من ذا الذي يحركك، إن لم يكن الإحساس هو ما يحدوك؟
يحركك ضياء يتخذ في الأعالي شكلا
بذاته أو بإرادة تتنزل به •••
هنالك انسحب عقلي داخل ذاته
بحيث لم يعد يطرقه طارق
يمكن أن يتلقاه ويدركه.
يقينا أننا في تلك اللحظات العالية التي يتيحها الفن، مؤهلون للاعتقاد بأننا كنا في حوزة انفعال آت من عالم الواقع، وسيتعين على الذين يرون هذا الرأي أن يقولوا بأن جميع الأشياء تمتلك الخامة الأولية التي يصنع منها الفن - أي الواقع، حتى الفنانون لا يمكنهم أن يقبضوا على الواقع إلا عندما يردون الأشياء إلى أنقى حالات وجودها - إلى الشكل الخاص، ما لم يكونوا من أولئك الذين يبلغونه على نحو سري دون عون من عناصر خارجية، وفي جميع الأحوال لا يمكن التعبير عن حس الواقع إلا في شكل خالص، وربما يتبين، وفقا لهذه الفرضية. إن الخاصة التي تميز الفنان عن بقية الخلق هي أنه يمتلك القدرة على القبض على الواقع على نحو مضمون ومتكرر (ومن خلال شكل خالص في عامة الأحوال)، ويمتلك القدرة على التعبير عن حسه بالواقع، في شكل خالص دائما، غير أن الكثير من الناس، رغم شعورهم بالدلالة الهائلة للشكل، يشعرون أيضا بكراهة حذرة تجاه الكلمات الكبيرة، و«الواقع» كلمة جد كبيرة. يفضل هؤلاء أن يقولوا إن ما يكشف عنه الفنان وراء الشكل، أو يقبض عليه بقوة الخيال المحضة، هو الإيقاع الذي يغمر كل الأشياء ويبث فيها الحياة، وقد سبق أن قلت إنني لن أعترض مطلقا على هذه الكلمة الموفقة «الإيقاع»
rhythm .
إن الموضوع النهائي لانفعال الفنان سوف يبقى إلى الأبد غير مؤكد، ولكني أعتقد أننا، ما لم نفترض أن جميع الفنانين كاذبون، يجب أن نفترض أنهم يشعرون فعلا بانفعال ما، وهو انفعال بمقدورهم أن يعبروا عنه في شكل، وفي شكل فقط، ولنلحظ جيدا هذه النقطة الإضافية: يحاول الفنانون أن يعبروا عن انفعال، لا أن يدلوا بتقارير عن الموضوع النهائي أو المباشر لهذا الانفعال، وبالطبع إذا كان انفعال الفنان آتيا إليه من (أو من خلال) إدراك للأشكال وعلاقات الأشكال، فسيكون حريا أن يعبر عنه في أشكال مستقاة من تلك التي أتت منها، غير أنه لن يتقيد برؤيته بل بانفعاله وحده، ليس ما رآه هو الذي سيحكم تصميمه بالضرورة بل ما أحسه، هل الصلة بين أشكال العمل المبدع وأشكال العالم المنظور هي صلة واضحة أم صلة مبهمة، موجودة أم غير موجودة؟ تلك مسألة غير ذات بال على الإطلاق، فما ارتاب أحد قط في أن إناء خزفيا من عهد أسرة سنج أو كنيسة رومانسكية كانت تعبيرا عن انفعال، شأنها تماما شأن أي لوحة رسمها راسم في أي يوم، فماذا كان موضوع انفعال الخزاف؟ وماذا كان موضوع انفعال مشيد الكنيسة؟ أكان شكلا متخيلا ما، هو مركب من مائة رؤية مختلفة لأشياء طبيعية، أم كان تصورا ما للواقع لا صلة له بالخبرة الحسية وبعيدا تماما عن العالم الفيزيائي؟ هذه أسئلة وراء كل تخمين، وعلى أية حال فالشكل الذي يعبر فيه الفنان عن انفعاله لا يحمل أي تذكرة بأي شكل خارجي يحتمل أن يكون قد أثاره؛ فالتعبير لا يتقيد على أي نحو بأشكال الحياة أو انفعالاتها أو أفكارها، وليس بالإمكان أن نعرف على وجه الدقة ما الذي أحسه الفنان، إنما نعرف فقط ماذا أبدع، وإذا كان الواقع هو هدف انفعاله فإن الطرق إلى الواقع طرق عديدة؛ فبعض الفنانين يبلغون الواقع من خلال مظهر الأشياء، وبعضهم يبلغونه بمجموعة من المظاهر، وبعضهم يبلغونه بقوة التخيل المحضة.
لماذا تطربنا كل هذا الطرب ضروب معينة من تضام الأشكال؟ لا أود أن أرد على هذا السؤال ردا إيجابيا، ولست مضطرا إلى ذلك؛ لأن هذا السؤال ليس سؤالا إستطيقيا، على أنني أقترح بالفعل أن سبب طربنا هو أن هذه التضافرات الشكلية تعبر عن انفعال معين قد أحسه الفنان، رغم أني أتردد في البت بأي شيء عن طبيعة ذلك الانفعال أو موضوعه، فإذا ما حظي اقتراحي بالقبول فإنه سوف يزود النقد بسلاح جديد، وهو سلاح جدير بأن نتأمل لحظة في طبيعته. إن الناقد إذ يتخطى انفعال الفنان وموضوع انفعاله، فإنه سيكون قادرا على كشف النقاب عن الشيء الذي يضفي على الشكل دلالته، وسيكون قادرا على أن يفسر لماذا تكون بعض الأشكال دالة وبعضها غير دال، وهو بذلك سيتمكن من دفع جميع أحكامه خطوة إلى الخلف. ولأضرب مثالا لتوضيح ذلك: تنقسم اللوحات المنسوخة إلى فئتين؛ فئة تتضمن بعض الأعمال الفنية، والأخرى لا تتضمن ذلك؛ فالنسخة الحرفية قلما تعد عملا فنيا حتى في رأي صاحبها، إنها لا تخلف فينا شعورا، إن أشكالها غير دالة، إلا أنها إذا كانت نسخة مطلقة الدقة فمن الواضح أنها ستكون محركة للمشاعر قدر النسخة الأصلية، وكثيرا ما تكون النسخة الفوتوغرافية لإحدى اللوحات مساوية في تأثيرها تقريبا للنسخة الأصلية، ومن البديهي أن تقليد عمل فني بدقة هو أمر محال؛ فالفروق بين النسخة والأصل مهما تكن طفيفة هي فروق ماثلة يحس بها على الفور. حتى هذا الحد يقف الناقد على أرضية صلبة، وحتى هذه اللحظة يقف على أرضية مألوفة أيضا. إن النسخة لا تثيره لأن أشكالها ليست مطابقة لتلك التي بالأصل، وإن ما يجعل الأصل مثيرا هو بالضبط ما يذهب به النسخ، ولكن لماذا يتعذر رسم نسخة مطلقة الدقة؟ يبدو أن تفسير ذلك هو أن الخطوط الحقيقية والألوان والفراغات في عمل فني تتسبب عن شيء ما في عقل الفنان، وهو شيء غير موجود في عقل المقلد. إن اليد لا تطيع العقل فحسب، بل إنها لعاجزة عن مد الخطوط والألوان بطريقة معينة ما لم تخضع لتوجيه حالة ذهنية معينة،
Bilinmeyen sayfa