخيل لما هو ممكن الحدوث، والغرائبية فيه ليست مقصورة على فكرة السفر عبر الزمن، بل تحس أن هذا السفر هنا هو مجرد حيلة ليتمكن من تقديم استعاراته وصوره الخاصة. ومع ذلك نحس كمشاهدين بالتوحد مع البطل. مع نهاية الفيلم، نحس كما في الأساطير الإغريقية بعجز البطل، وبعبثية مسعاه. وربما أيضا تدفعنا التجليات المتنوعة لذات البطل(ة) في المراحل المختلفة، للتفكير في التغير الكبير الذي يطرأ على ذواتنا مع مرور الزمن. حضور النسخ المختلفة وصراعها، جعلني أفكر في الزوايا المختلفة التي يمكن رؤية ومعايشة نفس الموقف من خلالها، بحيث يكون ما يرفضه البطل من زاوية ما، وفي زمن بعينه، ويشعر بالغضب إزاءه، هو نفسه ما يحس بحتميته، ويقع تحت وطأته في سياق مختلف قليلا أو كثيرا، وهو ما يذكرني بكتاب لم أقرأه بعد لبول ريكور عنوانه: «الذات عينها كآخر».
آنست نارا
Bilinmeyen sayfa