تصدير
الشعر وفنونه
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
الشعر والوجدان الفردي
المضمون والصورة
خلاصة
الشعر العربي وتطوره
مدارس الشعر العربي الحديث
تصدير
الشعر وفنونه
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
الشعر والوجدان الفردي
المضمون والصورة
خلاصة
الشعر العربي وتطوره
مدارس الشعر العربي الحديث
فن الشعر
فن الشعر
تأليف
محمد مندور
تصدير
لقد اعتمدت في استخلاص العصارة التي ضمنتها هذا الكتيب، العزيز على نفسي، على نوعين من الدراسة، أولهما: الدراسة التاريخية لتطور الشعر عندنا وعند غيرنا من الدول؛ لكي أظل مرتكزا على ما أنتجت البشرية فعلا من شعر. وثانيهما: النظريات الأدبية والفنية، والمذاهب التي ظهرت عبر التاريخ. وكل ذلك لكي أستخلص في النهاية المقومات الأساسية التي لا يمكن أن ينهض الشعر بدونها، طبقا لأهدافه. فالشعر لا بد أن يثير فينا إحساسات جمالية وانفعالات وجدانية، وإلا فقد صفته. ولتحقيق هذه الأهداف هناك عدة وسائل أو خصائص لا بد من توافرها فيه: كالوجدان في مضمونه، والصور البيانية في تعبيره، وموسيقى اللغة في وزنه.
فإن كنت قد وفقت إلى ما قصدت إليه بفضل المنهج الذي اخترته، كان هذا خير جزاء على ما بذلت من جهد في استخلاص هذه العصارة، وتقديمها إلى القراء عامة في أبسط تعبير وأوضحه، ودون أن أثقل صفحات الكتيب بهوامش أو مراجع مما لا يتفق وطبيعة هذه المكتبة الثقافية التي توخت الوزارة أن تكون في متناول أكبر عدد من القراء، وإن كان المتخصصون يمكن أن يجدوا فيها هم أيضا بغيتهم.
محمد مندور
الشعر وفنونه
لم يعد الحديث عن الأدب عامة والشعر بخاصة من البساطة واليسر على نحو ما كان عند أجدادنا السابقين من العرب، بل أصبح من العجز أن نردد اليوم في محاولة تعريفنا للأدب وفنونه أمثال تلك التعاريف الساذجة التي كان يرددها أجدادنا مثل قولهم: «إن الأدب هو الإلمام من كل شيء بطرف»، وقولهم: «إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى»، بعد أن أصبحت الثقافات العالمية تعج اليوم بمختلف الفلسفات الجمالية ومذاهب الأدب والفن؛ حتى أصبح لزاما علينا أن نعيد فهمنا للأدب عامة والشعر بخاصة على ضوء تلك الثقافات العالمية؛ حتى لا نظل متخلفين عن ركب الإنسانية العام.
ويحس من يريد أن يتحدث اليوم عن فن من فنون الأدب بحاجة جذرية إلى أن يبدأ من الكليات حتى يستطيع أن يرسي حديثه على أسس عامة تحدد وتوضح حقائق الأشياء، وكأنه يبدأ هذا الحديث بأبجدية الفن والأدب.
ومن هنا يجدر بنا أن نحاول أولا: الاتفاق على تعريف يجمع ما تصطلح الإنسانية اليوم على تسميته أدبا، ويمنع ما لا تعتبره داخلا في الأدب من أنواع الكتابات الأخرى؛ فنقول: إن الأدب هو كل ما يثير فينا - بفضل خصائص صياغته - انفعالات عاطفية أو إحساسات جمالية.
والأدب لا يزال ينقسم كما قال العرب القدماء إلى شعر ونثر، وإن تكن الفنون التي تنطوي تحت كل قسم تختلف اختلافا بينا عند الغربيين عنها عند العرب.
فالنثر - في تقاليد الأدب العربي - كان لا يدخل في مجال الأدب إلا إذا كان نثرا فنيا؛ أي في الغالب نثرا مصنوعا كنثر الرسائل والخطب والمقامات والأمثال السائرة، وذلك بينما يشمل النثر الأدبي عند الغربيين الكثير من الكتابات الفلسفية والتاريخية والاجتماعية، فضلا عن النثر في معناه الضيق الذي يشمل القصة والأقصوصة والمقالة والسيرة والمسرحية، وهو أدب أخذنا نحتذيه منذ نهضتنا المعاصرة؛ حتى وجدت لدينا كل الفنون النثرية، بينما اختفت فنون النثر العربي القديمة أو الكثير منها: كالمقامة وما إليها بعد أن تحلل نثرنا الحديث من الصنعة اللفظية التي كانت عماد تلك الفنون القديمة.
وأما الشعر فقد ميز الأوروبيون في مجاله منذ عصر الإغريق القدماء ثلاثة فنون كبيرة، لكل منها خصائصه وأهدافه، وهي: شعر الملاحم، والشعر التمثيلي، والشعر الغنائي، وذلك بينما لم يعرف العرب القدماء في مجال الشعر غير فن واحد، وهو الفن الغنائي، حتى إذا اتصلنا بالغرب ودرسنا آدابه، وتبينا فيها تلك الفنون المختلفة، أخذنا نحاكيها كما فعلنا في مجال النثر الأدبي، وذلك حين كان بعض تلك الفنون الشعرية الكبيرة قد انقرضت في الغرب، أو أخذت سبيلها نحو الانقراض، وحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين مات البعض الآخر ولم يعد يستطيع الحياة بعد أن تطورت الإنسانية، وأصبحت عاجزة عن أن تأتي فيه بمثل ما أتى الشعراء القدماء في فجر الإنسانية، ونعني بذلك شعر الملاحم، وكأننا بذلك نود أن نعود فنمر بجميع المراحل التي اجتازها الأدب في الغرب، وذلك بدلا من أن نجاري تطور الإنسانية العام، فندرك أن الشعر أوشك أن يصبح اليوم مقصورا على الفن الغنائي، وأن التجديد والإبداع في الشعر إنما يتركز اليوم في هذا الفن، وأن معارك الشعر الأدبية إنما تدور عند الغرب في العصر الحديث حول وسائل وأهداف ذلك الفن الغنائي.
ومع ذلك فإنه على الرغم من تطور فنون الشعر على النحو الذي ذكرناه، فإنه لا يزال من الأهمية بمكان أن نوضح وأن نتفهم أصول وأهداف كل فن من هذه الفنون؛ لكي نستطيع فهم مذاهب الأدب المختلفة، ومدى انطباقها أو تأثيرها على كل من هذه الفنون، كما ندرك أسباب نجاح كل مذهب في السمو بأحد تلك الفنون دون الفنون الأخرى على نحو ما نلاحظه من أن المذهب الكلاسيكي مثلا قد أدى إلى تفوق الشعر التمثيلي تفوقا لم يستطع أن يلاحقه أو يدنو منه الشعر الغنائي عند الكلاسيكيين، وذلك على حين نلاحظ على العكس أن الرومانسية قد أنتجت شعرا غنائيا يبذ في قيمته الإنسانية والفنية، الشعر التمثيلي الذي أنتجه الرومانسيون، كل هذا على حين فشل شعر الملاحم عند الفريقين بل عند جميع المحدثين.
أما شعر الملاحم فقد ازدهر في فجر الإنسانية، وهو الشعر الذي يقص أنباء المعارك والبطولة والأبطال على نحو ساذج خال من التعقيدات العقلية والفنية، حتى ليظن أن الملحمتين اللتين تعتبران المثل الأعلى لهذا الفن وهما: الإلياذة والأوديسة لم يبتكرهما شاعر بعينه إنما ابتكر أجزاءهما المختلفة شعراء شعبيون متعددون، ثم جاء هوميروس - إذا سلمنا بصحة وجوده التاريخي - فوعى في ذاكرته كل تلك الأجزاء، ولربما أضاف إليها أجزاء من ابتكاره، ثم أخذ يجوب بلاد اليونان ومعه قيثارته أو ربابته منشدا على نغماتها تلك الأشعار الرائعة بما فيها سحر البساطة ونضرة الجمال الذي يشبه جمال الطفولة، حتى إذا جاء القرن الخامس قبل الميلاد، رأى بيز ستراتوس حاكم أثينا أن يؤلف لجنة من الأدباء والشعراء؛ لتدوين هاتين الملحمتين حفظا لهما من الضياع. ولما كان الخيال الشعري قد احتفظ بذكرى هوميروس الشاعر الضرير، وتوارثت الأجيال أنباء شهرته الذائعة فقد نسبت الملحمتان إليه، وهما تقصان بعض أحداث تلك الحرب الضروس التي نشبت فيما بين القرنين العاشر والحادي عشر قبل الميلاد بين بلاد اليونان ومملكة طروادة في آسيا الصغرى، نتيجة لخطف باريس أحد أمراء طروادة لهيلانة زوجة منيالاس الملك اليوناني أثناء رحلته البحرية إلى بلاد اليونان. ولما كانت اللغة اليونانية عندئذ موحدة المستوى، ولم تكن هناك لغة عامية ولغة فصحى، كما كانت أوزان الشعر وأصوله موحدة؛ فإن هذا الشعر لم يعتبر شعبيا بالنسبة إلى غيره من الشعر الثابت النسبة لشعراء معينين، بل على العكس اعتبر التراث الأدبي الأول عند اليونان؛ حتى رأينا شعراء التمثيليات يعترفون بأن مسرحياتهم ما هي إلا فتات تساقط من مائدة هوميروس.
وسار الزمن سيرته، وأخذت الثقافة تنمو، وبنموها أخذت الطبيعة الإنسانية تتعقد وتبتعد عن الطفولة الأولى، كما أخذت فنون الأدب الأولى - وبخاصة الشعر - هي الأخرى تتعقد وتبدأ فيها بوادر الصنعة اللفظية، ومع ذلك استطاع فرجيل شاعر الرومان أن يضع لبني وطنه ملحمتهم، وهي: الإنيادة التي تقص أنباء جدهم الأعلى البطل أتيوس وتأسيسه لمدينة روما، وما كان له من معارك ومغامرات في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضا. وعلى الرغم من براعة فرجيل الفنية، ونمو ثقافته وتفكيره، فإن أدباء العالم كله لا يزالون يؤثرون الإلياذة والأوديسة على الإنيادة؛ وذلك لسحر بساطتهما وجمال شعرهما التلقائي.
وفي العصور الحديثة حاول عدد من الشعراء في اللغات المختلفة، ابتداء من عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر كتابة ملاحم، لكنهم فشلوا جميعا، وطوى الزمن ملاحمهم في جوف أمواجه، ولم تعد الإنسانية تقرأ وتعجب إلا بالملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة والإنيادة في الغرب، والمهبراته والرميانا في الهند، والشاهنامة في فارس.
والواقع أن الآداب الفنية في العصر الحديث، قد تركت فن الملاحم للآداب الشعبية، بل في استطاعتنا أن نلاحظ أن العصر الحديث قد أخذت تختفي منه أيضا الملاحم الشعبية، وذلك باختفاء شعراء الربابة المتجولين تدريجا بعد أن تطورت الإنسانية وتعددت لديها وسائل التسلية الآلية كالراديو وغيره، بل بعد أن تعقدت الطبيعة البشرية بنمو الثقافة والتفكير الوضعي، وانقضاء روح الطفولة الغضة بين البشر.
وهكذا نستطيع أن نسجل أن فن الملاحم انتقل بعد العصر القديم من الأدب الفني إلى الأدب الشعبي، ثم انتهى به الأمر إلى الاختفاء فلم تعد الإنسانية تبتكر ملاحم جديدة، وإن ظلت تطرب للملاحم القديمة فنية كانت أم شعبية؛ بحيث يتضح لنا أن محاولة بعض شعرائنا المحدثين كتابة ملاحم إنما هو ضرب من المجازفة التي تتنافى مع حقائق الأدب المعاصر، بل حقائق النفس الإنسانية. وما نظن أن أحدا منهم يستطيع أن يهيئ في نفسه تلك الطفولة الغضة والسذاجة الساحرة التي يكمن فيها جمال الملاحم القديمة.
هذا، والملاحظ أن الملاحم كانت تتناول معارك وبطولة الماضي السحيق الذي جعل منه الخيال الشعبي والرواية الشفوية ما يشبه الأساطير وخوارق الأمور. والعالم اليوم لم يعد يخترع أساطير، كما أن اختراع الكتابة وتدوين التاريخ لم يعودا يسمحان بتحويل أحداث الماضي إلى خوارق وأساطير، ومن باب أولى أحداث الحاضر؛ بحيث يستطيع أحد شعرائنا المعاصرين أن ينظم قصيدة قصصية أو حماسية طويلة عن حرب فلسطين مثلا دون أن نستطيع إدخالها في فن الملاحم الذي تميز بخصائصه المحددة التي لم يعد يجهلها أحد من عامة الأدباء والدارسين في الغرب.
هذا، وقد ترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس شعرا، وكتب لها مقدمة ضخمة عن الشعر ونشأته وفنونه وأوزانه، لكننا نلاحظ أن هذه المقدمة هي التي تقرأ اليوم أكثر مما تقرأ الترجمة؛ وذلك لجهامة الأسلوب الذي استخدمه، وبعده عن سحر الأصل اليوناني وسذاجته.
كما ترجمت هي وغيرها من الملاحم القديمة إلى اللغات الأوروبية الحية جميعها، ومن بين تلك التراجم النثرية والشعرية ما يقارب الأصل في جماله، لكنه لا يلحق به، ومع ذلك فباستطاعة القارئ لترجمة إنجليزية أو فرنسية، فضلا عن الأصل اليوناني؛ أن يتبين عناصر السحر في تلك الملاحم، وملامح تلك السذاجة الغضة التي تتفتح لها النفس، بل باستطاعتنا أن نحيل السامع لحسن الحظ إلى عدة ترجمات ودراسات ظهرت حديثا في لغتنا العربية عن الملاحم القديمة، مثل: الترجمة الدقيقة التي نشرها الأستاذ أمين سلامة للإلياذة في مطبوعات «كتابي»، ومثل ترجمة ودراسات أديبنا الكبير الأستاذ دريني خشبة لأشعار هوميروس، وأساطير اليونان الأقدمين، ومثل التراجم التي صدرت لبعض ملاحم الشرق مثل: ترجمة أستاذنا المرحوم عبد الوهاب عزام لشاهنامة الفردوسي، والمحاولات التي بذلت لترجمة المهباراتة.
ولا أدل على السذاجة الساحرة لتلك الملاحم من أن نرى هوميروس مثلا لا يحاول أن يستقصي وصفا، أو يحلل نفسا بشرية أو موقفا إنسانيا، بل يقذف تلقائيا بصفة أو يلون صورا عابرة، ومع ذلك يوحي بأسمى خصائص الجمال وأقوى عناصر التأثير. فهو مثلا يتحدث عن هيلانة مثال الجمال الأعلى التي كانت السبب في نشوب الحرب بين طروادة وبلاد اليونان، كما يتحدث عن أندروماك زوجة هيكتور التي سبت الرجال بجمالها، ومع ذلك لا يصف جمال هيلانة إلا بصفة واحدة يلصقها باسمها، وتتكرر الصفة نفسها مع الاسم كلما جرى في شعره، وهذه الصفة هي «عمق الحزام» فاسم هيلانة لا يرد إلا مردفا بقوله «ذات الحزام العميق» وأندروماك لا يرد اسمها إلا مردفا بصفة لا تتغير وهي «ذات الذراع البيضاء» وأما ما دون ذلك من مواضع الفتنة والجمال عن هيلانة أو أندروماك فذلك ما لا يشير إليه هوميروس مكتفيا بتكرار اسميهما مردفا بكل منهما الصفة الخاصة به؛ بحيث يولد فينا هذا التكرار إحساسا عميقا بالجمال، ويطلق هذا الإحساس العنان للخيال لتصور ما شاء من مواضع الفتنة والجمال.
وأما عن فن هوميروس الخاطف في تصوير الحالات النفسية المعقدة بواسطة صور حية خاطفة دون تمهل عند التحليل النفسي أو الأخلاقي المعقد، فلسنا نجد له مثلا خيرا من موقف إنساني شعري رائع، صوره هوميروس في الأغنية السادسة من الإلياذة؛ حيث قص قصة وداع هيكتور بطل طروادة وزوجته الجميلة المحبوبة أندروماك ذات الذراع البيضاء قبل انطلاقه إلى المعركة التي لقي فيها حتفه، ولم تكن أندروماك تجهل خطورة تلك المعركة التي كان زوجها سيلقى فيها أخيل بطل اليونان «أخيل ذا القدم الخفيفة» وتشفق عليه من الموت الذي يتهدده، ومع ذلك لا تريد أن تنال من شجاعته ومن ثقته بنفسه بإظهار الجزع؛ فهي تتجلد، لكن الجلد يخونها عندما يتناول هيكتور من بين ذراعيها ابنهما الصغير لكي يقبله ثم يرده لأمه، في هذه اللحظة الحاسمة تظهر قدرة هوميروس الخارقة رغم بساطتها وانحصارها في صورة حسية خاطفة لقطتها ريشته، فجمعت فيها العواطف والانفعالات التي كانت تصطرع في نفس أندروماك في تلك اللحظة، وهذه الصورة هي قوله: «ورد إليها هيكتور الطفل فتلقته بابتسامة تبللها الدموع.»
وأما عن خصائص الصياغة الشعرية، فقد انفرد فيها أيضا هوميروس بوسائل تلقائية ساذجة هي مع ذلك غزيرة الشاعرية، ومن أبرز تلك الخصائص استخدامه لنوع من الصفات التي يسميها النقاد المحدثون بصفات «الماهية»
Epithètes de nature
وبيان ذلك أن الصفات في اللغات جميعها ليست كما نظن مجرد أدوات لتمييز شيء عن شيء آخر، مثلما نقول: رجل أبيض؛ لتمييزه عن الرجل الأسود أو الأصفر، إنما هناك نوع آخر من الصفات لا تستخدم للتمييز، بل تستخدم لإظهار الماهية؛ أي أنها صفات ملازمة لطبيعة الشيء الموصوف مثل قولنا مثلا «الله الخالد الباقي» فصفتا الخالد والباقي لا تستخدمان هنا لتمييز إله خالد باق عن إله غير خالد ولا باق، إنما تستخدمان لإظهار طبيعة أو ماهية الله. وقد أحس هوميروس بهذه الحقائق اللغوية فأكثر من استخدام صفات الماهية التي تكسب شعره قوة وجمالا ساذجا كقوله: «البحر المائي» وككل تلك الصفات التي يلحقها بأبطاله لإظهار بعض خصائصهم لا لتمييزهم عن غيرهم.
وها هو ذا وصف هوميروس لبدء المعركة، كما حكاه في الأغنية الرابعة من هذه الملحمة مأخوذا عن ترجمة الأستاذ أمين سلامة:
بدء المعركة «وكما يضرب البحر الثائر الشاطئ الصاخب موجة بعد موجة مسوقا بالريح الغربية، فترفع الأمواج رأسها على سطح اليم أولا كالصخرة العالية، ثم تتكسر بعد ذلك على الشاطئ مدوية بصوت كقصف الرعد ناثرة زبدها من الماء الملح ... هكذا تحركت فرق الدانيين في ذلك اليوم، صفا بعد صف، دون توقف، إلى القتال، وأصدر كل قائد أمره إلى رجاله، بينما تقدم الباقون في صمت، وما كان يخيل إليك أن لتلك الجموع المتحركة أي صوت، بل كانوا جميعا صامتين كأنهم يخافون قادتهم، وكانت الدروع المرصعة تتلألأ على جسم كل رجل، وهم يسيرون. أما الطرواديون فكما تقف النعاج في جماعات لا تحصى في ساحة أحد الأثرياء ليحلب لبنها الأبيض، وتثغو دون هوادة كلما سمعت أصوات حملانها. هكذا أيضا ارتفع صياح الطرواديين في جميع صفوف الجيش الفسيح؛ لأنهم لم يكونوا كلهم يتكلمون لغة واحدة، بل خليطا من اللغات، وقد جمعوا من بلاد كثيرة يدفعهم «أريس» كما كانت الربة «أثينا» المتألقة العينين تدفع الآخيين الأغارقة، وتدفعهم معها آلهة الهلع والشغب والشقاق، وكانت الأخيرة - التي لا تهدأ ثائرتها - هي شقيقة ورفيقة أريس قاتل البشر، وكانت تبدو قصيرة القامة في أول الأمر حتى إذا اعتدلت في وقفتها طاول رأسها السماء، ووطئت قدماها الأرض في وقت معا، وإنها لتشعل الآن روح البغضاء الشريرة وهي تطوف بين الجموع لتزيد في أنات الرجال.
فلما التقى الجيشان الآن، وأصبحا في مكان واحد، التحما معا بالتروس والرماح، وكان المحاربون جميعا يرتدون دروعا من البرونز، فاصطكت التروس المطعمة بعضها مع بعض، وارتفع رنينها الصاخب، وبعد ذلك سمع صوت الأنين وصيحات النصر في وقت واحد من القاتلين والمقتولين، وفاضت على الأرض الدماء، وكما يحدث عندما تتدفق سيول الشتاء هابطة من الجبال من ينابيعها العظيمة إلى مكان يلتقي فيه واديان، فيجتمع فيضها القوي ليصب في مضيق عميق، ويسمع الراعي صخبها من بعيد وسط الجبال؛ هكذا أيضا ارتفع الصياح والصخب من التحام أولئك وأولئك في القتال، وكان أنتيلوخوس أول من قتل محاربا طرواديا في كامل عدته الحربية، رجلا عظيما من مقاتلي الصفوف الأولى، هو «أنجيبولوس بن ثالوسيوس» وقد ضربه الأول على قرن خوذته المزينة بخصلة من شعر الخيل، فانطلق الرمح إلى داخل جبهته، ونفذت السن البرونزية داخل العظم؛ فخيم الظلام على عينيه ، وسقط في الصراع العنيف محطما كالجدار، وإذ ذاك أمسك «أليفينور» بالقتيل من قدميه - وكان هذا ابن «خالكودون» وقائد «الأيانتيس» ذوي النفوس العالية - وحاول جذبه من تحت السهام جاعلا همه أن يجرده من درعه بمنتهى السرعة، لكن لم تلبث محاولته هذه غير فترة وجيزة؛ إذ بينما كان يسحب الجثة أبصر به «أجينور» العظيم النفس، ولما كان جنبه بدون وقاية وهو منحن أهوى عليه هذا برمحه ذي الطرف البرونزي فقطع أوصال أطرافه، وفي الحال فاضت روحه، وانهال على جثته سيل مرير من الطرواديين والآخيين، وشرعوا كالذئاب يقفزون الواحد فوق الآخر، وراح الرجل منهم يدحرج الرجل على الأرض.»
وأما فن الأدب التمثيلي فقد كان يصاغ هو الآخر عند اليونان الأقدمين شعرا، سواء منه المآسي والملاهي، بل كان يجمع فيه من الشعر والغناء والموسيقى والرقص؛ حيث ترى أجزاء المسرحية الإغريقية القديمة تتكون من مشاهد حوارية، وأغنيات للجوقة مصحوبة بحركات من الرقص البدائي ونغمات موسيقية ساذجة، وتتعاقب هذه الأجزاء المختلفة؛ الواحدة بعد الأخرى حتى نهاية المسرحية. •••
وعندما بدأت حركة البعث الأوروبي في القرن الخامس عشر، وعاد الأوروبيون إلى الأدب الإغريقي القديم يحتذونه، بل يستمدون منه مواضيع مسرحياتهم؛ رأيناهم في أول الأمر يجمعون في المسرح بين الحوار وبين المقطوعات الغنائية، لكن هذا النوع من المسرحيات لم يدم طويلا؛ فلم تلبث الكلاسيكية أن تكونت، وفيها انفصل فن التمثيل القائم على الحوار عن الغناء، وإن ظلت المسرحيات الجدية والهزلية تنظم شعرا على نحو ما نلاحظ عند كورني وراسين وموليير في فرنسا مثلا.
وإذا كان بعض كبار شعرائنا المعاصرين كشوقي وعزيز أباظة قد كتبوا بعض المسرحيات الشعرية، فإن محاولتهم قد استهدفت للكثير من النقد على الرغم من قوة الشاعرية، كما أن نجاحها المسرحي ظل محدودا. •••
وأخيرا هناك فن الشعر الغنائي، وهو شعر القصائد والمقطوعات، وهو إذا كان قد اتخذ عند العرب صورة محدودة ثابتة هي القصيدة ذات الوزن الواحد والروي الواحد والقافية الواحدة والمستقلة الأبيات؛ فإنه قد اتخذ عند الغربيين منذ القدم صورا وأشكالا متباينة، وكان لكل صورة تركيبها الموسيقي الخاص، كما ارتبطت بعض التركيبات الموسيقية بالأغاني الشعرية المختلفة؛ فلأغاني الحماسة والنصر مثلا تركيب موسيقي يختلف عن أغاني الغرام أو أغاني الرعاة أو الأغاني الريفية، وإذا كانت النزعة الذاتية قد غلبت على الشعر العربي فإن الشعر الغنائي عند الغرب قد جمع بين الذاتية والموضوعية، بل إن هناك من القصائد التعليمية الطويلة ما يرتفع إلى ذرى الشعر، كقصيدة «الأعمال والأيام» لهزيود اليوناني، وقصيدة «طبيعة الأشياء» للوكريتوس الروماني، وذلك بفضل خصائص صياغتها الشعرية.
هذا والملاحظ أن الشعر الغنائي كان يتغنى به فعلا في فجر الإنسانية سواء عند العرب أو الإفرنج، وكلمة
Lirigue
الغربية مشتقة من كلمة
Lyre ؛ أي «عود». وفي موسوعة الشعر العربي وهي كتاب الأغاني نجد المؤلف يورد المقامات الموسيقية الخاصة لكل قصيدة وإن تكن اصطلاحاته قد أصبحت بالنسبة إلينا طلاسم ليس من السهل حلها، وإذا كان هذا النوع من الشعر قد تطور في الشرق والغرب من الغناء إلى الإنشاد بل وإلى القراءة الصامتة، فإن العنصر الموسيقي المتمثل في الوزن والإيقاع والانسجامات الصوتية لا يزال بالغ الأهمية في هذا الشعر، بل وأخذت أهميته تزداد في أواخر القرن التاسع عشر حتى رأينا الرمزيين يقولون إن الشعر موسيقى قبل كل شيء، وإن العنصر الموسيقي فيه يبذ في الأهمية المعاني والعواطف والصور الشعرية ذاتها باعتبار أن الموسيقى هي أقوى أداة للإيحاء، والشعر عندهم إيحاء أكثر منه تعبيرا لغويا صريحا واضحا.
هذا، والملاحظ كما سبق القول أن فن الشعر قد أوشك في العصر الحاضر أن ينحصر في هذا النوع الغنائي بعد أن اختفى شعر الملاحم، وبعد أن حل النثر محل الشعر في الأدب التمثيلي.
وبعد الفراغ من هذا الاستعراض السريع لتطور فنون الشعر، ننتقل إلى استعراض مماثل لتطور فلسفة الفن عامة والشعر بخاصة؛ لنرى كيف ساير التطور التاريخي السابق.
التطور الفلسفي
الكلمات التي يسمى بها الشعر في اللغات الأوروبية الحديثة مأخوذة كلها من الكلمة اليونانية القديمة
، وهذه الكلمة الأخيرة مشتقة بدورها من الفعل اليوناني
ومعناها «يعمل» أو «يصنع» أو «يخلق»، وعلى هذا الأساس يكون معنى «الشعر » الاشتقاقي عندهم «الخلق» أو الإبداع، ومع ذلك نرى الفيلسوف الأول أرسططاليس يرجع الشعر، بل الفنون الأخرى جميعها إلى ما يسميه بالمحاكاة: أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بشتى الوسائل التي تملكها الفنون المختلفة، وهي في حالة الشعر اللغة والموسيقى، وعند الفهم الصحيح لنظرية المحاكاة كما تحدث عنها أرسطو لا نجد هناك تعارضا بين معنى الشعر الاشتقاقي وحقيقته القائمة على المحاكاة؛ فأرسطو لم يقصد هو ولا غيره من المفكرين القدماء والمحدثين إلى القول بأن المحاكاة الفنية نقل آلي أو شبه آلي عن الطبيعة أو الحياة، ومثل هذا النقل هو وحده الذي تنتفي معه صفة الخلق والإبداع في الشعر بخاصة والفنون عامة، فالفنان أو الشاعر لا ينقل عن الطبيعة أو الحياة رأسا وبطريق مباشر آلي، وإنما ينقل عن الصورة التي تنعكس في نفسه عن بعض مشاهد الطبيعة أو الحياة، ولا أدل على ذلك من أن أرسطو لم يحصر المحاكاة فيما هو واقع في الطبيعة والحياة، بل رأى أنها كثيرا ما تكون محاكاة لما يمكن أن يكون أو لما يجب أن يكون، ولا يمكن أن تقتصر على ما هو كائن، وعلى هذا الأساس يميز أرسطو بين التاريخ والأدب؛ فالتاريخ يتقيد بما كان، بينما الأدب يحق له، بل يجب أحيانا، أن يعمل فيما كان من الممكن أن يكون؛ ولذلك يبحث الأدب عن العام المشترك، بينما ينحصر التاريخ في الخاص المفرد؛ فهو قد يصور مثلا استبداد «نيرون» ولكنه لا يصور الاستبداد في ذاته منطلقا من إطاري الزمان والمكان؛ ولذلك يقدم التاريخ أفرادا وشخصيات بينما يستطيع الأدب أن يقدم نماذج بشرية، وفي كل هذا ما يفسح المجال أمام الأدب عامة للخلق والإبداع؛ بحيث تقترب حقيقته عند أرسطو من المعنى الاشتقاقي للفظة الشعر في لغة أرسطو نفسه، أي اليونانية القديمة، وهو معنى الخلق والإبداع.
على أنه يلوح لنا أن أرسطو عندما أرجع الشعر إلى محاكاة الطبيعة والحياة إنما كان ينظر إلى فنين بالذات من فنون الشعر، وهما: فن الملاحم، وفن التمثيليات الشعرية؛ أي الفنين الموضوعيين قبل كل شيء ، وذلك بدليل أنه لم يتحدث عن فن الشعر الغنائي في كتابه الذي تحدث فيه عن الشعر عامة، وهو كتاب «الشعر»؛ إذ نراه يكتفي بأن يقسم الشعر إلى فنونه الثلاثة ثم يغفل بعد ذلك الحديث عن الشعر الغنائي؛ ليأخذ في تفصيل القول عن الفنين الآخرين اللذين يستقيم فهمهما، أو يمكن أن يستقيم، على ضوء نظرية المحاكاة باعتبار أن الملاحم والمسرحيات تعرض قطاعات من الحياة؛ أي تحاكيها بالمعنى الواسع للمحاكاة سواء أكانت تلك القطاعات من الماضي كما كان الحال في الملاحم والتراجيديات أو من الحاضر كما كانت الحال في الكوميديات، وبخاصة كوميديات أريستوفان.
وعلى ضوء هذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف أن الفلسفة الأدبية الكلاسيكية التي تقيدت بآراء أرسطو في الفن وبنظريته عن المحاكاة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن موضوعي من فنون الشعر كفن الشعر التمثيلي، كما نستطيع أن نفهم كيف أن الرومانسية التي تمردت على الكلاسيكية وعلى فلسفة أرسطو في الفن عامة والشعر بخاصة؛ قد اتجهت وأنتجت بنوع خاص في فن الشعر الغنائي الذي تفوقت فيه، وجعلت أساسه الفلسفي التعبير لا المحاكاة، فالشعر عند الرومانسيين تعبير عن الذات الشاعرة قبل كل شيء، ومن الغريب أن نلتقي هنا مع الرومانسية عندما ننظر في المعنى الاشتقاقي لكلمة «شعر» في لغتنا العربية؛ إذ من الواضح أن الشعر من الشعور، أي إنه هو ما أشعرك كما كان يقول شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري وإخوانه من رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر؛ إذ نلاحظ أن دعوتهم تلك لم تكن إلا رجوعا إلى المعنى الاشتقاقي للفظة «شعر» ولغتنا العربية، وإن يكن من الواضح أن اتصالهم بالشعر الغربي الغنائي هو الذي ردهم إلى هذا المعنى الاشتقاقي الخالد.
كان الرومانسيون إذن هم العامل الفعال في تغيير الأساس الفلسفي للفنون عامة والشعر بخاصة من المحاكاة إلى التعبير، وبفضلهم قوي الشعر الغنائي بينما أخذ الشعر الموضوعي يتراجع، وبخاصة في الفن الأدبي التمثيلي ليخلي مكانه للنثر.
وإغفال أرسطو الحديث عن الفن الغنائي في كتابه عن «الشعر» عامة؛ لا يزال موضع مناقشات وتكهنات بين المفكرين والباحثين، فمنهم من يرجح ما أشرنا إليه من عدم تمشي الشعر الغنائي باتجاهاته جميعها مع نظرية المحاكاة التي جعلها أرسطو أساسا للشعر بخاصة والفنون عامة، بينما يرى البعض الآخر أن أرسطو إنما أغفل الكلام عن الشعر الغنائي في كتابه «الشعر»؛ لأنه رأى أن الشعر الغنائي أدخل في مجال الموسيقى وألصق به من مجال الأدب. ويزعم أصحاب هذا الرأي أن أرسطو لم يكن يؤمن بأن الشعر الغنائي نفسه يخرج عن مجال المحاكاة؛ بدليل أن شعراء الإغريق ومفكريهم السابقين عليه كانوا أنفسهم يرون أن الشعر كله ضرب من المحاكاة، وباستطاعتنا أن نعثر في أقوالهم على ما يؤيد هذا الرأي مثل قول شاعرهم الغنائي سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، والشعر تصوير ناطق.» وواضح من هذه العبارة أن الشعر عند سيمونيدس شبيه بالرسم، ومن البديهي أن الرسم يسهل إرجاعه إلى المحاكاة، ولكننا نحسب أن مثل هذا القول إنما يصح على الشعر الوصفي، بينما يصعب تطبيقه على الشعر الوجداني الذي يبدو لنا أن أساسه الفلسفي هو حاجة الشاعر إلى التعبير لا ميله الغريزي إلى المحاكاة، وذلك ما لم ندفع الجدل إلى حد السفسطة الميتافيزيقية، فنزعم أن التعبير عن الوجدان ما هو إلا تصوير لحالات نفسية ومحاكاة لها.
ونحن إذ نفرغ إلى أن الشعر الغنائي بنوع خاص قد أصبح أساسه الفلسفي منذ الرومانسيين الحاجة إلى التعبير لا الميل الغريزي إلى المحاكاة.
ننتقل إلى النظر في هدف هذا التعبير لنرى هل هدفه كما يرى الفيلسوف كروتشي: التنفيس عن الذات الفردية دون نظر أو اعتبار إلى الجمهور المتلقي؛ أي إن الفنان يبدع لنفسه أولا وينفس عن عاطفته قبل أن يخاطب الجمهور، وبذلك نعثر على الأساس الفلسفي لما سميناه الشعر المهموس، أم أن الفنان يبدع كما قال تولستوي ليخاطب الغير ويعديه بمثل حالته النفسية التي يعبر عنها، وبذلك نجد أساسا فلسفيا لما يسمونه بالشعر الخطابي أو شعر المحافل ذي النغمات الرنانة الجهورية.
وإذا فرغنا إلى أن الشعر الغنائي تعبير عن الوجدان، ليشفي الشاعر نفسه، أو ليخاطب الغير وينقل إليه عدوى نفسه، فلا بد أن ننظر بعد ذلك في طبيعة هذا الوجدان، وهل هو الوجدان الفردي فحسب أم من الممكن أن يكون أيضا الوجدان الجماعي؛ بحيث لا يتحدث الشاعر عن آلامه وآماله وأشواق روحه الخاصة فحسب، بل يتحدث أيضا عن آمال شعبه وآلامه وأشواق روحه باعتبار أن وجدان الشاعر لا يمكن أن يكون ذاتيا خالصا في الأحوال العادية، وفي غير حالات الانعزال، أو الانطواء المرضي، أو الأثرة المسرفة، أو الغفلة التي لا تجعله يدرك أن وجدانه جزء من وجدان مجتمعه، متأثر به مؤثر فيه، وأن الشاعر مهما كانت أصالته إنما يتكون من رواسب ماضيه وماضي قومه، وإشعاع حاضرهم، وإرهاصات مستقبلهم.
ولا بد لنا أيضا من أن ننظر بعد كل ذلك في وسائل التعبير وطرائقه، وهل يكون هذا التعبير بالطريق المباشر وبالأسلوب التقريري الذي يكشف به الشاعر عن ذات نفسه، ويعرضها عارية محللة إلى عناصرها الأولية على القراء والسامعين، كما يفعل الرومانسيون، أم يحسن به أن يلجأ إلى الصورة والرمز فلا يفصح عن حالته النفسية، بل يلتقط صورا ترمز لتلك الحالة كما يفعل الرمزيون، وبذلك نعود إلى قول سيمونيدس إن الشعر تصوير ناطق، أو كما يقول بعض نقادنا العرب القدماء تصوير بياني.
وإذا فرغنا إلى أن الشعر عامة، والغنائي خاصة، تصوير بياني يجب أن ننظر في مجالات هذا الشعر، وهل للشعر كواحد من الفنون التعبيرية المتعددة مجال خاص كما حاول أن يثبت الناقد الألماني الكبير «لسنج» في كتابه «لاوكون» أم أن كل المجالات مباحة له حتى ولو اختلفت وسيلته عن وسائل الفنون الأخرى، كما يريد بعض الفلاسفة والنقاد المحدثين؛ بحيث يحق للشاعر أن يلج جميع الميادين دون أن يخشى التخلف في قوة التعبير والإيحاء عن غيره من الفنانين كالمصورين والنحاتين والموسيقيين.
وأخيرا لا بد أن نواجه مشكلة الصورة الشعرية التي كثيرا ما تقوم على المجازات والتشبيهات والاستعارات، لننظر في وظيفة هذه الصورة، وهل هي مخاطبة الحواس فحسب بأن يستند التشبيه إلى جامع من المظهر الشكلي، أم يخاطب الروح فيكون الجامع بين المشبه والمشبه به هو الواقع النفسي لكليهما؟ وبذلك ننتقل إلى الطرائق الرمزية في التعبير على نحو ما نحس في قول شاعر كبير مثل رابندرانات طاغور «السكون المشمس»؛ إذ من الواضح أنه لا يشبه هنا السكون بالإشماس، ولا يصفه به، وإنما يشبه وقع ذلك السكون المبهج في نفسه بوقع ضوء الشمس المشرقة؛ لأن المقصود بالتصوير البياني هو الإيحاء لا الإخبار، وهنا تجرنا نظرية الإيحاء إلى النظر في موسيقى الشعر، ومدى أهميتها في التعبير الشعري، هل هي جوهرية كما يزعم الرمزيون، أم أنها مجرد وسيلة كغيرها من وسائل التعبير الشعري!
كل هذه رءوس مسائل نرجو أن نعالجها في الأبواب القادمة مع ضرب أمثلة منتقاة من الشعر العالمي والشعر العربي على السواء، وتحليل تلك الأمثلة، وتطبيق النظريات الجمالية المختلفة عليها.
الشعر بين الإلهام والمحاكاة
لقد عرف اليونان القدماء الذين يعتبرون رواد الشعر العالمي منبعين أساسيين للشعر، قالت بأحدهما الأساطير الشعبية التي زعمت أن للشعر إلها يوحي به هو أبوللو، وربات لكل فن من فنونه كانوا يسمونها «الميز»، فلشعر التراجيديا ربة، ولشعر الكوميديا ربة، وللشعر الغنائي ربة ثالثة، وباستطاعتنا أن نجد شبيها لهذا التصوير الشعبي عند الكثير من الشعوب القديمة، فالعرب القدماء كانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا في مثل قولهم «لولا هبيد ما كان لبيد.» وإذا كان اليونان القدماء قد تصوروا أن لآلهة الفنون جبلا تقيم فيه هو جبل «البرناس»، فإن العرب قد زعموا أن شياطين الإلهام تأوي إلى واد في بلادهم سموه وادي «عبقر»، ومنه اشتقت لفظة «العبقرية» التي تعتمد على الإلهام.
ولقد اعتنق أفلاطون هذا الخيال الشعبي في فلسفته أخذا عن أستاذه سقراط الذي كان يؤمن ويبشر بالوحي والإلهام، ويزعم أنه كان يتلقى هذا الوحي عن عرافة الإله أبوللو التي تقوم على معبده في مدينة «دلفوس»، وقد نمى أفلاطون نظرية الإلهام كمنبع للشعر في عدد من محاوراته وبخاصة في محاورة «أيون» ولكن هذا الاتجاه الغيبي لم يلبث أن عفى عليه أرسطو بفلسفته العقلية الخالصة؛ فرأيناه في كتابه عن «الشعر» يجعل منبعه - كما قلنا - المحاكاة؛ أي محاكاة الطبيعة وواقع الحياة بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح، وبتخلي أرسطو عن نظرية المثل الأفلاطونية لم يعد الشعر محاكاة لتلك المثل! وإن كان أرسطو قد قرر أن تلك المحاكاة يمكن أن تكون لما يجب أن يكون لا لما هو كائن أو محتمل أن يكون فحسب، ولكن دون تقيد بعالم المثل الذي يمكن أن يفتح الباب لما سماه أفلاطون وسمته الشعوب القديمة بالإلهام، بينما يسميه علماء التحليل النفسي المحدثون كما سنرى ب «اللاوعي» أي مختزنات العقل الباطن ومكبوتاته التي تنطلق من مكامن النفس الخفية فيما يشبه فيض الإلهام.
ولما كان أرسطو يكاد يكون المفكر الوحيد الذي لم تمت مؤلفاته، بل ظلت حية نامية مؤثرة، بل مسيطرة خلال القرون الوسطى ذاتها وبعد ركود الثقافة الإنسانية القديمة؛ حيث لم تجد فيه الديانات السماوية الموحدة كالمسيحية والإسلام، اللتين سيطرتا سيطرة كاملة على جميع نواحي الحياة الفكرية والعاطفية والفنية خلال القرون الوسطى؛ ما يتعارض مع تعاليمهما، بل على العكس وجدتا في فلسفته العقلية ومنطقه ما يعين على تأييد مبادئهما الروحية العقلية مما ثبت سيطرته ونماها، بحيث نلاحظ أنه عندما ابتدأت حركة البعث العلمي بأوروبا ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي كانت فلسفة أرسطو لا تزال حية مؤثرة، وبقوة القصور الذاتي ظلت هذه الفلسفة مسيطرة أيضا في عصر البعث، ثم في عصر النهضة التي تلته وازدهرت في القرن السابع عشر قرن الكلاسيكية الأدبية الفنية، بينما ظلت فلسفة أفلاطون منزوية حتى القرن التاسع عشر؛ حيث بعثها الرومانسيون ومكنوا لها، فعادوا يقولون: إن الشعر إلهام وإن منبعه هو الحاجة إلى التعبير عن الوجدان المنفعل بالطبيعة، والحياة والله لا غريزة المحاكاة التي رد إليها أرسطو النشاط الأدبي والفني.
ونتيجة لطغيان نظرية المحاكاة على المذهب الكلاسيكي لم يزدهر من الشعر في هذا المذهب غير الشعر الموضوعي الذي تمثل في الشعر التمثيلي عند شعراء فرنسا الكبار: راسين وكورني وموليير مثلا، وأما الشعر الغنائي، أي شعر القصائد والمقطوعات، فقد ظل خافت الصوت ضيق الإنتاج، وإذا كان هذا الشعر الغنائي، الذي يمكن أن يستند إلى الأساس الفلسفي للمذهب الكلاسيكي وهو المحاكاة، بحيث يأخذ هو الآخر طابعا موضوعيا؛ قد ازدهر في فترة من فترات أدب عالمي كالأدب الفرنسي، فإن هذا الازدهار لم يحدث في العصر الكلاسيكي؛ أي في القرن السابع عشر، وإنما حدث بعد ذلك بقرن كامل؛ أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما ظهر شاعر غنائي شاب راح ضحية روبسبير إبان الثورة الفرنسية الكبرى، وهو الشاعر أندريه شينيه الذي ولد من أب فرنسي وأم يونانية، وكان يعشق الأدب اليوناني القديم من كل قلبه، فنادى بما سماه مؤرخو الأدب «الكلاسيكية الجديدة» التي لخصها الشاعر في بيت له يقول فيه: «فلنصغ أفكارا جديدة في ثوب قديم» وبالفعل نراه يكتب في حياته القصيرة باقة جميلة من القصائد التي اتخذ لكل منها موضوعا صب فيه أفكاره وأحاسيسه الحضارية الجديدة في أسلوب بسيط سهل جميل خال من كل تعقيد لفظي أو معنوي، وكأنه أسلوب أحد شعراء الإغريق القدماء، وإن لم تمنعه الموضوعية من أن يعبر عن ذات نفسه من خلال موضوعه على نحو ما نحس في قصيدة الحرية التي صاغها في صورة حوار بين راعي غنم وراعي معز، أحدهما عبد والأخر حر، ومن الواضح أن الإحساس بمرارة العبودية والعطف على العبيد إنما هو شعور حديث؛ فالعصور الوسطى بل والعصر القديم كانت ترى في نظام الرق ظاهرة اجتماعية طبيعية، وإذا كانت الديانات قد أوصت بالشفقة بالرقيق فإنها لم تحرم هذا النظام الذي ظل موجودا حتى العصر الحديث الذي قضى عليه وحرمه باتفاق دولي.
وقصيدة «الحرية» لأندريه شينيه تعتبر مثلا واضحا للشعر الغنائي الذي يمكن أن يقوم على أساس نظرية المحاكاة؛ فالشاعر يريد أن يظهرنا فيها على نزعات الخير التي لا بد أن تنمو في نفس الرجل الحر مقابل نزعات الشر التي لا بد أن تنمو في نفس العبد، وكأنه بذلك يعطينا صورة لنفس الرجلين كما يراها، وإن يكن قد عبر في الوقت نفسه عن وجدانه الخاص وطريقة انفعاله بالوضعين وسخطه على أحدهما ولكن بطريق غير مباشر، وإن يكن من القوة والوضوح بحيث يخرج هذا الحوار الشعري من مجال الأدب التمثيلي إلى مجال الأدب الغنائي.
وها هي ذي القصيدة:
راعي المعز :
أيها الراعي، كيف أنت؟ وما بك؟ ما هذه الشعور السوداء التي نشرتها الآلهة فوق بصرك؟
راعي الغنم :
هيه! نعم! وأما أنت فذو شعر جميل أصفر، أهذا ما تريد أن أعلمه! هيه! نعم! جبينك أوضح من جبيني، ونظراتك أرق من نظراتي، أليس كذلك؟
راعي المعز :
قل لي إذن، أمن هذه الجبال الموحشة أتيت من حيث لا تلقى أحدا سواك والسبيل وعرة مخيفة؟
راعي الغنم :
وأما أنت فتنعم بلا ريب بالمروج والغابات، وذلك في متناولك، لك أن تجلس بين الحشائش المزهرة، أما أنا فمأواي الكهوف المقفرة؛ حيث يطيب لي أن أجلس على الصخر حتى ينصرم ضوء النهار.
راعي المعز :
ولكن إلهة الخصب «سيريس» قد أنزلت بتلك الصخور لعنتها، فهناك تتدفق السيول حصباء حاملة قاتم الموج، وقد أحرق لهيب الشمس أديم الصخر؛ يكوي أرجل عابري السبيل الذين يخفون عنها، وقد عريت عن جميل الزهر وحلو الفاكهة فلا تجد بها البلابل من الظلال الوارفة ما تأوي إليه إلا أن تكون أشجار الزيتون المنتثرة على مسافات بعيدة، وفي منظرها الجاف وقلة ما تعطيه من خيرات ما يزيد الجدب المحزن وضوحا، كيف تستطيع إذن أن تجد بين تلك الصخور من الحشائش ما تغذي به غنمك الجائعة؟
راعي الغنم :
وماذا يعنيني من أمر الغنم؟ أهي لي؟ ما أنا إلا عبد.
راعي المعز :
لا أقل إذن من أنك وجدت في ناي الغاب ما تؤنس به وحشتك وسط جدب الصخور، خذه! أما تريد هذا الناي؟ لقد صنعته بيدي خذه، ولترسل أنفاسك في غابه، وغابه عذب الأغاني، ولتسمعنا من النغمات ما تحاكي به تغريد الطيور.
راعي الغنم :
لا، احتفظ بعطائك، ما أريد أن أسمع إلا طيور الظلام من بوم وعقبان، وفي نعيبها بالغناء ما يكفيني، ولا أريد أن أحاكي غير أغانيها ... وأما نايك فأنا محطمه تحت أقدامي، إنني لأبغض كل مسراتكم، وقلبي لا يخفق لجمال الزهر ولا لرقة الندى ولا لزفرات البلابل العذبة، لقد أغلقت حواسي دون ذلك كله، ألست عبدا؟
راعي المعز :
وا حسرتاه! إنك لجدير بالرحمة، نعم ما أقسى الرق! نعم، لكل حي أن يخشى نيره، ونيره ثقيل الحمل، ما أتعس أن نعيش لغيرنا وقد سلبنا ذلك الغير كل شيء! أيتها الحرية، أيتها الحرية العزيزة، ابسطي فوقي جناحيك، يا أم الفضائل، يا أم الوطن.
راعي الغنم :
اغرب عني، ما الفضائل وما الوطن إلا كلمات خاوية، ثم إن في حديثك ما يجرحني، وفي سعادتك المدعاة ما يحزنني ويثير حفيظتي، بودي أن لو كنت مثلي عبدا.
راعي المعز :
وأما أنا فأود أن أراك مثلي حرا سعيدا، ولكن أما عند الآلهة من دواء لبلواك؟ لدينا بلاسم عذبة ومياه صافية تسكن بها جراح النفوس، لدينا من سحر الأغاني ما يجفف دمع الجفون.
راعي الغنم :
لكم ذلك، أما أنا ... فلا ... ليس لي إلا الآلام، لقد حكم القضاء أن أكون عبدا، ولا بد من نفاذ حكمه، وإلى جواري كلبي أسترقه بدوري حتى لترعده إشارتي، وما لدي غيره، ينتقم منه يأسي الصامت لما ينزل بي من آلام.
راعي المعز :
وتلك الأرض التي عنها صدرنا، وخصبها العذب أما تستطيع أن تشفي من آلامك؟ انظر إلى جمالها المشرق، انظر إلى الصيف البهيج؛ يغدق نعمه وقد أقبل تسوقه أشعة الشمس، يحنو على المروج فيباين من رداء الربيع الأخضر، انظر إلى حبات المشمش وقد أخذت عذوبتها تذكو، ولونها يصفو كعسل النحل، انظر إلى زهر الخوخ البنفسجي وقد زين أشجاره معلنا ما سوف يتبعه من حلو الفاكهة، انظر إلى حقول الغلال وقد تكاثفت سنابلها في غابات صفراء منتظرة مناجل الحصاد، إن في ذلك لحفلا نبيلا من إلهة الطبيعة. ها هي ذي إلهة السلام وآلهة الخصب الصافيتا النظرات، الهادئتا اللحاظ تخفان إلينا وبأيديهما سنابل، وقد تبعتا آثار إله الأمل؛ لتسكبا من القرن الذهبي مشرق الخيرات.
راعي الغنم :
لا شك أنها تظهرك على مواقع أقدامها، أما أنا فلا أستطيع أن أراها، وعيناي عينا رق، أرسل الطرف فلا أرى إلا أرضا مجدبة مهلكة، حملتها كارها على أن تدر الخير على غيري، تحت الشمس المحرقة أكدح لأحصد ما يتغذى به غيري وأنا أتضور جوعا، وذلك كل ما أعرف عن تلك الأرض، حتى لكأنها لم تكن لي أما كما كانت لكم بل زوجة أب، والطبيعة كلها ليست أشد وقعا على بصري، وألما لنفسي من وادي الموت الذي تراه هنا والذي يملؤك رعبا.
راعي المعز :
ومهام غنمك وهمس ثغائها الرقيق الهادئ، أما في ذلك ما يدخل السرور على نفسك الجامدة، أما تطربك رؤية حملانك الوادعة النظرات؟ كما تطربني مداعبة صغار معزي، وقد أخذت تمرح وتجري مرسلة في الهواء أصواتها الرقيقة! لكم من مرة أراها تهرول فوق الندى، ولامع الحشائش إلى جوار أمهاتها؛ فأقفز معها فرحا طروبا.
راعي الغنم :
المعز معزك، وأما أنا فنصيبي من الحياة غير نصيبك، فتلك الغنم هي مصدر بلواي، أسرح بها مرتين في النهار، وكلما عدت وجدت سيدي في انتظاري، والظنون تساوره وقد عز رضاه: «لم ينم صوفها، لقد ضوت أجسامها، وتثاقلت خطاها، و... و...» فلا شيء يروقه. إذا سقط بها ذئب واختطف واحدة منها موليا إلى الغابة فالذنب ذنبي، لقد كان علي أن أغالب أنيابه الماضية، بل من واجبي أن أستأنس الذئاب!! ثم ينهال علي صياحا وتهديدا وسبابا وقسوة مبرحة يسميها عقابا.
راعي المعز :
لقد عهدت الآلهة رءوفة بالبريء، فلم تهجر رحابها وفي رحابها نصر للمستضعفين! لم لا تأتي إلى مذابحها وقد حلتها الزهور فترقص معنا حولها، وقد حملت إليها متواضع الهدايا، قليلا من حشائش المروج وزهر الغابات، وأنت بذلك نائل عطف «زيس» وعرائس الطبيعة الرحيمة.
راعي الغنم :
لا، إن قلبي الحزين لا يعرف رقص الرعاة ولا ألعابهم ولا مسراتهم، كل ذلك غريب عني، وفيم حديثك عن الآلهة وهداياها، أو عن عرائس الطبيعة، وما عندي للآلهة ورد ولا ريحان؟ إني أخشى آلهتك وقد رأيت رعدهم وبرقهم، وهم الذين وضعوا بيدي الأصفاد.
راعي المعز :
هه! ولم لا تحب؟ وأي ألم مر يقوى على ابتسامة عذبة تبسمها عذراء القلب؟! لقد أتيت أول أمس إلى حبيبتي مهديا باكورة ما أنتجت معزى هذا العام؛ ماعزا صغيرا، تلقته وقد استحالت نظراتها رقة وجمالا ومحبة، وأخذ صوتها نبرة لا أزال أحس بوقعها الجميل في نفسي.
راعي الغنم :
وأي عذراء تقبل أن تنظر إلي، أعندي من المعز ما أستطيع أن أقدم منه هدية مثلك؟ وكل يوم يعد سيدي الفظ الغليظ حملانه في حرص بشع حتى ليثلج قلبي عندما لا يطالبني بأكثر مما أعطاني. «تميزيس» آلهة الانتقام! أقسم أن لو أصبحت يوما سيدا لأكونن قاسيا فظا غليظا، ولأنزلن الويل والثبور بأرقائي كما أنزل بي هذا الرجل.
راعي المعز :
وأما أنا فأستشهدك آلهتي، أن أكون رقيقا حليما بخدمي المخلصين، وأن أرضي أماني نفوسهم، حتى يشعروا بالسعادة، فيحبوا سيدهم، وحتى يرضوا عن الحياة، فيباركوا يوم ولدوا.
راعي الغنم :
وأما أنا فأصب اللعنة على تلك الساعة المشئومة التي أتيت فيها إلى هذه الحياة لأشقى بها، لأكون تحت إمرة آخر يأمرني وينهاني، وقد جردت من كل شيء، واستحال علي أن أروق لأي إنسان، والجوع يضويني، وقد انصرف كدي وألمي إلى آخر يشبع به بطالته وكبرياءه.
راعي المعز :
أيها الراعي البائس، إن في حزنك الشاكي ما يحمل الأسى إلى قلبي، انظر إلى هذه الماعزة وولديها، وفي بياضهما ما يشبه ما ادخرت لهما من لبن، هي لك، خذها وإلى عناية الله، ولتسأله أن يجعل في هذا القليل الذي أمنحك ما يمحو من ذاكرتك آثار آلامك، وأن تجد في العناية بها ما يصرفك عن بلواك.
راعي الغنم :
هاتها وعليك اللعنة، وأنا أعلم أن في هديتك ما سينغص حياتي، فسوف ينظر إليها سيدي شزرا منكرا أن يمنحني إياها مانح وهو الخبيث الحسود، سيقول إني اختلست منه ثمن الأم وثمن ولديها، سيتذرع بتلك الدعوى ليسلبني إياها، وعهدي به ملتمسا للظلم كل عذر.
هذه القصيدة تعتبر مثلا واضحا لشعر الغناء الموضوعي النيوكلاسيكي، وباستطاعتنا أن نجد لها شبيهات عند شاعرنا الكبير «خليل مطران» في مطولاته من أمثال قصائد «فنجان قهوة» و «الجنين الشهيد»، وإن لم تتخذ عنده صورة الحوار، ولكنها تتفق معها في أنها تصب أفكارا ومشاعر جديدة في ثوب كلاسيكي متين، وإن يكن هناك فارق كبير بين فن شينيه الساذج البسيط الأنيق وفن مطران المركب المتقن الصنعة إلى حد الخفاء.
ومن البديهي أن نظرية المحاكاة وسطوة أرسطو العقلية لم تستطع أن تتغلب على حاجة الإنسانية إلى التعبير عن ذاتها خلال الوجدان الفردي للشعراء، فلم يتوقف قط إنتاج الشعر الغنائي المنبعث عن الحاجة إلى التعبير عن الذات، ولم تنتظر الإنسانية ظهور الرومانسية لتعطيها حق التعبير عن الوجدان الذاتي؛ فقد ظل هذا الشعر حيا في عصور الإنسانية جميعها منذ القدم حتى اليوم، وأما الذي أحدثه الرومانسيون فهو تغليب هذا المنبع الشعري على غيره من المنابع، وجعله المنبع الأول لتلك الثروة الشعرية الضخمة التي خلفها لنا أمثال: هيجو، ولامارتين، وموسيه، وشيلي، وبيرون، وكلوردج، وكيتس، ووردزويرث، وكل ذلك العدد الكبير من العمالقة الذين نادوا بأن الشعر وجدان، أو على الأدق تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر، وعلى نحو أخص من خلجات قلبه وأحاسيسه بجمال الطبيعة أو حماسة الإيمان؛ حتى لنرى عندهم قصائد يوحي عنوانها بأنها قصائد وصفية مثل قصيدة «البحيرة» للامارتين، ومع ذلك نقرأ هذه القصيدة التي كتبها على ضفاف بحيرة بورجيه في جبال السافوي بفرنسا فلا نجد فيها أي وصف لتلك البحيرة، وقد استحالت إلى مجرد إطار لتجربة عاطفية عاناها على ضفافها مع حبيبته «الفير» التي قضى معها على ضفافها خمسة عشر يوما سنة 1816 ثم تواعدا على العودة إليها في العام القادم، ولكن شاء القدر أن يعود لامارتين وحده، أما الحبيبة فكان الموت قد طواها بذات الرئة، فكتب هذه القصيدة الرائعة باسم «البحيرة» وما فيها من وصف البحيرة غير ملامح خاطفة، أما بقية الشعر فعن ذكرياته مع الحبيبة، ولواعجه على موتها المبكر وما يسوقه إلى الشاعر من تأملات في الحياة والموت، وتلقف الغناء لفترات السعادة التي نصادفها في حياتنا العابرة. فالقصيدة كلها تعبير عن ذات الشاعر لا وصف للبحيرة أو محاكاة لصورتها الشعرية التي انعكست في نفسه؛ وبذلك يمكن القول بأن الكلاسيكية المستندة إلى نظرية المحاكاة الأرسططالية ونظرية التعبير عن الوجدان الفردي، وهي النظرية التي يسهل ربطها بالإلهام الشعري قد وضعتا نهائيا القطبين اللذين لا يزال الشعر يتأرجح بينهما منذ فجر الإنسانية حتى اليوم، وإليهما ترجع في أيامنا هذه النظريتان الكبيرتان اللتان يتنازعان العالم، وسيظلان يتنازعانه إلى أمد طويل، وهما «نظرية الواقعية والنظرية الرومانسية».
غلبت إذن النظرية الرومانسية الحاجة إلى التعبير عن الوجدان الذاتي على غريزة المحاكاة الموضوعية حتى رأينا هذا الوجدان يطغى على كل شعر رومانسي، ولو أوحى بأنه شعر وصفي موضوعي، وها هي ذي قصيدة البحيرة للامارتين شاهدا على ذلك:
أنظل هكذا منساقين أبدا إلى شواطئ جديدة،
محمولين دائما وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟
أوما نستطيع أن نلقى بمرساتنا يوما
على شاطئ الزمن اللجي؟ •••
أيتها البحيرة، لم يكد العام يتم دورته، ومع ذلك انظري ها أنا وحدي جالسا فوق هذه الصخرة
التي رأيتها تجلس عليها،
وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها. •••
هكذا كنت تهدرين تحت هذه الصخور العميقة،
وهكذا كنت تتكسرين على جوانبها الممزقة،
وهكذا كانت الرياح تلقي بزبد أمواجك
فوق قدميها المعبودتين.
أوما تذكرين كيف كنا نجدف صامتين ذات مساء،
وكنا لا نسمع عن بعد فوق الموج وتحت السماوات
غير حفيف المجاديف وهي تضرب في صمت
أمواجك الناغمة؟ •••
وفجأة ترددت في الشاطئ
أصداء نغمات تجهلها الأرض،
فأنصت الموج وتساقطت من الصوت الحبيب
هذه الكلمات: •••
أيها الزمن، قف جريانك.
وأنت أيتها الساعات السعيدة قفي انسيابك،
واتركينا ننعم باللذات العابرة،
التي تتيحها أجمل أيامنا. •••
كثير من منكوبي الحياة يضرعون إليك
فأسرعي! أسرعي عنهم،
واحملي مع أيامهم الآلام التي تنهشهم،
وانسي السعداء.
ولكنني أسألك عبثا فضلا من اللحظات؛
فالزمن يفلت ويهرب،
وأقول لهذا الليل تمهل،
والفجر سيبدد الليل. •••
فلنحب إذن، فلنحب!
ولنسرع إلى المتعة باللحظة الهروب؛
فالإنسان لا مرفأ له، والزمن ما له من شاطئ،
إنه ينساب وننساب معه. •••
أيها الزمن الغيور،
هل يجوز أن تنساب عنا لحظات النشوة،
التي يسكب لنا فيها الحب السعادة جرعات طوالا،
بالسرعة نفسها التي تنساب بها أيام الشقاء؟
ثم ماذا؟ أوما نستطيع أن نستبقي الأثر؟
أهكذا تمر إلى الأبد؟ أهكذا يضيع كل شيء؟
وهذا الزمن الذي منحها والذي محاها،
لن يردها إلينا قط. •••
أيها الأبد، أيها العدم، أيها الماضي، أيتها الأغوار الداكنة، ماذا تفعلين بما تبتلعين من أيام؟
تكلمي، هل ستردين إلينا تلك النشوات العلوية
التي تسلبينها منا؟ •••
أيتها البحيرة، أيتها الصخور الصامتة، والكهوف والغابة الحالكة،
أنت التي يستبقيك الزمن أو يجدد شبابك،
احتفظي من هذه الليلة، أيتها الطبيعة الجميلة،
على الأقل بالذكرى. •••
وفي لحظات هدوئك أو صخبك،
أيتها البحيرة الجميلة، وفي شواطئك الباسمة،
وفي صنوبرك الأسود وصخورك الموحشة
الحانية فوق أمواهك، •••
وفي النسيم الذي يرتعش ويمر،
وفي النغمات التي ترددها شطآنك،
وفي النجم الفضي الذي يضيء صفحتك
بأشعته الرخية، •••
وفي الريح التي تئن والغاب الذي يتنهد،
وفي العطور الخفيفة المنسابة في أريج هوائك،
وفي كل ما يسمع وما يرى وما يتنفس،
ليتردد في كل هذا: أنهما كانا حبيبين.
هذا، ومن الخير دائما أن نذكر مع الفيلسوف فيكو أن محور الأدب في تاريخ الإنسانية كلها قد تطور من الآلهة إلى الأبطال، فالإنسان، وأنه ما دام قد انتهى إلى الإنسان فلم يكن بد من أن يصبح دافعه ومنبعه الأول هو التعبير عن ذات ذلك الإنسان، وما ينطبع فيها من مشاهد الحياة والطبيعة، أو ينبع من داخلها وحاجاتها وأشواق روحها، وهذا هو ما انتهت إليه الرومانسية التي جعلت من الوجدان الفردي نبع الشعر الثري، وإن تكن قد اختلفت بعد ذلك مع المذهب الرمزي في طريقة التعبير عن انطباعات الذات الفردية، وهل يكون هذا التعبير عن طريق التقرير المباشر أم عن طريق التصوير، وبذلك نعود فنذكر قول الشاعر الإغريقي القديم سيمونيدس: «إن الرسم شعر صامت، بينما الشعر رسم ناطق.» وهذه هي مشكلة التعبير بين الرومانسية والرمزية على نحو ما سنفصل في الحديث القادم.
الشعر والوجدان الفردي
من المؤكد أن الرومانسيين قد وضعوا للشعر الغنائي فلسفته النهائية عندما أخرجوه عن دائرة المحاكاة، وقالوا إنه تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر بحيث نستطيع أن نقول إن جميع المذاهب الأدبية التي تلت الرومانسية لم تستطع أن تغير جوهر تلك الفلسفة؛ فقد ظل الشعر الغنائي منذ ذلك الحين حتى اليوم شعرا وجدانيا، فالرمزية لم تهاجم الطابع الوجداني للشعر الغنائي، بل أرادت أن تغير من فلسفة التعبير، فتستعيض بالصور عن التقرير المباشر، ولا تأتي بالتشبيهات والاستعارات والمجازات لجامع شكلي بل لجامع نفسي؛ أي كوسيلة للتعبير عن انطباعات النفس لا عن مظاهر الشكل الخارجي، والسيريالية لا تغفل الوجدان الفردي، بل تحاول أن تغوص إلى أغواره لتكشف عن عالم اللاوعي ومكبوتاته، والمذهب التعبيري يستهدف هو الآخر إبراز انطباعات النفس المتولدة عن مشاهد الطبيعة أو عن تجارب الحياة.
أما الواقعية والطبيعية اللتان تعتبران امتدادا لنظرية المحاكاة الأرسططالية فقد انحصرتا في فنون الأدب الموضوعية كفن القصة وفن المسرحية، وأما الشعر الغنائي فقد ظل دائما وجدانيا حتى في الآداب التي يطغى عليها التيار الواقعي، وإذا كان أديب كبير مثل مكسيم جوركي أو كوموجو الصيني يؤكدان أن الأديب الكبير لا بد أن يجمع بين الرومانسية والواقعية، فأكبر الظن أن رأيهما هذا ينصرف قبل كل شيء إلى الشعر الغنائي باعتبار أن الوجدان لا بد أن يكون منبع هذا الشعر، وإن كان يتحول في ظل الاتجاه الواقعي العام من وجدان ذاتي أناني إلى وجدان جماعي غيري، ولكنه يظل دائما وجدانا فرديا منبعثا عن ذات الشاعر الذي قد يدرك في ظل الواقعية الاشتراكية أن ذاته غير منفصلة عن مجتمعه وبيئته وطبقته الاجتماعية، وأن معظم هذا الوجدان متأثر بمحيطه ومؤثر فيه، وطبيعة الشعر الغنائي الوجدانية هي أيضا التي تدفع أديبا فيلسوفا كبيرا صاحب مذهب عالمي كجان بول سارتر زعيم الوجودية إلى أن يؤكد في كتابه «ما هو الأدب» أن الشعر الغنائي لا يمكن أن يخضع لمبدأ الالتزام الذي يريد سارتر أن يأخذ به فنون الأدب الأخرى كلها وبخاصة الموضوعية منها، كفن القصة وفن الأقصوصة وفن المسرحية. •••
فعندما نادت الرومانسية بأن الشعر تعبير عن الذات الشاعرة وبخاصة عن آلام الشاعر وشكواه من قيود الحياة الاجتماعية ولهفته إلى الانطلاق والتحليق، حتى قالوا إن خير الشعر ما كان أنات خالصة، انتشرت هذه الدعوة، وسط ظروف الحياة القاسية التي انبثقت منها، انتشار النار في الهشيم حتى عمت الإنتاج الأدبي كله، وسرعان ما انتهت إلى المبالغة والإسراف؛ فاستحال الشعر عند صغار الرومانسيين المقلدين إلى افتعال عاطفي وهلوسة روحية وتهويمات أثيرية وهروب من الحياة أو انطواء قاتل على الذات، ووسط كل هذه الاندفاعات أهمل التجويد الفني في وسائل التعبير، بل أهدرت في أحيان كثيرة القيم الفنية والجمالية للأدب كله، حتى انحدر التعبير إلى مستوى التقرير المباشر الضحل القليل الإيحاء، القريب الغور.
وقد أحدث هذا الإسراف في التيار العاطفي من الحياة والمحلق في أوهام الخيال دون اهتمام كاف بالناحية الفنية الجمالية للشعر، حتى لكأنه قد أصبح مجرد وسيلة للتعبير عن الذات الفردية، أحدث رد فعل مزدوج، فإلى جوار الرومانسية ظهر خلال القرن التاسع عشر المذهب الواقعي الذي يطالب بأن يسلط الأديب طاقته الخلاقة على واقع الحياة؛ لينتزع منه التجارب البشرية التي يريد أن يصوغها أدبا، وذلك لينصرف الأديب عن ذاته إلى موضوعه، ولكنه من الواضح أن هذا الاتجاه الواقعي لم يكن من الممكن أن يتسلط إلا على فنون الأدب الموضوعية كالقصة والمسرحية، وأما الشعر الغنائي فلم يستطع هذا التيار أن ينفذ إليه؛ ولذلك لا نكاد نجد شعرا يمكن أن يوصف بالواقعية بمعناها الفلسفي المحدد، وإنما نجد قصصا ينطبق عليها هذا الوصف كقصص «بلزاك وزولا»، كما نجد مسرحيات مثل مسرحيات «هنري بيك» وأقاصيص «جي دي موباسان».
وأما رد الفعل الذي كان له أثره في مجال الشعر الغنائي فقد كان فيما نادى به «تيوفيل جوتييه» وجماعته التي انسلخت عن المعسكر الرومانسي، ونادت بأن الشعر لا يجوز أن ينظر إليه كوسيلة لغاية أخرى حتى ولو كانت تلك الغاية هي التعبير عن ذات الشاعر؛ لأن الشعر في رأيه فن جميل يعتبر غاية في ذاته، وهذا هو مذهب «الفن للفن» الذي يقول بأن الشعر خلق لقيم جمالية تنحت من اللغة، حتى لنحس في قصيدة «الفن» لجوتييه، وهي القصيدة التي تعتبر إنجيل هذا المذهب، بأن جوتييه لا يفرق بين الشعر والنحت؛ فهو يطالب الشاعر بأن ينحت من اللغة أبياته، وأن يختار من مادة اللغة أصلبها، كما يختار النحات من الرخام أصلبه، ولا يزال يصارعه حتى يلين بين يديه ويخضع للصورة التي يريد أن ينحتها فيه؛ حيث يقول للشاعر:
انحت وابرد وشكل حتى يستقر حلمك الطافي في الصخرة الصلبة.
ولقد أثبتت التجارب الشعرية لأصحاب هذا المذهب أنه لا يستقيم إلا في فن الوصف الشعري الذي يقوم على نحت صور لغوية تجسد المرئيات، وهذا هو الاتجاه الذي استقر عليه الجيل التالي لجوتييه، وهو الجيل المعروف باسم «البارناسيين» نسبة إلى جبل «البارناس» الذي كانت تستقر فوقه آلهة الشعر في بلاد اليونان الأقدمين حسبما تحكي أساطيرهم، وقد تزعم هذا الجيل في فرنسا الشاعر «ليكونت ديليل» الذي كان يرى أن الشعر تجسيم بواسطة الصور اللغوية ووصف شعري جمالي للمرئيات، وهذا هو الاتجاه نفسه الذي غلب تلقائيا على فن الوصف عند شعراء العرب الأقدمين وبخاصة في عصر الجاهلية وصدر الإسلام وهو الاتجاه الذي يسميه نقادنا ودارسو أدبنا القديم بالوصف الحسي، كما أنه الاتجاه الذي بنى على أساسه رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر حملتهم على الشعر التقليدي والشعراء المقلدين بزعامة أحمد شوقي؛ حيث نرى الأستاذ عباس محمود العقاد يوجه النقد العنيف إلى أحمد شوقي في كتاب «الديوان» الذي اشترك العقاد في تأليفه مع المازني قائلا:
اعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه، وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف عن لبابه وصلته بالحياة، وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع، وإنما همهم أن يتعاطفوا، ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه، وخلاصة ما استطابه أو كرهه، وإذا كان وكدك من التشبيه أن تذكر شيئا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء بدل شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس، وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه؛ لهذا لا لغيره كان كلامه مطربا مؤثرا، وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه؛ لأنه يزيد الحياة كما تزيد المرآة النور نورا، فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه، والشاعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجودا إن صح هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساسا بوجوده.
وصفوة القول أن المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعورا حيا ووجدانا تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر القشور والطلاء، وهو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة، وما أخال غيره كلاما أشرف منه بكم الحيوان الأعجم.
ولسنا ندري هل كان الأستاذ العقاد يهدف إلى وسائل التعبير الرمزي وطرائقه عندما كتب هذه الفقرة وأمثالها أم لا؟ ولكننا نعرف اليوم على ضوء المذاهب الأدبية المعروفة في الغرب أن مثل هذه الفقرة كان من الممكن أن تجري على لسان أي ناقد أو شاعر رمزي ضد جماعة «البارناس» أنصار الوصف والتجسم الحسيين اللذين يغلبان - كما قلنا - على منهج الوصف في الشعر العربي القديم، وعلى فلسفة المجازات والاستعارات والتشبيهات في علم البيان العربي.
والواقع أن الشعراء لم يلبثوا أن أحسوا بأن مذهب الفن للفن ومذهب البارناسيين اللذين يستهدفان نحت الصور الجمالية الحسية من اللغة لم يعودا يكفيان حاجات الروح الشاعرة، فإحساساتنا الجمالية هي وحدها التي يمكن أن تطرب لهذا النوع من الشعر، وأما حاجاتنا العاطفية والانفعالية فإنها تظل ظمأى؛ ولذلك لم يلبث أن ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المذهب الرمزي، وهو مذهب يعتبر وجدانيا خالصا، وإن اختلف عن المذهب الرومانسي في أنه يفضل أن يعبر الشاعر عن حالاته الوجدانية وتجارب حياته بواسطة الصور التي ترمز لتلك الحالات، وتوحي بها وتنقل العدوى من نفس الشاعر إلى غيره من النفوس المتلقية، وعلى الأساس نفسه نراهم يطلبون إلى التشبيه والمجاز أن يعين على نقل العدوى من نفس إلى نفس بأن يكون الجامع فيه وحدة الأثر النفسي بين المشبه والمشبه به، ولو كان من عالمين مختلفين من عوالم الحس الظاهري.
وإنه لمن الخير أن نشير هنا إلى أن هذا الاتجاه الجمالي المحدد والقائم على أساس فلسفي معين قد وقع عليه أيضا عدد من شعراء العرب الأقدمين بطريق تلقائي، فنجد شاعرا قديما كذي الرمة يلجأ أحيانا إلى التعبير عن تجربته العاطفية، وحالته الوجدانية إلى طريق الصورة بدلا من التعبير المباشر؛ فقد يأتي يوما إلى ديار الحبيبة، فيجد الأهل قد رحلوا عن الديار وتركوها قاعا صفصفا فلا يصرخ ولا يولول ولا يبكي ولا يستبكي، بل يكتفي في التعبير عن وجدانه بصورة ربما تكون قد وقعت له فعلا، وربما يكون قد استمدها من طاقته التصويرية، ولكنها في الحالتين قوية الدلالة شديدة الإيحاء، كما أنها تجمع بين عمق التعبير الفني وبين التصوير الجمالي، وبذلك تشبع حاجتنا العاطفية وإحساسنا الجمالي معا؛ حيث يقول:
عشية ما لي حيلة غير أنني
بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده
بكفي والغربان في الدار وقع
وليست هذه الصورة فريدة في الشعر العربي القديم الذي نستطيع أن نعثر فيه على الكثير من أمثالها، مثل قول المجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت
تعالجه وقد علق الجناح
وقوله:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرا كان في صدري
ثم قول كثير عزة:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني
بدل يحل العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة
وخلفت ما خلفت بين الجوانح
وقد علق الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في الكتيب الذي كتبه عن الشعر سنة 1918 كواحد من ثلاثة من رواد التجديد في الشعر العربي الحديث وهم: المازني، والعقاد، وشكري في صفحة 18 من ذلك الكتيب بقوله:
هذان بيتان ليس فيهما معنى رائع ولا فكر دقيق، لكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلل الماء إلى كبد الملتاح، وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال. وشرح ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيتيه إلى التبيين، والتلميح إلى التصريح، فذكر الدل ولم يذكر كيف دلها، وإن يكن مثل لك فعله وتأثيره، وقال «وخلفت ما خلفت بين الجوانح» ولم يقل ماذا خلفت، فترك بذلك مضطربا واسعا من الخيال ليتصور لطف دلها وسحره وفتنته وصبابة الشاعر وشغفه وحرقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله «وخلفت ما خلفت» فجاءا بيتين كلما زدتهما نظرا وترديدا زاداك جمالا وحسنا. ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خلفت، لكلف نفسه أمرا شديدا إذا لانت لها جوانبه كان استيعابه هذا قيدا للخيال وحملا ثقيلا يرزح تحته وينوء به؛ لأن الشعر يلذ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديد، وفي كل لحظة توليد، فأما ما يأخذ على الخيال مذهبه، ولا يترك له مجالا فهذا هو الغث الذي لا خير فيه؛ لأن حالات النفس درجات، فإذا أنت صورت أقصى درجاتها لم تبق للخيال من عمل إلا أن يسف إلى ما هو أحط وأدنى، ولذة الخيال في تحليقه، ومن هاهنا قالوا في تعريف الشعر إنه لمحة دالة ورمز لحقائق مستترة. يعنون بذلك أن الشاعر ليقذف بالكلمة فتأخذها الأسماع وتعيها النفوس، ويستوعب معانيها الخيال.
وبهذا التعليق وأمثاله تتحقق الفلسفة الشعرية التي نادى بها هؤلاء الرواد، وهي فلسفة أقرب ما تكون إلى فلسفة الرمزية التي لا ترى أن وظيفة الشعر هي استنفاد كل ما في وجدان الشاعر وسكبه في وجدان الآخرين، بل ترى أن وظيفته هي الإيحاء عن طريق الصورة والموسيقى بحالات نفسية إيحاء ينير - عن طريق التأمل - للآخرين نفوسهم، فيستشعرون وقع التجربة التي عاناها الشاعر في واقع حياته أو بطاقته التصويرية التي تخلق التجارب، بل وتستطيع أن تخلق الحياة ذاتها. والواقع أن هذا الاتجاه الرمزي في مدرسة التجديد الشعري في أدبنا المعاصر يكاد يتفق عليه جميع رواد التجديد في تلك الدعوة سواء منهم جماعة الديوان أو شعراء المهجر أو الشاعر المجدد الكبير خليل مطران الذي كون وحده مدرسة قائمة بذاتها امتدت خصائصها إلى جماعة التجديد في الجيل التالي، وهي جماعة أبوللو التي ازدادت إيمانا بطرائق التعبير الرمزي والتصوير البياني أمثال: بودلير، وفيرلين، ومالارميه، وفاليريه، وإدجار ألن بو الذي كان يقول إنه يسمع قدوم الليل، كما كان يقول إنه يرى من كل قنديل صوتا ناعما رتيبا ينساب إلى أذنيه، ثم رابندرانات طاغور شاعر الهند الأكبر الذي رأينا - كما سبق أن قلنا - الشاعر الأبوللي الشاب محمد عبد المعطي الهمشري يصيح معجبا في مقال له عن الإبهام الرمزي بمجلة أبوللو بقوله «السكون المشمس».
وفي الحق إن أروع تجديد نلمحه في شعرنا المعاصر ويميزه عن شعرنا التقليدي إنما هو المنهج الرمزي في التعبير؛ أي تفضيل الصورة دائما على التعبير المباشر والقصد إلى الإيحاء أكثر من القصد إلى الإبانة والإفصاح، وفي هذا يفترق التعبير الرمزي افتراقا دقيقا عن التعبير الكلاسيكي الذي كان يكره الغموض والإبهام، ويرى أن كل ما يدرك بوضوح يسهل التعبير عنه بوضوح، ومن المؤكد أن الرمزية السليمة لا يرجع ما فيها من إبهام إلى غموض في الإدراك أو في الرؤية الشعرية، وإنما يرجع إلى فلسفتها الشعرية التي ترى أن وظيفة الشعر هي الإيحاء بحالات نفسية مركبة لا يسهل دائما تحليلها إلى عناصرها الأولية، بل إننا حتى لو نجحنا في هذا التحليل لن نستطيع بفضله نقل العدوى بتلك الحالة النفسية المركبة من نفسنا إلى نفوس الآخرين؛ وذلك لأن كل مركب توجد فيه خصائص ناتجة عن التركيب نفسه وليست موجودة في العناصر المكونة لهذا المركب، وفي مثل هذه الحالات لا يكون أمام الشاعر وسيلة ناجحة غير وسيلة الإيحاء عن طريق الصورة والرمز، ومن المؤكد أن الذي يطربنا ويشجينا ويهز وجداننا في قصيدة مثل قصيدة العودة لشاعرنا الكبير المرحوم الدكتور إبراهيم ناجي إنما هو الإيحاء القوي عن طريق الرمز والتصوير البياني؛ حيث يقول:
هذه الكعبة كنا طائفيها
والمصلين صباحا ومساء
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها
كيف بالله رجعنا غرباء •••
دار أحلامي وحبي لقيتنا
في جحود مثلما تلقى الجديد
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا
يضحك النور إلينا من بعيد •••
رفرف القلب بجنبي كالذبيح
وأنا أهتف: يا قلبي اتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح
لم عدنا ليت أنا لم نعد •••
لم عدنا أو لم نطو الغرام
وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام
وانتهينا لفراغ كالعدم •••
أيها الوكر إذا طار الأليف
لا يرى الآخر معنى للسماء
ويرى الأيام صفرا كالخريف
نائحات كرياح الصحراء •••
آه مما صنع الدهر بنا
أو هذا الطلل العابث أنت!
والخيال المطرق الرأس أنا
شد ما بتنا على الضنك وبت •••
أين ناديك وأين السمر؟
أين أهلوك بساطا وندامى
كلما أرسلت عيني تنظر
وثب الدمع إلى عيني وغاما •••
موطن الحسن ثوى فيه السأم
وسرت أنفاسه في جوه
وأناخ الليل فيه وجثم
وجرت أشباحه في بهوه •••
والبلى أبصرته رأي العيان
ويداه تنسجان العنكبوت
صحت يا ويحك تبدو في مكان
كل شيء فيه حي لا يموت •••
كل شيء من سرور وحزن
والليالي من بهيج وشجي
وأنا أسمع أقدام الزمن
وخطى الوحدة فوق الدرج •••
ركني الحاني ومغناي الشفيق
وظلال الخلد للعاني الطليح
علم الله لقد طال الطريق
وأنا جئتك كيما أستريح •••
وعلى بابك ألقي جعبتي
كغريب آب من وادي المحن
فيك كف الله عني غربتي
ورسا رحلي على أرض الوطن •••
وطني أنت! ولكني طريد
أبدي النفي في عالم بؤسي
فإذا عدت فللنجوى أعود
ثم أمضي بعدما أفرغ كأسي
وبالرغم من روعة هذا المذهب في طرائق التعبير الشعري، فإنه لم يرق بالبداهة لأنصار الشعر التقليدي في أدبنا المعاصر على نحو ما رأيناه لا يروق لأنصار المذهب الكلاسيكي في الغرب، فمنذ عهد قريب كتب الشاعر عزيز أباظة مقدمة لديوان «أصداء الحرية» للأستاذ عبد الله شمس الدين امتدح فيها الصياغة التقليدية لتلك الأصداء، وانتقد في عنف التعبيرات الجديدة في شعرنا المعاصر، وضرب لها الأمثال في قولهم «الأنين المشنوق»، و«الحزن الراقص»، و«الصمت المقمر»، و«الشمس المعربدة»، و«اللانهائية الخرساء» دون أن يبين أساس نقده، مع العلم بأنه إذا كان هذا النقد مبنيا على أساس فلسفة الشعر فإنه مردود بما أوضحناه من أن الشاعر قد يجد في نفسه حالات نفسية عميقة مركبة لا سبيل إلى التعبير عنها غير سبيل الرمز والإيحاء، وأما إذا كان النقد مستندا إلى أساس لغوي فإننا نراه أيضا مردودا؛ لأن الرمزية في التشبيهات والمجازات والاستعارات لا تعتبر خرقا لأصول اللغة، بل ولا لعلم البيان العربي التقليدي ذاته؛ وذلك لأنها تقوم في الرمزية على علاقة بين المشبه والمشبه به، ولكن العلاقة هنا لم تعد في الشكل الخارجي بل في الوقع النفسي لطرفي التشبيه حتى ولو كان هذان الطرفان ينتميان إلى مجالين مختلفين من مجالات الحواس كأن يكون أحدهما من مجال المرئيات والآخر من مجال المسموعات أو من مجال المشموم ما دام كل منهما ينتمي إلى صفحة النفس ويؤثر فيها تأثيرا متشابها هو أساس المجاز، فالسكون مثلا من مجال السمع وأشعة الشمس من مجال البصر، ولكن السكون قد يثير اطمئنانا وبهجة في النفس يشبهان ما يثيره فيها ضوء الشمس، وعندئذ يحق للشاعر أن يصف هذا السكون بأنه مشمس بجامع وحدة الوقع النفسي دون أن يكون في عمله هذا خروج على أصول اللغة أو أصول البيان، وإذن فالرمزية من الناحية اللغوية إنما تستند إلى أصل ثابت في لغتنا وفي لغات العالم جميعها، بل إلى الأصل الذي أثرت بفضله جميع اللغات واكتسبت وسائل جديدة للتعبير بدل الاكتفاء بالوسائل القديمة البالية.
وأصدق من نقد الشاعر عزيز أباظة، وأدق حسا وأكثر اعتدالا ذلك النقد الذي وجهه الرائد عبد الرحمن شكري إلى الرمزية في إحدى مقالاته بمجلة «أبولو» عندما رأى شعراء تلك الجماعة يسرفون أحيانا في الصور الرمزية على نحو يصيب تلك الصور بالتناقض حينا، وبالتزاحم حينا آخر مما يضر بالرؤية الشعرية على نحو ما يسيء النبات بعضه إلى بعض إذا ازدحم في بقعة محدودة من الأرض.
وثمت نقد آخر يوجهه معظم النقاد العالميين أحيانا إلى الرمزية، وهو الغموض المسرف الذي يستحيل معه الرمز إلى لغز وإن كان مثل هذا النقد يخضع للنسبية إلى حد بعيد، فنحن قد نحس بالغموض الكثيف مثلا في عدد من قصائد «مالارميه» وتلميذه الكبير «بول فاليري»، ولكننا نرى النقاد يختلفون أحيانا كثيرة اختلافا بينا حول بعض القصائد لهذين الشاعرين الكبيرين، ونستطيع أن نضرب مثلا لذلك بقصيدة شهيرة لمالارميه عنوانها «البعث» حيث يقول:
لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
الشتاء الضاحي،
وفي جسمي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل. •••
إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي،
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم،
وأهيم حزينا خلف حلم غامض جميل،
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له،
ثم آخر منهوك العصب بعطر الأشجار،
وأحفر برأسي قبرا لحلمي،
وأعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس. •••
وأغوص منتظرا أن ينهض عني الملل،
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ؛
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس.
ففي هذه القصيدة يرى بعض النقاد أن الشاعر قد بلغ في رمزيته حد الغموض الكثيف الذي استحال فيه الرمز لغزا وبعدت المسافة على الإيحاء القريب المدخل، وذلك بينما يرى نقاد آخرون أن القصيدة لا غموض فيها بالرغم مما يبدو من أنه يعكس فيها الأوضاع ويقلب المواضعات؛ إذ بطول التأمل فيها لا نلبث أن نحس بأن الشاعر قد نجح نجاحا رائعا في خلق ذلك الجو النفسي الذي يشيع في روحه ويود أن ينقله إلينا أو يوحي به وهو جو الملل المتجانس مع جو الشتاء حتى ليلوح له ذلك الشتاء ضاحيا، بينما يتمطى العجز بجسمه ويحفر برأسه قبرا لأحلامه، ويعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس، وعلى الرغم من كل ذلك لا يفقد الشاعر أمله؛ فزرقة السماء تعود إلى الابتسام والعصافير ترفرف في ضوء الشمس، ولعله الربيع الناهض، ولعلها القدرة تثب مكان العجز المتمطي.
وهكذا نخلص إلى أنه وإن تكن قد نهضت مذاهب جديدة تعارض الرومانسية، إلا أن هذه المذاهب مجتمعة ومتفرقة لم تستطع أن تنزع عن الشعر الغنائي طابعه الوجداني الذي يعتبر من صميم جوهره؛ فالشعر لا بد أن يظل وجدانيا، وإن تكن الرمزية قد نجحت نجاحا نهائيا في أن تغير من طرائق التعبير الشعري وأن تحل الرمز والإيحاء محل التقرير والإفصاح.
وأما الوجدان الذي يصدر عنه الشعر الغنائي فقد نجحت معارك الحياة والتيارات الوطنية والقومية والفلسفات الواقعية الاشتراكية في أن تحوله من وجدان ذاتي كما قلنا إلى وجدان جماعي، ولا نريد أن نتعقب هذا التحول في الآداب العالمية بل نكتفي بأن نتعقبه في شعرنا العربي المعاصر الذي أخذ يتأثر منذ مطلع هذا القرن أبلغ التأثر بتيارات الفكر ومذاهب الأدب والفن العالمية من الوجدان الذاتي إلى الوجدان الجماعي.
لقد كان شعراؤنا التقليديون ينظمون بلا ريب عن أحداثنا الوطنية والاجتماعية الكبرى، ولكننا قلما كنا نحس في شعرهم بارتباط وجدانهم بتلك الأحداث وانفعاله بها على نحو يميز شاعرا عن آخر بحكم أن هذا الانفعال يتخذ ألوانا متباينة بتباين الأمزجة الفردية، بل لا نحسن بموقف خاص يتخذه الشاعر من تلك الأحداث أو رأي يلتزم به إزاءها؛ فكان شعرهم أقرب إلى الصحافة المجردة منه إلى الأدب المنفعل الدائم الحياة، وكانت هذه الحقيقة الغامضة من بين الأسباب الرئيسية التي حملت مدارس التجديد المتعاقبة على نقد الشعر التقليدي الذي لا يحسون فيه بشخصية الشاعر المتميزة ولون روحه وطريقة انفعاله، ومن هنا نشأت الدعوة إلى شعر الوجدان، ولكنه لما كان الوعي السياسي والاجتماعي لم يستيقظ بعد اليقظة الكاملة، ويتغلغل في النفوس حتى ينزل منها منزلة الإيمان المحرك، وكانت ظروف الحياة العامة لا تسمح بظهور الوجدان الجماعي الذي يربط الفرد بالمجتمع، ويرد جانبا من شقائه إلى فساد هذا المجتمع أو صلاحه، لأن مثل هذا الاتجاه لم يكن يرضى عنه أو يجيزه الحكم وذوو السلطان باعتبارهم مسئولين عن هذا المجتمع؛ فقد اتخذت الدعوة إلى شعر الوجدان وجهة الوجدان الذاتي الذي يتغنى فيه الشاعر بآلامه وآماله أو يهرب منها إلى مباهج الطبيعة مرجعا سعادته أو شقاءه إلى ذاته وإلى ظروف حياته الخاصة أو إلى القضاء والقدر الذي يكني له الشاعر باسم الزمان، غير مدرك أنه لا ينفرد بهذا الشقاء؛ لأنه عام يكاد يشمل المجتمع كله أو على الأقل أن جانبا كبيرا من أسبابه يرجع إلى الأوضاع الفاسدة في هذا المجتمع.
وعلى أية حال فقد أحدثت دعوات التجديد أثرها، وغيرت الاتجاه العام أو الاتجاه الغالب في شعرنا المعاصر؛ فظهرت شخصية الشاعر في شعره، وظهر لون روحه وطريقة انفعاله المتميزة بأحداث حياته الخاصة، وعلى هذا النحو رأينا شعر الروح المرحة المقبلة على الحياة عند علي محمود طه، والروح النارية المتفجرة عند إبراهيم ناجي، والانطوائية المتأملة عند حسن كامل الصيرفي، والثائرة المتمردة عند أبي القاسم الشابي.
ومع ذلك استطاعت بعض الأحداث الكبرى في مصر وفي العالم العربي كله أن تهز الوجدان الجماعي عند بعض الشعراء، وأن تثير هذا الوجدان؛ فأخذوا يتحدثون عن أفراحهم أو أتراحهم الناجمة عن تلك الأحداث الجسام.
ولقد كانت خيبة الأمل التي أصابت العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى عندما رأوا الحلفاء يغدرون بهم بعد أن ضللوهم وحملوهم على الاشتراك معهم في الحرب والاكتواء بنارها؛ على أمل أن يمنحوا الاستقلال عند انتهائها. وإذا بالحلفاء يتنكرون لكل وعودهم، ويقررون اقتسام العالم العربي فيما بينهم؛ فكانت خيبة الأمل هذه مصدرا لقصيدة رائعة عبر فيها الشاعر ميخائيل نعيمة عن مبلغ الحزن والأسى الذي أصابه كفرد من أبناء الشعب العربي، وكانت هذه القصيدة من أروع شعر الوجدان الجماعي في أدبنا العربي المعاصر، وهي قصيدة «أخي» التي يقول فيها:
أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله،
وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله،
فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا،
بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دامي،
لنبكي حظ موتانا. •••
أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانه،
وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه،
فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانا؛
لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم،
سوى أشباح موتانا. •••
أخي إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع،
ويبني بعد طول الهجر كوخا هده المدفع،
فقد جفت سواقينا وهد الذل مأوانا،
ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا،
سوى أجياف موتانا. •••
أخي قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تما،
وقد عم البلاء ولو أردنا نحن ما عما،
فلا تندب فأذن الغير لا تصغي لشكوانا،
بل اتبعني لنحفر خندقا بالرفش والمعول،
نواري فيه موتانا. •••
أخي من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار،
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار،
لقد خمت بنا الدينا كما خمت بموتانا،
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر،
نواري فيه أحيانا.
وكما أن شعر الوجدان الذاتي لم يكن بد من أن يتخذ لون الروح المتميزة لكل شاعر، وتتنوع نغماته بتنوع المزاج الفردي ونوع الثقافة وظروف الحياة الخاصة والعامة، فإن شعر الوجدان الجماعي لم يكن بد هو الآخر من أن تتنوع نغماته وتتعدد ألوانه، ونحن هنا إزاء قصيدة نعيمة لا نحس بثورة صاخبة متمردة ولا بنغمات خطابية مجلجلة، بل نحس بنغمات هامسة يسكبها الشاعر العربي في أذن أخيه العربي، ليعبر بها عن حزنه وأساه في روح هادئة تكاد تكون صوفية من شدة الألم، ولكنها مع ذلك روح قوية نافذة تستثير النفس وتهز أعماق الوجدان الجماعي للشعب العربي كله. فالشاعر منفعل بأحداث مجتمعه الكبرى وما نزل به من محن وآلام - لا في محاربة من ناصبهم العداء فعلا فحسب - بل وفي مجالدة أصدقاء الأمس المخادعين، وأعداء اليوم من أولئك الحلفاء الغادرين الذين لم يكادوا يفرغون من حربهم الطاحنة وينتصرون فيها حتى وجهوا نيرانهم إلى العرب الأوفياء؛ ليخمدوا ثوراتهم ويفرضوا عليهم استعمارهم البغيض وسيطرتهم الخانقة.
والظاهر أن هذه القصيدة الرائعة قد استهوت بوزنها ونغماتها الموسيقية ، ومضمونها الجماعي أفئدة الأجيال التالية من شعرائنا الشبان، وربما كانت حماستي لها في مطلع حياتي الأدبية ونضالي الحار في سبيل كل ما سميته عندئذ بالأدب المهموس، وتفضيلي له على الأدب الخطابي التقليدي؛ لها أثر في لفت أنظار شبابنا الشعراء إليها، فبين أشعار الأستاذ مختار الوكيل نلتقي من الوزن نفسه ومن القافية نفسها التي اختارها نعيمة للمقطوعة الأخيرة من قصيدته، وفيها يوجه الوكيل الخطاب أيضا بلفظة أخي؛ حيث يقول:
أخي قد شاء رب الكون أن يجمع قلبانا،
فأسكننا بواد فاض بالخيرات ألوانا،
وأجرى بيننا نهرا براح الخلد أحيانا،
ووحدنا على الأيام وجدانا وإيمانا،
وأنزل في جوانحنا هدى يغذو طوايانا.
ومن الواضح أن هذه القصيدة تصدر أيضا عن الوجدان الجماعي، أو هي على الأصح تحاول أن تجلي أسس هذا الوجدان الجماعي، وهي بلا ريب لا توغل في الوجدان كما توغل قصيدة نعيمة الرائعة، فالأستاذ مختار الوكيل غير منفعل فيها بأحداث معينة حتى إننا لا نحس فيها بعاطفية متقدة كعاطفية نعيمة، ومع ذلك فالقصيدة تدخل بلا ريب في شعر الوجدان الجماعي بحكم ما نستشعره فيها من بهجة بعناصر الوحدة التي تجمع بيننا وتوحد قلوبنا وتسهم في التقريب بين ألوان روحنا.
ويمضي الزمن ويقوى الوعي الجماعي وتتسع آفاقه، فلا يعود وجداننا الجماعي قاصرا على وطننا المحلي، بل يمتد إلى قوميتنا العربية العامة، ومن جهة أخرى لا يظل هذا الوجدان الجماعي قاصرا على الناحية السياسية في قضايانا الوطنية أو القومية، بل يمتد أحيانا إلى حياتنا كلها فيشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة بعد أن أخذنا نحل قضايانا الوطنية والقومية تباعا مع الدول الاستعمارية، ونحقق استقلالنا السياسي دولة بعد أخرى، ونحرر سياستنا الخارجية من كل تبعية للغير، ونقف في المجال الدولي هذا الموقف الحيادي المشرف الذي ترتضيه الشعوب العربية كلها وتعتز به.
وفي خلال هذا الشوط الطويل الشاق الذي قطعناه كان الوجدان الجماعي يطغى شيئا فشيئا على الوجدان الذاتي، وظهر بيننا شعراء أقوياء أخذوا يغذون هذا الوجدان الجديد النامي حينا، ويهاجمون الوجدان الذاتي المنطوي أو الهارب هجوما عنيفا على نحو ما قال شاعر شاب في قصيدة سماها «إلى الشاعر التائه»:
ما لعينيك تبسمان، وعيناي تموجان ثورة ووميضا!
ما لقلبي وأنت قلبك راض يطلب النور والفضاء العريضا!
ما لروحي تكاد تقتل جسمي فتراه العيون جسما مريضا!
ما لمثلي يرى الليالي سودا ويرى مثلك الليالي بيضا!
ما لشعري طغى الجنون عليه، أم ترى أنت لا تراه قريضا! •••
أنت تخلو إلى النجوم، إلى الزهر، إلى الطير حينما يتغنى،
ربة الخمر باركتك فغنيت هراء ورحت تسأل دنا،
في سماء الخيال ضم جناحيك تقع بيننا فتصبح منا،
دع جمال الخيال وادخل كهوفا للملايين وارو للكون عنا،
إنما الفن دمعة ولهيب، ليس هذا الخيال والتيه فنا. •••
قلب الطرف هل ترى غير جهل، وهزال وآهة مكتومه،
وعيون قد أغمضت وبخور أطلقوه فراح يذري سمومه،
وجيوش من الخداع تمشيها أكف لغاية مرسومه،
وأكف هي المتابع للمال أضاعت سنينها محرومه؛
دع جمال الخيال وادخل كهوفا للملايين وارو للكون عنا،
إنما الفن دمعة ولهيب، ليس هذا الخيال والتيه فنا.
وبعد قيام ثورتنا الأخيرة وتحقيق الكثير من أهدافنا الكبرى التي كان شعراؤنا الشبان يستنفرون الشعب حتى ينهض لتحقيقها لم يعد هناك لهذا الاستنفار العنيف نحو الثورة داع، وإن ظل الوجدان الجماعي مع ذلك منبعا يستقي منه جيلنا الحاضر إلهامه، ومضمونه الشعري وهو مضمون متفاوت قد يكون حديثا عن أمجاد الماضي وبطولات الجهاد، أو دعوة لمواصلة اليقظة والحرص على مكاسب الثورة.
وقد ينضح الوجدان عن ابتهاج وتفاؤل بما حقق شعبنا من انتصارات على نحو ما نجد في قصيدة أغاني إفريقيا من ديوان محمد مفتاح الفيتوري، وهي التي يستهلها بقوله:
يا أخي في الشرق في كل سكن
يا أخي في الأرض في كل وطن
أنا أدعوك فهل تعرفني
يا أخا أعرفه رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي لم أعد
عبد ماض هرم عبد وثن
أنا حي خالد رغم الردى
أنا حر رغم قضبان الزمن
فاستمع لي استمع لي
إنما الجيفة صماء الأذن
ومنها يقول:
الملايين أفاقت من كراها
ما تراها؟ ملأ الأفق صداها
خرجت تبحث عن تاريخها
بعد أن تاهت على الأرض وتاها
حملت أفؤسها وانحدرت
من روابيها وأغوار قراها
فانظر الإصرار في أعينها
وصياح البعث يجتاح الجباها
يا أخي في كل أرض عريت
من ضياها وتغطت بدجاها
يا أخي في كل أرض وجمت
شفتاها واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست أعجوبتها أو مومياها
انطلق فوق ضحاها ومساها
يا أخي قد أصبح الشعب إلها
هذا، ولقد اقتضى المضمون الشعري الجديد النابع من الوجدان الجماعي أن يلجأ الشعراء إلى صور وقوالب جديدة يصبون فيها وجدانهم الجماعي، وبخاصة بعد أن تغيرت الظروف بعد الثورة، ولم يعد هناك مجال مستمر للاستنفار الثوري العنيف الذي يلائمه القالب الغنائي التقليدي في شعرنا العربي، فرأينا الكثيرين من شعرائنا الجدد يلجئون إلى قالب القصة الصغيرة الساذجة حينا، وقال الحوار الدرامي السريع حينا، ولما كانت مثل هذه القوالب لا تستدعي بالضرورة وحدة البيت الشعري كوحدة للموسيقى الشعرية، بل يقضي الحوار بتجزئة البيت الواحد إلى تفاعيل وفصل بعضها عن بعض لتوائم القصص أو الحوار، فقد أقدم شعراؤنا على تغيير الصورة مجاراة لتغيير المضمون وتغيير طريقة تصميم القصيدة وبنائها الهندسي.
الصورة الجديدة للشعر
والواقع أن الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة لم تدفع إليها نزوة طارئة أو مجرد الرغبة في التجديد، بل جاءت لتحول عميق في ثقافتنا الفكرية والفنية؛ ذلك لأنه ما من شك في أن فلسفة ثورتنا الجديدة قد وجهت جيلنا الجديد الناهض نحو الواقعية الاشتراكية، وهي واقعية تنفر من الذاتية الرومانسية وتجنح إلى الجماعية؛ أي إلى استقاء التجارب الشعرية من مشكلات المجتمع ومواطن ضعفه وقوته وأفراحه وآلامه، لما كان الشعر الغنائي، أي شعر القصائد، لا يمكن أن يكون بطبيعته إلا شعرا وجدانيا؛ أي شعرا تلونه عاطفة الشاعر المنفعلة بتجارب الشعب، كما قد تشكله أحيانا فلسفة الشاعر في الحياة ووجهة نظره والمذهب الاجتماعي الذي يدين به، فقد كان حتما على هذا الشعر أن يكون لكل قصيدة منه موضوع يتخذ صورة القصة ولكنها قصة لا يمكن أن تصبح واقعية خالصة، بل لا بد أن تمتزج بوجدان الشاعر الذي يعطيها طابع الشاعرية، كما أنها لا تحرص على التفاصيل التي تحرص عليها عادة القصة النثرية ولا على التسلسل المنطقي المحكم أو تحديد أبعاد الشخصيات وملامحها النفسية بقدر ما تحرص على إبراز انفعال الشاعر بهذه القصة وما تثيره في نفسه من شتى العواطف حتى لكأنها تعبير من الشاعر عن الانطباعات التي أحدثتها في نفسه. وإذا كان الشاعر لا بد أن يحيطنا علما بأحداث تلك القصة وبالصورة العامة لشخصياتها فإنه يقتصر عادة على الإشارة السريعة واللمحة الخاطفة الموحية، حتى لا يصاب شعره بالنثرية، وحتى لا يطغى عنصر القصص على عنصر الوجدان الذي سيظل أبدا الطابع المميز للشاعرية.
ولعلنا نستطيع أن نلمس هذه الصورة الجديدة للقصيدة العربية المعاصرة في قصيدة كتبتها أخيرا الشاعرة الوجدانية السيدة ملك عبد العزيز، وهي لم تكتبها مجاراة للتيار الجديد؛ لأنها شاعرة لا تقول الشعر إلا تنفيسا عن وجدانها الذاتي، وهي أبعد ما تكون عن أن تحترف الشعر أو تنتقل مع تياراته، وإنما تقوله عندما ينفعل وجدانها وتشعر بحاجة ملحة إلى قوله، وقد انفعلت لما أذاعته صحفنا عن قصة البطل الشاب «جواد حسني زين العابدين» أثناء معركة بور سعيد الخالدة، وما كان من سفره إلى ساحة القتال على رأس فريق من زملائه الفدائيين، ثم إحاطة العدو بهم ورفضه أن يتراجع مع زملائه مؤثرا الموت على الهزيمة، ثم وقوعه أسيرا في يد الجند الفرنسيين، وسجنه في غرفة ضيقة بمعسكرهم عند شاطئ البحر، على الرغم من الدماء التي كانت تنزف من جراحه، وقد اتخذ من هذه الدماء مدادا سجل به على جدران الغرفة بعض أحداث قصته البطولية الرائعة، وفي النهاية تظاهروا بأنهم قد قرروا الإفراج عنه بعد أن أوقف القتال ولكنه لم يكد يخرج ويسير بضع خطوات على الشاطئ متعثرا نازف الدم حتى أطلقوا عليه الرصاص غدرا من خلف، وألقوا بجثته إلى البحر . وقد انفعلت الشاعرة بهذه القصة أيما انفعال، وزادها شجنا أن رأت فيه صورة لأحد أبنائها، وأنار الانفعال طاقتها التصويرية، فخيل إليها أنها قد دخلت إلى غرفة سجن البطل ورأت الكلمات المسطرة على جدرانها بدمه، وجسم خيالها هذه الرؤية الشعرية المؤثرة فخيل إليها أن هذه الدماء قد أنبتت شجرة خضراء رمزا للحياة المطمئنة التي يرويها دم الشهداء، ثم عاد خيالها إلى قصة البطولة كلها وما تعاقب فيها من أحداث تصورها بخطوط سريعة عميقة، وتسبغ على اللوحة القصصية كلها فيضا من مشاعرها كشاعرة وكإنسانة وكأم، ولكن دون أن تلتزم في عرض هذه القصة وتسلسلها إلا منطق مشاعرها، فهي تبدأ القصيدة برؤية شعرية داخل غرفة سجن البطل ثم تنتقل إلى القصة، وتعود في النهاية إلى تصوير شجرة الحياة التي صور لها خيالها أنها قد انبعثت وأينعت وأورقت بفضل ما غذاها به بطلها من دم ذكي (راجع القصيدة في ديوان «أغاني الصبا» للشاعرة، نشر دار المعارف بالقاهرة).
فهذه قصيدة ذات موضوع هو قصة البطل «جواد حسني زين العابدين» في معركة استشهاده، وبفضل وحدة الموضوع حققت القصيدة تلك الوحدة العضوية، التي نادى بها رواد التجديد في شعرنا العربي المعاصر منذ أوائل هذا القرن ولم يستطيعوا تحقيقها في شعر الوجدان الخالص والخواطر المتناثرة، فظل ترتيب الأبيات في القصيدة وتسلسلها قابلا للتقديم والتأخير دون أن يضطرب بناؤها، أما في هذه القصيدة فنرى وحدة الموضوع تمكن الشاعرة من أن تحقق هذه الوحدة العضوية تحقيقا رائعا، وإن اختلفت تلك الوحدة في القصيدة عنها في القصة النثرية التي لا بد أن تخضع للمنطق الموضوعي الصارم، بينما القصيدة لا تخضع ولا يمكن أن تخضع إلا لمنطق الشعور، فالشاعرة تبدأ قصيدتها برؤية شعرية لسجن البطل، وإذا بهذه الرؤية تطلق العنان للعاطفة التي تحرك الخيال، فتعود الشاعرة إلى القصة كلها بحلقاتها المتتابعة لا لتفصل تلك الحلقات ولكن لتعبر عما تثيره كل حلقة في وجدانها من انفعال عاطفي إنساني زاخر حتى لكأن القصيدة قد استحالت إلى وجدان خالص مع استفادتها من الموضوع في تحقيق الوحدة العضوية التي يتكامل بها العمل الفني، ونجحت الشاعرة في أن تغذي نفوسنا بالأحاسيس نفسها التي استشعرها وجدانها بفضل طاقتها التصورية القوية، بل نجحت في أن تغمر أرواحنا بفيض من مشاعر الأسى المتأسي الرفيع، ومن الإنسانية الشجاعة المستبسلة.
وأما من الناحية الموسيقية فالقصيدة مستقيمة النغم المبني على تفعيلة الرجز دون تقيد بوحدة البيت الموسيقية؛ تلك الوحدة التي لا تشعر بلزومها إلا في شعر الخطابة والمحافل أو شعر الوجدان الخالص أحيانا، وأما الوجدان المختلط بموضوعه والمصبوب في تضاعيف القصة فوحدته الموسيقية هي القصيدة كلها، ومع ذلك حرصت الشاعرة على أن تقسم هذه الوحدة الموسيقية الطويلة إلى وحدات تكاد تحكي الحركات المتتابعة في السيمفونية الموسيقية، وقد جزأت هذه الوحدات الموسيقية وفقا لأجزاء القصة ومراحلها المتتابعة كما تجزأ السيمفونية سواء بسواء وفقا للمدلول العاطفي لكل حركة من حركاتها.
المضمون والصورة
على ضوء التطور التاريخي لنظرية الشعر نستطيع أن ننظر الآن في مقومات هذا الفن، وهي في مجموعها لا يمكن أن تخرج عن المضمون والصورة؛ أي عن المادة الأولية التي يصبها الشاعر في قصيدة، والصورة التي يبني بها قصيده، والبحث في المضمون الشعري يعتبر من المباحث الجديدة؛ إذ إن النقد التقليدي والتاريخ الأدبي المتوارث كانا يبحثان دائما، في أغراض الشعر وأهدافه أكثر مما يبحثان في مضمونه، فالعرب القدماء مثلا كانوا يقسمون الشعر بحسب أغراضه فيجعلونه مدحا وهجاء وغزلا ورثاء ووصفا وحماسا وما إليها، دون عناية كبيرة بالمضمون الذي يصبه الشاعر في كل من هذه الأغراض حتى رأيناهم يقولون مثلا إن المدح ثناء على الحي والرثاء ثناء على الميت، دون مناقشة لطبيعة المضمون الذي يجب أن يصبه الشاعر في قصيدة الرثاء، وهل يحسن أن يكون هذا المضمون تفجعا على الميت وحزنا لوفاته أو مدحا له وتسجيلا لفضائله، وتفلسفا سطحيا حول الموت والحياة والقضاء والقدر، أو مزجا بين كل هذه العناصر أو تغليبا لأحدها على الآخر.
وباستطاعتنا أن نعثر على تقسيمات مماثلة في آداب الأمم الأخرى القديمة، مثل أدب اليونان؛ حيث نرى شعره الغنائي ينقسم أحيانا بحسب صورته الموسيقية، فيكون منه شعر ال
Elegie
ومنه شعر الأيامب اللذين يتميزان بالتركيب الموسيقي لا بالغرض الشعري كما نجد تقسيما آخر يقوم على الأغراض، فهناك أناشيد النصر وأغاني الزواج والأفراح وأغاني الرعاة والريفيات وما إليها.
ولكن ظهور علم الجمال وفلسفته في العصور الحديثة أخذ يربط بين الشعر وغيره من الفنون الجمالية، ويخضعها كلها لفلسفات جمالية مختلفة، ويحاول أن يرسم لكل فن مجالات خاصة حينا آخر، كما يبحث في مضمون كل فن وصوره.
ففي العصور القديمة كان الاعتقاد السائد أن الأشياء الجميلة وحدها هي التي تصلح لأن تكون مصدرا للإلهام الشعري، بل ومصدرا للفنون الجميلة جميعها، ولكن التفكير الحديث أخذ يخلخل هذه النظرية فيرى أن الأشياء القبيحة قد تصلح هي الأخرى لأن تكون موضوعا للفن الجميل، وأننا قد نطرب لرؤية هذه الأشياء القبيحة مصورة أو معبرا عنها بأحد تلك الفنون مع أننا لا نطرب، بل ولا نرتاح لرؤيتها في الطبيعة على نحو ما نطرب مثلا لرؤية لوحة زيتية تصور رجلا فقيرا مريضا ملقى على قارعة الطريق؛ فنطرب باللوحة وإن كنا ننفر من مشاهدة موضوعها على الطبيعة، وفي تفسير ذلك يختلف المفكرون؛ فمنهم من يرجع طربنا إلى مهارة المصور، ومنهم من يرجعه إلى ما يضفيه المصور على موضوعه من ذات نفسه ومن قوة التعبير المثير، ومنهم من يجمع بين الأمرين، ولعلنا نجد أمثلة كثيرة على ذلك في شعر الهجاء الذي ازدهر عند الشعراء القدامى من عرب وغير عرب، فهو شعر يصور القبيح ومع ذلك نطرب له ونعجب به، وعند شعراء النقائض وكبار الهجائين العرب من أمثال الحطيئة وابن الرومي شواهد لا تنفد لهذا الشعر الجميل الذي يصور القبائح.
مجالات الفنون
ونمر من هذه القضية التي يلوح أنها قد حلت، واستقر الرأي فيها على أن الفنون الجميلة قد تصور الجمال والقبح على السواء إلى قضية أخرى تبدو أكثر جدة وطرافة، وهي القضية التي أثارها الناقد الألماني الكبير لسنج
Lessing
في القرن الماضي، ونعني بها نظرية المجالات الفنية، وهل يحسن أن يقتصر كل فن جميل على إحداها خضوعا لطبيعته ووسائل تعبيره، أم أن المجالات جميعها مفتوحة، ويحسن أن تظل مفتوحة للفنون كلها ولوسائل تعبيرها المتباينة؟
ولقد اختار لسنج لبحثه هذا مجالا مواتيا هو مجال الوصف؛ لينظر إلى أي مدى تستطيع الفنون المختلفة أن تتسابق في مجاله، وقد أثار هذا البحث في نفسه قراءته لوصف الشاعر فرجيل في إينيادة الرومان للعذاب الذي أنزلته الآلهة بالكاهن لاوكون الذي خان أسرارها، فأرسلت إليه أسرابا من الأفاعي التي طوقته هو وأولاده وعصرتهم عصرا أنزل بهم أقصى العذاب. ورأى لسنج إلى جوار هذا الوصف الشعري المثير لمأساة لاوكون عدة تماثيل تجسم هذا الكاهن وأولاده بين أحضانه والأفاعي تلتف بهم وتعتصرهم، وقد ارتسمت على ملامحهم آلام عذابها المميت؛ فأخذ هذا الناقد الكبير يعقد المقارنات بين قوة تعبير الوصف الشعري والفن التشكيلي ليستطرد بعد ذلك إلى البحث في مجالات الفنون عامة، وهل يحسن أن يتخير كل منها مجاله أم يدلف إلى كل المجالات، وقد دون كل هذه المقارنات في كتابه النقدي الشهير المسمى «لاوكون».
والنتيجة الصلبة التي نخرج بها من مطالعة كتاب «لاوكون» ل «لسنج» وتحليله: هي قوله إن للفن التشكيلي لمحة في المكان، وأما الفن الشعري فله لمحات في الزمن بمعنى أن المصور أو النحات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضع واحد لموضوعه أي لمحة واحدة في المكان، أما الشاعر فيستطيع أن يصور بفنه عدة أوضاع متلاحقة للموصوف؛ أي عدة لمحات في الزمن على نحو ما نشاهد مصورا أو نحاتا مثلا يرسم صورة أو ينحت تمثالا لحصان في وضع معين بينما نرى شاعرا مثل امرئ القيس يقدم لنا في بيت شعر واحد عدة أوضاع للحصان؛ حيث يقول:
مكر، مفر، مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
إذ من المؤكد أن أي مصور أو نحات لا يستطيع أن يجمع في لوحة واحدة أو في تمثال واحد كل هذه الأوضاع التي يمكن أن يتخذها الحصان في كره وفره وإقباله وإدباره كجلمود صخر ينحدر على سفح ربوة.
هذا وقد استغل ناقدنا المرحوم إبراهيم عبد القادر المازني نظرية «لسنج» هذه في دراسته لفن الوصف عند ابن الرومي في المقالات التي كتبها عنه، وجمعت في كتابه «حصاد الهشيم» حيث أخذ يدلل على فطنة ابن الرومي الفنية باختياره في الوصف الشعري المواضيع التي يحذقها هذا الفن ويبذ فيها غيره من الفنون، ونعني بها «مواضيع الحركة» ذات المراحل المتلاحقة التي يستطيع الشعر وحده أن يصورها ويوحي بها في أضيق حيز، وقد اختار المرحوم المازني للتدليل على ذلك وصف ابن الرومي للخباز وهو يصنع الرقاق؛ حيث قال:
ما أنس لا أنس خبازا مررت به
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في لجة الماء يلقى فيه بالحجر
ففي هذه الأبيات الثلاثة استطاع ابن الرومي أن يصور صانع الرقاق في أوضاعه المتلاحقة؛ أي في لمحات متتابعة في الزمن لا في وضع مكاني محدد على نحو ما تستطيع عادة الفنون التشكيلية.
وارتكازا على هذا التمييز البادي الوجاهة حاول «لسنج» في كتابه أن يحدد مجالات الفنون المختلفة، ويفصل بينها بحيث لا ينبغي أن يجازف فن منها بالخروج من مجاله إلى مجال آخر يتخلف فيه، ولكن أساس البحث لم يلبث أن تغير، فلم يعد يجري في تحديد المجالات الفنية بل في خصائص كل فن وممكناته حتى داخل المجال الواحد، فالفنون التشكيلية مثلا تستطيع أن تلتقط لمحة في المكان لتصورها، كما يستطيع فن الشعر أن يلتقط اللمحة نفسها، ومع ذلك يختلف مضمون أحدهما عن مضمون الآخر، وإذا كان تاريخ الشعر بخاصة والفنون عامة يوحي بأن كل فن قد حاول أن يغتصب خصائص الفن الآخر وإمكانياته حتى قيل - كما سبق أن أوضحنا - إن الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت، فإن مضمون كل من الفنين قد أخذ يتحدد بعد ذلك على نحو يلوح لنا اليوم حاسما، فالشاعر لم يعد يطمح إلى تجسيم الموصوفات كما كان يريد «البرناسيون» وأنصار الفن للفن، بل أخذ يحصر همه في أن يعبر عن وقع الموصوفات في نفسه وتفاعلها مع وجدانه، وكأن الوصف قد صار ضربا من شعر الوجدان لا ضربا من المحاكاة الجمالية، حتى ليلوح لنا أحيانا كثيرة أن الشاعر الحديث لا يلجأ إلى الوصف للتجسيد الحسي، بل كمحك للوجدان وامتزاج بالطبيعة وتجاوب معها وانفعال بها قد يصل إلى حد الحلول الشعري؛ أي إلى حد فناء الشاعر في الطبيعة وامتزاجه بها وخلع وجدانه عليها على نحو ما قال بودلير «إن الأشياء تفكر خلالي، كما أفكر خلالها.» ولعلنا نستطيع أن نجد مثلا رائعا لهذا الوصف الوجداني الذي يصل إلى حد الحلول الشعري في إحدى روائع أدبنا العربي الحديث وهي قصيدة «المساء» التي قالها شاعرنا الكبير خليل مطران في صدر شبابه سنة 1902 وهو مريض بمكس الإسكندرية، ومطلعها:
داء ألم حسبت فيه شفائي
من صبوتي فتضاعفت برحائي
وفيها يقول:
إني أقمت على التعلة بالمنى
في غربة قالوا تكون دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها
أيلطف النيران طيب هواء
أو يمسك الحوباء حسن مقامها
هل مسكة في البعد للحوباء
عبث طوافي في البلاد وعلة
في علة منفاي لاستشفاء
متفرد بصبابتي متفرد
بكآبتي متفرد بعنائي
شاك إلى البحر اضطراب خواطري
فيجيبني برياحه الهوجاء
ثاو على صخر أصم وليت لي
قلبا كهذي الصخرة الصماء
ينتابها موج كموج مكارهي
ويفتها كالسقم في أعضائي
والبحر خفاق الجوانب ضائق
كمدا كصدري ساعة الإمساء
تغشى البرية كدرة وكأنها
صعدت إلى عيني من أحشائي
والأفق معتكر قريح جفنه
يغضي على الغمرات والأقذاء •••
يا للغروب وما به من عبرة
للمستهام وعبرة للرائي
أوليس نزعا للنهار وصرعة
للشمس بين جنازة الأضواء
أوليس طمسا لليقين ومبعثا
للشك بين غلائل الظلماء
أوليس محوا للوجود إلى مدى
وإبادة لمعالم الأشياء
حتى يكون النور تجديدا لها
ويكون شبه البعث عود ذكاء
ولقد ذكرتك والنهار مودع
والقلب بين مهابة ورجاء
وخواطري تبدو تجاه نواظري
كلمى كدامية السحاب إزائي
والدمع من جفني يسيل مشعشعا
بسنى الشعاع الغارب المترائي
والشمس في شفق يسيل نضاره
فوق العقيق على ذرى سوداء
مرت خلال غمامتين تحدرا
وتقطرت كالدمعة الحمراء
فكأن آخر دمعة للكون قد
مزجت بآخر أدمعي لرثائي
وكأنني آنست يومي زائلا
فرأيت في المرآة كيف مسائي
ففي هذه القصيدة يشكو الشاعر ألمه ويحن لحبيبته، ويصف مشاهد الطبيعة في مكس الإسكندرية، ولكن الوصف عنده كشاعر حديث أبعد ما يكون عن الوصف الحسي الذي ألفناه في شعرنا العربي القديم؛ إذ أصبح ما يمكن أن نسميه بالوصف الوجداني؛ أي الوصف الذي يمتزج فيه الشاعر بالطبيعة ويتبادل وإياها ألوان وجدانه حتى لكأنه قد حلت به وحل بها، فرياح البحر الهوجاء صدى لاضطراب خواطره، والصخرة الصماء ينتابها موج كموج مكارهه، والبحر خفاق الجوانب ضائق كمدا كصدر الشاعر ساعة الإمساء، وكدرة البرية صاعدة إلى عينيه من الأحشاء، والأفق معتكر قريح الجفن، وهو يرى خواطره بعينيه كدامية السحاب، والدمع يسيل من جفنه مشعشعا بسنى الشعاع الغارب، والشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر لترثيه، ومن كل هذا تتكون المرآة التي يرى فيها الشاعر نفسه وترى فيها الطبيعة نفسها، وبذلك يتم التقابل بين الطبيعة والوجدان ويبرز حتى في هذا المجال الطابع الوجداني الذي أصبح - ونرجح أن يظل - الطابع الأساسي للشعر الغنائي كله من حيث مضمونه.
الفكر والتأمل
وإذا كان الشعر الغنائي في العصور القديمة والعصور الوسطى قد عرف ما يسمى بشعر الفكرة وشعر الحكم، وكتب منه الممتع المركز الصافي الجوهر، فإن هذا النوع من الشعر قد تطور في العصور الحديثة من الفكر والفلسفة والحكمة إلى التأمل والاستبطان الذاتي، فلم يعد الشعر الحديث يحفل بالفكرة في ذاتها، ولا بالحكمة في ذاتها، بل يحفل بتأمل الأفكار والحقائق تأملا وجدانيا؛ أي بالتعبير عن وقع هذه الحقائق والأفكار والحكم في النفس البشرية وتأثيره فيها عن طريق التأمل، والنظر في تأثيرها في حياة الإنسان ومصيره وسعادته أو شقائه؛ بحيث يمكن القول إن ما نسميه قديما بشعر الفكرة قد أصبح من الواجب أن يصبح اليوم شعر التأمل الفكري وإلا رميناه بالجفاف والنثرية وفقا لمدى بعده عن الطابع الوجداني الذي نسعى إلى تقريره كطابع حاسم للفن الشعري الذي لا تزال الإنسانية تنتجه حتى اليوم، وهو فن الشعر الغنائي الذي طفا على وجه الزمن ولم يستطع موجه أن يبتلعه كما ابتلع من قبل شعر الملاحم وشعر التمثيليات، وكان السبب الأساسي في الإفلات من طوفان الزمن هو إشباعه لحاجة إنسانية خالدة ما خلد الإنسان، وهي الحاجة إلى التعبير عن الوجدان البشري.
وإذا كان شاعرنا خليل مطران قد كان له أكبر الفضل خلال نهضتنا الشعرية الحديثة في تطوير فن الوصف الشعري من الوصف الحسي إلى الوصف الوجداني مجاراة للتطور الإنساني العام؛ فإن شاعرنا الآخر عبد الرحمن شكري قد كان له أكبر الفضل في تطوير شعر الفكرة إلى شعر التأمل الوجداني والاستبطان الذاتي، فعبد الرحمن شكري قد يلوح شعره عند النظرة السطحية الأولى من شعر الفكرة والتفلسف، ولكننا عند إمعان النظر فيه لا نلبث أن نتبين أنه قد تطور بهذا النوع من الشعر تطورا واسع المدى، بأن أحاله من تفكير فلسفي إلى تأمل وجداني، واستبطان ذاتي، وتعبير عن موقف النفس البشرية من الحقائق التي نعلمها والحقائق التي نجهلها على السواء، حتى ليصح - بل يجب - أن نسمي شعره بشعر «التأمل الوجداني» على نحو ما سمينا فن الوصف عند مطران بأنه هو الآخر فن الوصف الوجداني. ولعلنا نستطيع أن نضع أيدينا على هذه الخاصية الفريدة في شعر عبد الرحمن شكري بالنظر في القصيدة التي يخاطب فيها المجهول في الجزء الخامس من ديوانه ص31 حيث يقول:
يحوطني منك بحر لست أعرفه
ومهمه لست أدري ما أقاصيه
أقضي حياتي بنفس لست أعرفها
وحولي الكون لم تدرك مجاليه
يا ليت لي نظرة للغيب تسعدني
لعل فيه ضياء الحق يبديه
أخال أني غريب وهو لي سكن
خاب الغريب الذي يرجو تقاصيه
أوليت لي خطوة تدحو مجاهله
وتكشف الستر عن خافي مساعيه
كأن روحي عود أنت تحكمه
فابسط يديك وأطلق من أغانيه
والروح كالكون لا تبدو أسافله
عند اللبيب ولا تبدو أعاليه
وأكبر الظن أني هالك أبدا
شوقا إليك، وقلبي فيه ما فيه
من حسرة وإباء لست أملكه
يأبى لي العيش لم تدرك معانيه
وأنت في الكون من قاص ومقترب
قد استوى فيك قاصيه ودانيه
كأنني منك في ناب لمفترس
المرء يسعى ولغز العين يدميه
كم تجعل العين طفلا حار حائره
ورب مطلب قد خاب باغيه
لو النبال نبال القوس مصمية
كنت ادريت بسهم القوس أرميه
أو كان للسحر سهم نافذ أبدا
لكان لي منه سهم صال راميه
يا مصلت السيف قد فلت مضاربه
ورامي السهم قد خابت مراميه
قلبي يحدثني ألا يليق به
رضى بجهل ذليل اللب يرضيه
قد ثار ثائر نفس عز مطلبها
وطار طائر لب في مراقيه
كالنسر لا حاجب للشمس يحرقه
ولا الصواعق والأرواح تثنيه
وأنت كالليل والأفهام حائرة
مثل العيون علاها منك داجيه
ليل مهيب كموج البحر حندسه
تكاد تسمع منه صوت طاميه
فليتهن خفافيش تلوح لها
مجاهل الحق خافيه وباديه
بل ليت لي فكرة كالكون واسعة
أدحو بها الكون تبدو لي خوافيه
ليس الطموح إلى المجهول من سفه
ولا السمو إلى حق بمكروه
إن لم أنل منه ما أروي الغليل به
قد يحمد المرء ماء ليس يرويه
والقانعون بما قد دان عيشهم
موت فإن هدوء القلب يرديه
يا قلب يهنيك نبض كله حرق
إلى الغرائب مما عز ساميه
فالعيش حب لما استعصت مسالكه
تجارب المرء تدميه وتعليه
كم ليلة بتها ولهان ذا أمل
لم يسل قلبي أن غابت أمانيه
لعل خاطر فكر طارقي عرضا
يدنو بما أنا طول العمر أبغيه
يوضح الغامض المستور عن فطن
وأفهم العيش تستهوي بواديه
هيهات ما كشفت لي الحق خاطرة
ولم يجب لي سؤالا ما أناديه
فهذه القصيدة وكثير من أمثالها من روائع شكري قد تبدو فكرية الطابع ولكنها في الحقيقة ليست من التفكير والتفلسف في شيء، بل هي تأمل وجداني خالص للمجهول ومعمياته، واستبطان ذاتي لوقع هذا المجهول وتلك المعميات في نفسه البشرية المعذبة، وفي كل هذا ما يحيل شعره إلى شعر وجداني رفيع يجمع بين التأمل الفكري والانفعال الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما أوضحنا في الجزء الأول من كتابنا عن الشعر المصري بعد شوقي؛ حيث اتخذنا من شعر عبد الرحمن شكري كله ومن خواطره النثرية ما أيدنا به نظرتنا إليه كرائد ضخم من رواد شعرنا العربي المعاصر الذي ماشى التطور العالمي؛ إذ رأيناه ينتقل بالشعر من ظاهر الحواس إلى باطن النفس البشرية، ومن التفكير الفلسفي إلى التأمل الوجداني عن طريق الرمز والإيحاء حينا، والإفصاح والتصوير البياني حينا آخر.
وهكذا نخلص من حديثنا عن المضمون الشعري إلى النتيجة نفسها التي حاولنا تأييدها، وهي أن هذا المضمون سواء استمده الشاعر من الطبيعة الخارجية أو من ذات نفسه العاطفية أو الفكرية لا بد أن يتخذ في الشعر الغنائي الطابع الوجداني الذي إذا فقده الشعر فقد جوهره، ولم يستطع أن يعوض هذا الفقدان بأية واقعية أو طبيعية أو محاكاة، فالشعر في مضمونه أولا وآخرا تعبير عن وجدان الشاعر أيا كان مصدر هذا الوجدان الذي تختلط فيه الطبيعة في ذات الشاعر وبمجتمعه وحياة ذلك المجتمع. وإذا كان هناك تطور جديد قد طرأ على نظرية الشعر الغنائي فهو ذلك التطور الذي جاء نتيجة لظهور فلسفات سياسية واجتماعية جديدة غطت جميع مجالات النشاط البشري بما فيها مجال الشعر الغنائي، وإن يكن من المؤكد كما سبق أن أشرنا أنها لم تستطع أن تقضي على الطابع الوجداني للشعر الغنائي، وكل ما استطاعته هو أن حولت جانبا من هذا الوجدان من الذاتية؛ أي من الرومانسية إلى الجماعية؛ أي إلى النظرة الاشتراكية للحياة، ولكن دون أن تحيله إلى فن موضوعي خالص كما استطاعت أحيانا في مجال القصة والمسرحية النثريتين.
الصورة أو الشكل
أما من ناحية الصورة والتركيب الموسيقي للقصيدة العربية، فيخيل إلينا أن هذه القضية لم تدرس بعد في شعرنا العربي دراسة علمية يجب أن ترتكز على المنهج التاريخي والمنهج المقارن معا؛ وذلك لأننا لو نظرنا إلى صور الشعر وتركيباته في الآداب العالمية لوجدنا أنها قد اتخذت أشكالا متباينة، فالملحمة الشعرية كانت لها صورتها وتركيبها الموسيقي، والمسرحية الشعرية كذلك، بل إن القصائد الغنائية التي تعيننا هنا قد اتخذت هي الأخرى عدة صور وتراكيب في الآداب الكبيرة، وإذا كنا لا نستطيع استقصاء كل هذه الصور والتراكيب فلا أقل من أن نختار بعضها لنرتكز عليها في الدراسة المقارنة التي تستطيع وحدها أن تكشف لنا صورة القصيدة العربية وتركيبها، بل وأن تعيننا على تفسير هذه الصورة وذلك التركيب.
فمن الأدب اليوناني القديم وهو الأصل الذي استمدت منه جميع الآداب العالمية نستطيع أن نختار نوعا من القصيدة الغنائية كان يسمى
ode (أود)، وقد وصل به إلى حد الكمال شاعر اليونان الغنائي الأكبر بندار، وهي عبارة عن نشيد كان يتغنى به اليونان القدماء عندما ينتصر ممثلو مدينتهم أو قريتهم أو قبيلتهم في إحدى المسابقات الرياضية الكبرى التي كانت تعقد لبلاد الإغريق كلها كالألعاب الأوليمبية والكورنثية والدلفية والنيمية، وكانت تلك الأناشيد تصاحبها الموسيقى وحركات راقصة؛ ولذلك كان تركيبها الموسيقي يقوم وفقا لأسلوب تنفيذها، فيتألف النشيد من مجموعة متلاحقة من الثلاثيات، وكل ثلاثية تتكون من دور يتراوح بين الاثني عشر والأربعة عشر بيتا ينشده المحتفلون وهم يدورون في حركة راقصة، ثم دور آخر ينشدونه في حركة راقصة مضادة، وأخيرا مقطوعة ينشدونها وهم ثابتون في أماكنهم؛ وبذلك تتم الثلاثية لتتبعها ثلاثية أخرى حتى آخر النشيد الذي قد يصل إلى الثلاثمائة أو الأربعمائة بيت من الشعر؛ مما دعا مؤرخي الأدب إلى تسمية هذه الأناشيد البندارية بالشعر الكبير، وكان الشاعر فيه يجمع بين التاريخ والأساطير والانتصارات الرياضية ويشيد بمجد الأبطال المنتصرين الذين كانوا عادة من الملوك والأمراء والأرسطقراطيين؛ وبذلك امتاز هذا النوع من الأناشيد في صورته وتركيبه الموسيقي عن غيره من القصائد الغنائية.
وباستطاعتنا أن نعثر على صورة خاصة وتركيب موسيقي متميز محدد لما يسمى بالشعر الصغير في صورة طريفة من الشعر الغنائي ظهرت أول ما ظهرت بإيطاليا في عصر النهضة بفضل الشاعر الكبير بترارك، وهي ما يسمى بالسونتة
sonette
التي انتشرت بعد ذلك في أوروبا كلها؛ فكتب شكسبير قصائده الغنائية في هذه الصورة، كما شاعت عند شعراء النهضة في فرنسا بزعامة رائدهم الكبير بيير رونسار .
والسونتة مقطوعة شعرية قصيرة تتكون من أربعة عشر بيتا، لا تزيد ولا تنقص، مقسمة إلى أربعة أجزاء: الجزأين الأولين كل منهما من أربعة أبيات، والجزأين الأخيرين كل منهما من ثلاثة أبيات، وكل سونتة لا تشتمل في العادة إلا على عاطفة أو خاطرة محددة؛ فلا استطراد ولا توارد خواطر ولا إسهاب في قصص أو وصف، بل تعبير أو تصوير مباشر لتجربة بشرية محددة، حتى ليصح أن نترجم كلمة سونتة بعبارة صورة صوتية، وها هو ذا أنموذج لها من شعر رونسار:
كما نرى الوردة على الغصن في شهر مايو في شبابها الجميل ونضرتها الأولى تثير بلونها الحي غيرة السماء، عندما يرويها ندى الفجر بعبراته ...
وقد رقد الحب والرشاقة بين أوراقها، وأخذت تعطر الحدائق والأشجار بأريجها، غير أن سعير الحر أو غزير المطر لم يلبث أن ضربها فذوت وتساقطت أوراقها ذابلة ...
هكذا في جدتك الفتية الأولى، والأرض والسماء تقدسان جمالك، قصفك القضاء، فرقدت رمادا.
فلتقبلي قربانا دموعي وحسراتي، وهذا القدر المليء باللبن، وهذه السلة المليئة بالزهور؛ لكيلا يكون جسمك حيا أو ميتا إلا ورودا.
ونكتفي بهذين النوعين من القصائد الغنائية عند الغربيين كدليل على تنوع الصورة والتركيب الموسيقي تنوعا محددا، وهما نشيد النصر والسونتة؛ لنتساءل بعد ذلك لماذا لم تتنوع الصور والتراكيب الموسيقية في شعرنا العربي التقليدي كما تنوعت عند الغربيين، حتى إذا اطلعنا على آداب الغرب وأخذنا ننوع من صور القصيدة وتركيبها الموسيقي عندما هبت الثورات البدائية الفقيرة ضد كل محاولة للتجديد أو للتنويع؟
وفي الحق أننا لا نستطيع أن نجد تفسيرا لرتابة التركيب الموسيقي للقصيدة العربية التقليدية وتحجر صورتها، إلا في أثر البيئة عليها، سواء منها البيئة الطبيعية أو البيئة الاجتماعية.
فالبيئة الطبيعية هي تلك البيئة التي نجدها في بادية العرب؛ أي البيئة الصحراوية المتشابهة المعالم الممتدة الدروب على نسق واحد في أضيق حدود التنوع، فلا غابات ولا جداول وأنهار ولا جبال مورقة، بل في الغالب الأعم صحراوات ممتدة على مدى البصر تعبرها الناقة بخطى وئيدة وإيقاع مطرد هو الذي نجده منعكسا في التركيب الموسيقي للقصيدة العربية، ومن المؤكد أنه لم يكن من قبيل المصادفة تنوع وتغير التركيب الموسيقي للقصيدة العربية في بلاد الأندلس؛ حيث تتنوع مشاهد الطبيعة من جبال مورقة إلى أنهار وجداول رقراقة إلى حقول وجنان منبسطة إلى صخور ووديان، فمنذ القرن الثالث الهجري أخذ يظهر في الأندلس ما نسميه بالموشحات التي يعرفها ابن خلدون بقوله: إنها فن أحدثه أهل الأندلس ينظمونه أسماطا أسماطا، وأغصانا أغصانا ويصدرون فيه عن جميع البحور التقليدية مع تركيب الموشح على أشكال متباينة يعتبر من أكثرها ذيوعا تركيبه من لازمة من بيتين ثم مقطوعة من ثلاثة أبيات، وهكذا إلى أن ينتهي الموشح مثل قول ابن سهل الأندلسي في توشيح له:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى
قلب صب حله من مكنس
فهو في حر وخفق مثلما
لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورا أشرقت يوم النوى
غررا تسلك بي نهج الغرر
ما لنفسي في الهوى ذنب سوى
منكم الحسنى ومن عيني النظر
أجتني اللذات مكلوم الجوى
والتذاذي من حبيبي بالفكر •••
كلما أشكوه وجدي بسما
كالربا بالعارض المنبجس
إذ يقيم القطر فيها مأتما
وهي من بهجتها في عرس •••
أيها السائل عن جرمي لديه
لي جزاء الذنب وهو المذنب
أخذت شمس الضحى من وجنتيه
مشرقا للشمس فيه مغرب
ذهب الدمع بأشواقي إليه
وله خد بلحظي مذهب •••
ينبت الورد بغرسي كلما
لاحظته مقلتي في الخلس
ليت شعري أي شيء حرما
ذلك الورد على المغترس •••
كلما أشكو إليه حرقي
غادرتني مقلتاه دنفا
تركت ألحاظه من رمقي
أثر النمل على صم الصفا
وأنا أشكره فيما بقي
لست ألحاه على ما أتلفا •••
فهو عندي عادل إن ظلما
وعذولي نطقه كالخرس
ليس لي في الأمر حكم بعدما
حل من نفسي محل النفس •••
منه للنار بأحشائي ضرام
تتلظى كل حين ما تشاء
هي في خديه برد وسلام
وهي حر وحريق في الحشا
أتقى منه على حكم الغرام
أسدا وردا وأهواه رشا •••
قلت لما أن تبدي معلما
وهو من ألحاظه في حرس
أيها الآخذ قلبي مغنما
اجعل الوصل مكان الخمس
ثم إن الشعر العربي التقليدي لم يكد ينتشر في الأمصار ذات البيئات الطبيعية المتباينة حتى أخذت صوره وتراكيبه الموسيقية تتعدد وتتنوع على غرار تلك البيئات الطبيعية؛ فنشأ في الشعر الشعبي أنواع من التراكيب الموسيقية المختلفة التي يطول بنا تحليلها مثل الزجل والمواليا والكان كان والقوما.
وأما البيئة الاجتماعية فقد كانت العامل الأساسي الذي تحكم في تصميم القصيدة العربية التقليدية؛ ذلك لأن هذه كانت بلا شك عند نشأتها التقليدية الأولى تعبيرا من الشاعر عن وجدانه وخلجات روحه أو وصفا لبيئته استجابة لغريزة المحاكاة الشهيرة، غير أن البيئة الاجتماعية الفقيرة لم تلبث أن أنتجت التكسب بالشعر، فاضطر الشاعر إلى المديح وعز عليه أن يترك هدفه التلقائي من قول الشعر وهو التعبير عن وجدانه ووصف بيئته، فحاول أن يجمع الهدفين، ومن هنا ظهرت الصورة التقليدية للقصيدة العربية وتجمدت، وهي تلك الصورة التي وصفتها مدارس التجديد في شعرنا العربي المعاصر بالتفكك وانعدام وحدة الغرض فضلا عن وحدة الموضوع والوحدة العضوية، كما اتهمتها أحدث مدارسنا بالرتابة المسرفة، وعدم التصميم الهندسي في البناء الموسيقي، والوقوف عند وحدة البيت بدلا من وحدة التفعيلة التي يمكن أن تواتي الصورة الجديدة من القصيدة العربية التي تتضمن موضوعا يقسم إلى مراحل، ومع ذلك يكون في جملته وحدة عضوية منسقة على نحو ما سبق أن أوضحنا.
خلاصة
وهكذا نخلص من هذا الاستعراض السريع لنشأة نظرية الشعر وتطورها إلى أن الشعر لم يعد يقصد به اليوم في الغالب الأعم إلا إلى الشعر الغنائي الذي لم يستطع أن يخضع يوما خضوعا تاما لنظرية المحاكاة التي تعتبر الأصل البعيد لمذاهب الواقعية والطبيعية في الأدب، بل لقد استطاع هذا الفن الغنائي أن يتخلص تخلصا نهائيا سافرا من تلك النظرية ليصبح أساسه الفلسفي الحاجة إلى التعبير لا غريزة المحاكاة، وقد تم ذلك بفضل الرومانسيين الذين قالوا إن الشعر وجدان.
وعندما عاد الاتجاه الواقعي إلى الظهور في العصر الحديث بل والسيطرة على فنون الأدب كلها لم تستطع تلك الواقعية أيضا أن تخضع الشعر الغنائي لسلطانها إخضاعا تاما، وإنما كل ما استطاعته هو أن حولت الوجدان من الذاتية إلى الجماعية دون أن تنفي عنه الطابع الوجداني الذي لا يمكن أن يعتبر الشعر شعرا بدونه، وإذا كانت قد حولته أيضا من الذاتية إلى الموضوعية فإن هذه الموضوعية لم تستطع أن تختلط بموضوعية فنون الأدب النثرية كالقصة أو المسرحية لا في بلادنا ولا في غيرها من بلاد العالم، وإن تكن تلك الواقعية الموضوعية الاجتماعية قد أدت بالضرورة إلى تغيير صورة القصيدة في بنائها الشعري وبنائها الموسيقي على السواء، ولكن دون أن تفقدها الطابع الشعري الذي يتركز أولا وقبل كل شيء في التصوير البياني، ذلك التصوير الذي وسعت الرمزية من نطاقه ونقلته من عالم الحواس الظاهري إلى عالم النفس ووقع الصور فيها دون أن تفقدها العنصر الموسيقي الذي يعتبر هو الآخر طابعا أساسيا للشعر ومميزا له عن النثر، فضلا عن أن الموسيقى ليست حلية ولا وسيلة تطريب، بل إنها وسيلة أداء تصل إلى التعبير عن مفارقات المعاني وظلالها العاطفية، بل وألوانها النفسية التي كثيرا ما تعجز اللغة المنثورة عن استخراجها من باطن النفس؛ حتى رأينا مؤلفنا العربي ابن عبد ربه يقول في عقده الفريد: «إن النغم فضل في المنطق لم تستطع اللغة استخراجه، فاستخرجته الأوزان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهرت عشقتها النفس وحن لها الفؤاد.» ويقول أفلاطون: «إن النفس لا ينبغي أن تمنع عن معاشقة بعضها بعضا.»
وكل ما طرأ على الطبيعة الموسيقية لشعرنا الحديث، هو أن استعضنا عن وحدة البيت الموسيقية بوحدة التفعيلة مع توزيع التفعيلات في مقطوعات تستقل وتتكامل مع المقطوعات الأخرى لتحقق الوحدة الموسيقية الكاملة للقصيدة؛ أي أن كل ما حدث هو تغيير التوزيع الموسيقي داخل القصيدة، وأما إهدار تلك الموسيقى إهدارا كاملا فقول لا يستطيع أن يقره شاعر موهوب أو ناقد مستنير.
الشعر العربي وتطوره
فرغنا من الحديث عن النظرية العامة للشعر من حيث أساسها الفلسفي ومقوماتها الأساسية وتطور تلك المقومات، ونود أن ننظر في الشعر العربي على ضوء نظرية الشعر العامة، وتطور ذلك الشعر منذ العصر الجاهلي حتى اليوم.
وأول ما يستحق النظر هو تحديد وتعريف الفنون الشعرية التي عرفها العرب دون غيرها من فنونه الأخرى مع تعليل سريع لما عرفوه وما جهلوه.
فالأدب العربي الفني لم يعرف من فنون الشعر المعروفة في الآداب العالمية غير فن واحد هو الفن المعروف باسم «الشعر الغنائي» أي شعر القصائد دون الفنين الآخرين وهما: فن الملاحم، وفن الشعر التمثيلي. وإن يكن الأدب الشعبي قد كان أكثر تنوعا وأوسع آفاقا من الأدب الفني الذي ظل حبيسا في الآفاق التي رسمها أدب الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي، فالأدب العربي لم يلبث أن انتقل مع الإسلام واللغة العربية إلى أقطار مترامية خلف حدود الجزيرة، ولم تقنع الشعوب الجديدة التي اتخذت العربية لسانا بما رسم أدب الجزيرة من مجالات ونماذج وأصول وقيود؛ لأن بيئات تلك الشعوب وحاجاتها النفسية كانت تختلف عن بيئة الجزيرة وحاجاتها؛ ولذلك نرى الشعوب التي تعربت في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا تخلق لنفسها الملاحم الشعبية التي لا تنتسب لشاعر معين بل يشترك في تأليفها والإضافة إليها عدد من الشعراء الشعبيين المجهولين، منهم الشاعر فحسب، ومنهم الشاعر والمنشد والعازف على الربابة في وقت واحد، وبفضل هؤلاء الشعراء الشعبيين المجهولين تمتعت تلك الشعوب بما لدينا اليوم من ملاحم شعبية مثل: ملحمة عنترة وملحمة أبي زيد الهلالي سلامة، وملحمة الظاهر بيبرس، على نحو ما تمتعت بالقصص الشعبية التي اكتسبت شهرة عالمية مثل قصص ألف ليلة وليلة.
وإذا كان الأدب الفني لم يعرف ما يشبه المسرحيات من قريب أو بعيد لأسباب وتعليلات لا يزال الباحثون يتناقشون فيها، فإن الأدب الشعبي قد عرف فنونا تشبه إلى حد ما الفن المسرحي مثل: الأراجوز وخيال الظل، وإن يكن هذا الفن بمعناه الكامل لم ينشأ في عالمنا العربي الحديث تطورا عن هذه الفنون الشعبية، بل أخذناه عن الغربيين بعد اتصالنا بهم في القرن الماضي وابتداء من سنة 1848 وهي السنة التي ابتدأ فيها هذا الفن في منزل أحد التجار الأدباء ببيروت هو مارون نقاش. بل إن فن الشعر العربي التقليدي وهو الفن الغنائي إذا كان قد تحجرت صوره وقوالبه في الشرق العربي؛ إذ البيئة شديدة القرب من الجزيرة مهد اللغة وأدبها؛ فإنه لم يلبث أن تمرد على هذه الصور المتحجرة في بيئة جديدة نائية كبيئة الأندلس؛ حيث ظهرت الموشحات كما سبق أن أوضحنا. وفي الشرق والغرب العربي معا تمرد الشعر الشعبي على تلك الصور المتحجرة أيضا، فظهرت في الشعر الشعبي فنون الزجل والمواليا والكان كان والقوما وغيرها.
وهكذا نخلص إلى أن شعرنا الفني الفصيح هو وحده الذي اقتصر في أدبنا العربي التقليدي على الشعر الغنائي المحدد في صورة القصيدة ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة.
طبيعة الشعر العربي
والآن وقد فرغنا من تحديد نوع الشعر العربي التقليدي يحق لنا أن ننظر في طبيعة هذا الشعر وتطوره فنرى أنه قد نشأ منذ جاهليته الأولى مطابقا مطابقة عجيبة لنظرية المحاكاة الأرسططالية.
فالشعر الجاهلي من الشعر الذي يصدق عليه إلى أبعد الحدود القول بأن الشعر رسم ناطق؛ أي تصوير حسي للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل؛ بحيث لا نستطيع أن نقول عنه إنه تعبير عن وجدان قائله، وإذا كان في العربية شعر يمكن أن يوصف بأنه من قبيل الفن للفن فهو بلا ريب شعر الوصف الجاهلي، وهو الفن الذي برع فيه شعراء الجاهلية وأتقنوه إلى حد الإعجاز الذي لا نكاد نجد له مثيلا في أدب عالمي آخر؛ وذلك لفرط دقة الملاحظة واستقصاء الدقائق عند شعراء البادية الذين لم يتركوا فيها شيئا إلا صوروه أدق تصوير، فوصفوا في دقة حسية بالغة الناقة والحصان وحمار الوحش والذئب، كما وصفوا الأطلال والدمن والأثافي وبعر الآرام والهضاب والدروب وأعشاب الصحراء، وبالمثل وصفوا المرأة وصفا حسيا دقيقا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام وفي بيئة الحجاز المترفة في العصر الأموي؛ حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس الرقيات، وكثير عزة.
فامرؤ القيس مثلا يتغزل في الحبيبة فلا يعدو هذا الغزل وصفها الحسي وتصوير مفاتنها الجسمية إما على الطبيعة وإما وفقا للمثل الأعلى للجمال عند الشاعر وبيئته البدوية، فيقول عنها:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفل
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل العقاص في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وتعطو برخص غير شثن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك أسحل
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
فهذا وصف حسي للمحبوبة لا نكاد نحس فيه أي انفعال للشاعر بجمال ما يصف، وكأنه يصف للوصف أو يفتن للفن، اللهم أن يكون هذا الوصف لمثل أعلى للجمال عند الشاعر وبيئته أكثر منه وصفا على الطبيعة. ومن المعلوم أن المحاكاة قد تكون لما هو كائن كما قد تكون لما يجب أن يكون أو يمكن أن يكون؛ فالشاعر يصف الحبيبة خلال مغامرة حسية بأنها بيضاء خفيفة لحم البطن، ضامرة الخصر، مصقولة الترائب كالمرآة، طويلة الجيد كالظبية في غير فحش؛ أي في غير إسراف، كما يصف شعرها الأسود الفاحم الذي يغطي ظهرها وقد عقصت بعضه فوق رأسها وأرسلت بعضه، ويصف لين ساقها وطراوته التي يشبهها بالنبات الرخص الذي ينمو في ظل النخيل ويسقيه الماء، وفي النهاية يصف عطرها وما تتقلب فيه من نعمة، يدلل عليها بأنها نئوم الضحى لا تنتطق في الصباح ملابسها الخفيفة لتعمل بل لتتخفف، كما يدلل عليها بطراوة أناملها ونعومتها شأن المترفات، وأخيرا بإشراق وجهها الذي يلوح وقت العشاء كأنه مصباح راهب متبتل في صومعته.
والذي لا شك فيه أن الشعر الجاهلي كان من أصدق الشعر في التعبير عن بيئته ومثلها العليا، نابعا عن طبع أصيل حتى لنحسبه هو والشعر الأموي خير ما أنتج العرب القدماء من شعر من الناحية الفنية الخالصة، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن ينكر ما كان للإسلام من أثر بالغ في تحريك وجدان الشعراء، سواء في ذلك الوجدان العاطفي الخالص أو الوجدان الديني أو الوجدان السياسي الاجتماعي على أثر الخلافات السياسية والاجتماعية التي أخذت تظهر منذ خلافة عثمان بن عفان وما تلاها من تحزب للأمويين أو للعلويين؛ فأدت إلى ظهور شعر الخوارج وشعر الشيعة ذي اللون السياسي الواضح، كما أدى إلى ظهور البيئة المترفة المرهفة المتعطلة بالحجاز بعد أن انتقلت الخلافة إلى دمشق. ففي هذه البيئة نرى شعر الوجدان العاطفي يظهر لأول مرة عند الشعراء العذريين الذين نستطيع أن نقرأ شعر الشاعر منهم كله دون أن نخرج بصورة ولو مقاربة للمحبوبة، وإنما نخرج منه بتعبير قوي حار عن لواعج الحب وآلامه وآماله في وجدان الشاعر، وشتان بين هذا التعبير الوجداني الخالص وبين الوصف الحسي الذي شاهدنا مثلا له في وصف امرئ القيس للعشيقة، وأين هذا الوصف الحسي من قول قيس بن ذريح مثلا عن حبه للبنى:
ويا قلب خبرني إذا شطت النوى
بلبنى وزالت عنك، ما أنت صانع؟
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا
بي الليل هزتني إليك المضاجع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
لقد رسخت في القلب منك مودة
كما رسخت في الراحتين الأصابع
فقيس لم يحاول قط أن يصور لبنى، والمجنون - أي قيس بن الملوح - لم يصور ليلى، وجميل لم يكد يصور بثينة، وكثير لم يصور عزة، وإنما بكوا جميعا حبهم وعبروا عن لواعجه، ولفظوا مكنون وجدانهم حتى لكأنهم من شعراء الوجدان المحدثين.
وعلى أية حال فالشعر الجاهلي قد كان شعرا صادقا أصيلا كما كان الشعر الأموي صادقا أصيلا؛ لأن كليهما أخلص لبيئته ونوازعها ومثلها العليا وطبيعة حياتها فهو من شعر الطبع، وأما شعر العصر العباسي وبخاصة العصر المتأخر منه فلم يعد يأخذ عن الطبيعة، بل أخذ يحاكي الشعر الجاهلي والشعر الأموي، وكان ذلك بدء جفاف نبع الشعر العربي وتحجره وطغيان التقليد عليه حتى أصبح شعر صيغ وقوالب أكثر منه شعر طبع وطبيعة.
فالشعراء العباسيون قد استمروا في وصف الأطلال والنؤى والأثافي على الرغم من أنهم قد أصبحوا أهل حضر وسكان مدن وحدائق وأعناب، وقد تحكم التقليد في الشعر العربي إلى حد فشلت معه كل محاولة للتجديد كتلك التي دعا إليها شاعر متمرد كأبي نواس عندما قال:
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت
سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها
أفذو العيان كأنت في الحكم
وإذا وصفت الشيء متبعا
لم تخل من غلط ومن وهم
وذلك على الرغم من أن بعض شعراء العصر العباسي الآخرين حاولوا الاستماع إلى هذه الدعوة مثل أشجع السلمي عندما أتى الرشيد مادحا في قصر له بالرقة فاستهل قصيدته بقوله:
قصر عليه تحية وسلام
ألقت عليه جمالها الأيام
قصرت سقوف المزن دون سقوفه
فيه لأعلام الهدى أعلام
وذلك لأن التقاليد كانت أقوى من كل تمرد أو نزوع إلى التجديد أو رغبة في الصدور عن الحياة مباشرة؛ حتى لنرى شاعرا معاصرا كأحمد شوقي لا يزال يحس بقبضة هذه التقاليد العنيفة، فيصفها في مقدمة ديوانه القديم الذي صدر في سنة 1903 بأنها كالأفعوان؛ أي كالثعبان الذي لا يؤخذ إلا من خلف وبأطراف البنان، وهذا هو ما فعله دعاة التجديد الذي سمي بالبديع في العصر العباسي المتأخر، وهم أبو تمام ومدرسته، فإنهم لم يحاولوا التجديد في معدن الشعر ومضمونه، وإنما حاولوا التجديد فيما سموه بالبديع؛ أي التجديد في التعبير الشعري عن طريق الزخارف اللفظية من جناس وطباق وغيرها؛ مما أدى إلى ظهور علم جديد بهذا الاسم وهو «علم البديع» الذي فصل أوجهه وبلغ بها الأربعة والثلاثين أبو هلال العسكري في كتاب «سر الصناعتين». ومنذ ذلك الحين أخذ الشعر العربي يفقد طلاوة أسلوبه إلى جوار فقدانه المضمون الحي، فانتصار البديع على عمود الشعر يعتبر في نظرنا أقوى ضربة نزلت بالشعر العربي، وما زالت به حتى أحالته في عصوره المتأخرة إلى زخارف لفظية خاوية وحرمته من كل جدة فكرية أو عاطفية أو فنية، وذلك فيما عدا شعراء قلائل كانوا أقوى طبعا وأصالة من أن تسترقهم التقاليد أو يستهويهم البديع بمحسناته اللفظية السقيمة، ومنهم ابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء المعري الذين جاوروا عصر البديع دون أن يطغى عليهم، فكانوا من رواد الشعر الذي تظهر فيه شخصية قائله. ويمكن أن نلتقط ملامح الشخصية من شعرها، وربما كان المتنبي أصدق شاهد على ذلك الاتجاه الذي كان لاتصال العرب بالثقافات الأجنبية وبخاصة الثقافة اليونانية أثر كبير في حدوثه، فباستطاعتنا أن نعود إلى بعض أغراض الشعر العربي التقليدي عند المتنبي مثلا، فنجده قد أحدث فيها من التجديد في المضمون ما لفت أنظار بعض نقاد العرب القدماء أنفسهم مثل «الثعالبي» في «يتيمة الدهر» حيث نراه يتحدث عن مساوئ المتنبي ومحاسنه، فيذكر بين محاسنه أنه قد انفرد في المدح بمذهب استكثر من سلوكه اقتدارا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني، ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء وتدريجا لها إلى مماثلة الملوك، وذلك بمخاطبة الممدوح من الملوك بمثل مخاطبة المحبوب ثم استعمال ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد.
هذا ما يقوله صاحب اليتيمة، والذي لا شك فيه أن له فضل ملاحظة الظاهرة ثم فضل تعليلها، وفي الأمثلة التي يوردها ما يقطع بصحة ما يقول، وأما التعليل فواضح النقص؛ وذلك لأنه لا يكفي أن نرى في تجديده مهارة فنية ورغبة في رفع نفسه إلى مرتبة ممدوحه فتلك ظاهرة أعمق في تاريخ الشاعر وطبيعته النفسية مما ظن الثعالبي.
وأول ما نلفت إليه النظر هو ما لاحظه صاحب اليتيمة نفسه من أن استخدام لغة الحب في المدح والحرب مذهب انفرد به المتنبي وهذا حق، فإننا لم نشهد ذلك من شعراء العرب، جاهليين كانوا أو إسلاميين، وإذن فتفسيره لا يمكن أن نجده إلا في حياة الشاعر وطبيعته النفسية (تراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للمؤلف).
وقد كان حب المتنبي لسيف الدولة حبا مخلصا فاضت به نفسه، وإنما تكلف وساقته الدوافع الخفية عند مدحه لغير هذا الأمير العظيم، وهنا أيضا تصح ملاحظة الثعالبي الأخرى عن مقدرة الشاعر الفنية في تصريف المعاني وإجادة النقل والتلاعب بالكلام.
ثم إن صدور المتنبي عن هذا المذهب في المدح وانفراده به يدل على أن الرجل لم يكن شاعرا مرتزقا كما يزعم البعض، والناظر في مدائحه ذاتها يرى أن شخصية الشاعر لم تخل منها قط، وأن مدحه الجيد هو ما قاله في سيف الدولة وهو مدح أشبه بالحب منه بالتملق، وأما مدائحه الأخرى وبخاصة كافورياته فخير ما فيها ليس مدح كافور وإنما هو شعر المتنبي الشخصي أو إشاراته إلى سيف الدولة. •••
وبعد هذه الوقفة عند المتنبي الذي نعتبره أكبر شعراء العرب القدماء وأقواهم طبعا وأكثرهم أصالة، نستطيع أن نتخطى عصور الانحطاط التي تتابعت على الشعر العربي بعد القرن الخامس للهجرة حتى نصل إلى عصر البعث والنهضة الأدبية المعاصرة التي ابتدأها شاعر البعث الكبير محمود سامي البارودي في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فهو الشاعر الذي أعاد للشعر العربي ديباجته الأولى، وخلصه من المحسنات البديعية العقيمة والزخارف اللفظية الخاوية التي كان قد انحدر إليها، وذلك بفضل عودته إلى الشعر العربي القديم في عصور ازدهاره، وقد وضعت الطباعة الحديثة دواوين الشعر القديمة وموضوعات الأدب العربي القديم بين يديه ويدي جيله كله فأفاد منها في رد الديباجة القديمة الناصعة لشعرنا الغنائي، وذلك مع قوة في الطبع وانفعال بأحداث عصره وظروف حياته الثورية الشجاعة، فجاء شعره إيذانا بنهضة شعرية رائعة، هي التي وضعت الأساس للنهضة الأدبية المعاصرة، وأسفرت عن المدارس الأدبية المتباينة التي ظهرت إما بوحي من قديمنا وإما بتأثر بالثقافة والآداب الغربية التي أخذنا نزداد بها اتصالا يوما بعد يوم.
حركة البعث
والذي لا شك فيه أن الشيخ حسين المرصفي أستاذ البارودي قد حدد في كتابه «الوسيلة» المنهج السليم لكل بعث منتج عندما نصح شداة البعث بأن يستوعبوا من أصيل الشعر القديم أكثر ما يستطيعون استيعابه، على أن ينسوا بعد ذلك كل ما استوعبوه حتى لا يظل حملا تنوء به ملكاتهم الخلاقة، وحتى لا يأتي شعرهم شعر ذاكرة وقوالب محفوظة بدلا من شعر طبع وحياة، وما من شك في أن البارودي قد استفاد بهذه النصيحة وعمل بها، فاكتسب من الشعر القديم قوة العبارة وجهارة النغم وحاول ما استطاع أن يكون تعبيره أصيلا، وأن يكون مضمونه منتزعا من ذات نفسه وأحداث عصره، ووفق في ذلك أحيانا كثيرة حتى ليذكرنا شعره أحيانا بشعر المتنبي وما فيه من أصالة قوية يمكن أن نحس بها.
وعلى الرغم من وضوح المنهج العربي التقليدي في شعر البارودي من حيث صورته وديباجته ونغماته، إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نعثر على هذا الشاعر في شعره على نحو ما قلنا عن ابن الرومي والمتنبي وأبي العلاء المعري، ولعله يبرز في ذلك شاعرنا التقليدي المعاصر أمير الشعراء أحمد شوقي الذي لا نستطيع أن نجد في شعره ما يعيننا على تخطيط صورته النفسية على نحو ما نستطيع أن نفعل مع البارودي في مثل قوله:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهو ويعجب
وما أنا ممن تأسر الخمر لبه
ويملك سمعيه اليراع المثقب
ولكن أخو هم إذا ما ترجحت
به سورة نحو العلا راح يدأب
نفى النوم عن عينيه نفس أبية
لها بين أطراف الأسنة مطلب
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزني خال ولا ضمني أب
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة
علي يدا أغضي لها حين يغضب
فلست لأمر لم يكن متوقعا
ولست على شيء مضى أتعتب
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
وإني إذا ما الشك أظلم ليله
وأمست به الأحلام حيرى تشعب
صدعت حفافي طرتيه بكوكب
من الرأي لا يخفى عليه المغيب
فمن هذه المقطوعة وأمثالها نستطيع أن نخطط صورة نفسية لهذا الشاعر الفارس الذي عرف بإباء الضيم والاعتزاز بالنفس بل والكبرياء المشروعة، بينما نخرج من دواوين شوقي مثلا دون أن نستطيع أي تخطيط لصورته النفسية، وإذا جاز أن نتخذ العثور على شخصية الشاعر في شعره مقياسا لشاعريته، لجاز أن نرتفع بالبارودي درجة فوق شوقي على الرغم من انتمائهما معا إلى مدرسة البعث الشعري المعاصر.
خاتمة
وإذا كانت حركة البعث الشعري المعاصر قد استمرت بعد البارودي عند مدرسة بأكملها تزعمها شوقي وكان من كبارها حافظ إبراهيم ومحمد عبد المطلب وعلي الجارم وغيرهم ممن يعرفون اليوم بمدرسة الشعر التقليدي، فإنه قد ظهرت إلى جوارهم منذ أوائل هذا القرن مدارس شعرية أخرى كبيرة، مثل مدرسة شكري والمازني والعقاد التي اصطلحنا على تسميتها بمدرسة الديوان نسبة إلى كتاب الديوان الذي هاجموا فيه المدرسة التقليدية أعنف الهجوم، ثم المدرسة المهجرية التي تزعمها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومدرسة خليل مطران الذي تنتسب إليه جماعة أبوللو، وأخيرا المدرسة الجديدة التي تعرف اليوم بمدرسة الشعر الواقعي أو شعر الوجدان الجماعي على نحو ما سنفصل القول.
مدارس الشعر العربي الحديث
انتهينا من الحديث عن الشعر العربي التقليدي وتطوره في ضوء النظرية العامة للشعر، ووصلنا في استعراضنا السريع إلى حركة البعث الشعري الذي قام به في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر شاعرنا الكبير محمود سامي البارودي، وهو البعث الذي كان إيذانا ببدء الحركة الشعرية المعاصرة وتنوع مدارسها استنادا إلى التراث العربي القديم حينا وإلى تأثيرات الآداب الغربية ومقتضيات حياتنا الجديدة حينا آخر، وها نحن أولاء ننظر اليوم في هذه المدارس.
المدرسة التقليدية
وقد كان أول هذه المدارس ظهورا وأوسع أصحابها شهرة «المدرسة التقليدية» التي تزعمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان من فحولها شاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر البداوة محمد عبد المطلب، وشاعر رشيد علي الجارم، والشاعر محمد الأسمر، ولا يزال من بين أنصارها الأحياء الشعراء: محمود عماد، وعلي الجندي، وعزيز أباظة.
ولقد يبدو غريبا أن يتزعم أحمد شوقي هذه المدرسة مع أنه أوفد في بعثة دراسية إلى فرنسا؛ حيث أقام أربع سنوات اتصل فيها بآدابها خاصة والآداب الأوروبية عامة، وتأثر أثناء إقامته بتلك الآداب حتى رأيناه يترجم شعرا قصيدة «البحيرة» للامارتين، كما ترجم عددا من أقاصيص «لافونتين» على ألسنة الحيوانات، وألف أقاصيص أخرى على غرارها، بل وألف الطبعة الأولى من مسرحية «على بك الكبير» سنة 1893، ولكن هذا العجب يمكن أن يزول إذا ذكرنا ظروف حياة شوقي الخاصة وإعداده نفسه؛ ليكون شاعر الأمير تمهيدا لأن يصبح أمير الشعراء ويبايعه العرب على ذلك في سنة 1927، فهو نفسه يحدثنا في مقدمة ديوانه الأول الصادر في سنة 1903 بأنه قد حاول أن يتأثر بالأدب الغربي، ولكنه لم يلبث أن تبين أن المطلوب منه هو أن يلتزم عمود الشعر العربي وتقاليده، وفعلا نهج هذا السبيل حتى إننا لنقرأ شعره فلا نكاد نتبين فيه أثرا واضحا للآداب الغربية، بل ولا للحياة الأوروبية التي عاشها أربع سنوات، وذلك فيما عدا القليل النادر إذا قورن بشاعر لاحق ك «علي محمود طه» الذي لم تتح له الإقامة المتصلة بأوروبا كما أتيحت لشوقي، ومع ذلك نحس أنه قد تأثر تأثرا عميقا بتلك الحياة ومشاهدها الطبيعية والإنسانية خلال زياراته الصيفية العابرة لأقطار أوروبا على نحو ما نشهد في عدد من قصائده ابتداء من «الجندول» إلى «بحيرة كومو»، بل إن قصيدة شوقي الوحيدة التي تردد بعض ذكريات باريس وهي قصيدة «غاب بولونيا» لا نحس فيها تعمقا من الشاعر في حياة تلك المدينة الصاخبة ولا غنى في تجاربه فيها، وإن تكن بالغة الجمال والعذوبة في نسيجها الشعري وما يشيع فيها من أسى مرهف؛ حيث يقول:
يا غاب بولون ولي
ذمم عليك ولي عهود
زمن تقضي للهوى
ولنا بظلك، هل يعود؟
حلم أريد رجوعه
ورجوع أحلامي بعيد
وهب الزمان أعادها
هل للشبيبة من يعيد؟
يا غاب بولون وبي
وجد مع الذكرى يزيد
خفقت لرؤيته الضلو
ع وزلزل القلب العميد
هلا ذكرت زمان كنا
والزمان كما نريد
نطوي إليك دجى الليا
لي والدجى عنا يذود
فنقول عندك ما نقو
ل وليس غيرك من يعيد
نطقي هوى وصبابة
وحديثها وتر وعود
نسري ونمرح في قض
ائك والرياح به هجود
والطير أقعدها الكرى
والناس نامت والوجود
ومن الواضح أن شوقي لم يقل هذه القصيدة وهو مقيم بباريس أيام شبابه، وإنما قالها وقد تقدم به العمر عندما عاد في إحدى رحلاته إلى «غاب بولون»، وإن المرء ليحار في افتقاد أصداء الحياة الباريسية في شعره المبكر، ولكن هذه الحيرة يمكن أن تخف إذا ذكرنا أن شوقي لم يستطع قط أن يكون شاعرا وجدانيا، وأن شعر المناسبات هو الذي غلب على شعره، ولعله رأى في هذا النوع من الشعر ما يواتي طموحه أكثر من شعر الوجدان، أو لعل مزاجه الخاص لم يكن يطاوعه، أو لعل في ظروفه الاجتماعية وطبقته المترفعة المتزمتة ما منعه من أن يستسلم لوجدانه مترفعا عن أن يعرضه على القراء أو السامعين، وأيا ما يكون الأمر فإننا نعتقد أن أحمد شوقي لم يستطع - لسوء الحظ - أن يغذي طاقته الشعرية الفذة بآداب الغرب وحياة الغرب، كما أنه لم يستطع أن يطلق طاقته على سجيتها، وأن يخلص لنفسه وأن يرتفع بشعره إلى الآفاق الإنسانية الرحبة التي لا تتقيد بمناسبات الظرف وبملابسات المكان والزمان؛ حتى ليصعب على أي ناقد اليوم أن يستشف من شعر شوقي شخصيته ومعالمه الروحية وأية فلسفة خاصة في الحياة، وكل هذه الحقائق هي التي مكنت لمدرسة التجديد التي قادها شكري والمازني والعقاد من الهجوم على شوقي ومدرسته، ذلك الهجوم العنيف الذي نطالعه في الجزأين اللذين ظهرا في سنة 1921 من كتاب «الديوان» الذي قدر له كاتباه المازني والعقاد أن يصل إلى العشرة أجزاء، وقد خصصاه لمهاجمة المدرسة التقليدية كلها في الشعر والنثر، وذهب العقاد بنقد شوقي فاتهمه بعدم الصدق، وقرر أن الشاعر هو من أخلص لنفسه؛ بحيث لا يحجب الكذب والتكلف شخصيته عن شعره، كما اتهمه بالتقليد والصدور عن القوالب الشعرية المتوارثة دون قدرة على التجديد والابتكار ودون غوص وراء الحقائق العميقة والصور الجديدة، وكل ذلك سواء في شكل القصيدة أو مضمونها. وكانت جماعة الديوان متأثرة بلا ريب بالآداب الغربية وبخاصة الإنجليزية منها، بل وبالشعر الأوروبي الرومانسي بنوع أخص بدليل إجماعهم على الدعوة إلى شعر الوجدان.
ولكن المدرسة التقليدية التي لاقت نجاحا شعبيا واسعا لم تستسلم قط، بل ظلت تتشبث وتقاوم حتى اليوم.
مدرسة الديوان
وقادت مدرسة الديوان الدعوة إلى شعر الوجدان، واتفق ثلاثتهم على هذه الدعوة وإن اختلفوا بعد ذلك في الاتجاه وفقا لمزاج كل منهم الخاص؛ فذهب عبد الرحمن شكري بالتأمل الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما رأينا سابقا في قصيدته التي يخاطب فيها المجهول، بينما صدر المازني في مستهل شبابه عن روح رومانسية شاكية باكية، متبرمة بالحياة ساخطة عليها، وظل يصدر عن هذه الروح حتى هجر الشعر كله، بعد الجزأين اللذين صدرا من ديوانه، إلى النثر الذي برع فيه وأصبح من أعلامه، كما تخلص من الشكوى والسخط بالسخرية والتهكم اللذين عرف بهما في نثره، ولعلنا نستطيع أن نحس بمدى سخطه وشكواه وتبرمه بالحياة في مثل قوله عن «الإخوان»:
سل الخلصاء ما صنعوا بعهدي
أضاعوه وكم هزئوا بجدي
ركبت إليهمو زهر الأماني
على ثقة فعدت أذم وخدي
وصلت بحبلهم حبلي فلما
نأوا عني قطعت حبال ودي
وكانوا حليتي فعطلت منها
وغمدي، فالحسام بغير غمد
أذم العيش بعدهمو ومن لي
بمن يدري أذموا العيش بعدي
وما راجعت صبري غير أني
أكتم لوعتي في الشوق جهدي
ولو أطلقت شوقي بل نحري
وروى وبل غاديتيه خدي ... إلخ.
ولعلنا نستطيع أن نلمس المزاج الرومانسي الذي كان مسيطرا على المازني عندئذ في قوله:
ويروعني يأسي ويفزعني
أملي وأفرق من لقاء غدي
أو في قوله:
إني أراني قد حلت وانتسخت
مع الصبا سورة من السور
وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني صباي ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن غيره على الأثر
وأما العقاد أديبنا الطموح الواسع الآفاق فقد قال الشعر في الاتجاهات جميعها فله شعر الوجدان وله الشعر الفلسفي، بل وله أيضا شعر المناسبات، ولكنني عن نفسي أفضل ما قاله من الشعر الوجداني الخالص الذي تروقني منه أمثال قصيدة «نفثة» التي يقول فيها:
ظمآن ظمآن لأصوب الغمام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا
معالم الأرض في الغماء تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا
نينى ولا سمر السمار يلهيني
غصان غصان لا الأوجاع تبليني
ولا الكوارث والأشجان تبكيني
شعري دموعي وما بالشعر من عوض
عن الدموع نفاها جفن محزون
يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط
على المدامع أجفان المساكين
هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم
وما استرحت بحزن في مدفون
أسوان أسوان لا طب الأساة ولا
سحر الرقاة من اللأواء يشفيني
سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا
عجائب القدر المكنون تغنيني
أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني
على الزمان ولا خل فيأسوني
يديك فامح ضنى يا موت في كبدي
فلست تمحوه إلا حين تمحوني
وعلى أية حال فإن دعوة جماعة الديوان وبخاصة دعوتهم النقدية قد ساهمت مع دعوة المدرسة المهجرية، ومدرسة مطران في توجيه الشعر العربي الحديث الوجهة الوجدانية التي لا تزال تلازمه حتى اليوم على الرغم من تطور الوجدان في الفترة الأخيرة من الفردية إلى الجماعية.
المدرسة المهجرية
بينما كانت جماعة الديوان تدعو إلى التجديد في المشرق العربي كان إخوانهم في المهاجر الأمريكية - وبخاصة الشمالية منها - يدعون دعوة مماثلة، حتى رأينا العقاد وميخائيل نعيمة يتبادلان التحية والتأييد في كتاب «الغربال» الذي ألفه نعيمة وقدم له العقاد، وفيه يرسم نعيمة للدعوة الجديدة سبلها، ويرسم لنقد الشعر وتوجيهه مقاييس يستمدها من حاجاتنا النفسية الثابتة؛ بحيث يقوم الشعر بإشباعه لحاجة أو أكثر من هذه الحاجات التي أجملها فيما يأتي:
أولا:
حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية من رجاء ويأس، وفوز وفشل، وإيمان وشك، وحب وكره، ولذة وألم، وحزن وفرح، وخوف وطمأنينة وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثرات.
وثانيا:
حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير الحقيقة، حقيقة ما في أنفسنا، وحقيقة ما في العالم من حولنا ، ونحن وإن اختلف فهمنا عن الحقيقة لسنا ننكر أن في الحياة ما كان حقيقة في عهد آدم ولا يزال حقيقة حتى اليوم، وسيبقى حقيقة إلى آخر الدهر.
وثالثا:
حاجتنا إلى الجميل في كل شيء، ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال، وكل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال؛ فإننا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلا ونحسبه قبيحا لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالا مطلقا لا يختلف فيه ذوقان.
ورابعا:
حاجتنا إلى الموسيقى؛ ففي الروح ميل عجب إلى الأصوات والألحان لا ندرك كنهه، فهي تهتز لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق، لكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتنبسط بما تآلف منها.
ولقد وجه جبران خليل جبران شعر المهجر توجيها قويا نحو الرومانسية المجنحة، وامتد تأثيره إلى الشرق العربي كله، سواء في الشعر الموزون أو الشعر المنثور، وكان تأثيره أوضح ما يكون في خلق شعر المناجاة الذي سميناه في كتابنا «في الميزان الجديد» بالشعر المهموس، ورأينا مثلا رائعا له في قصيدة «أخي» لميخائيل نعيمة، ولنأخذ لهذا الشعر مثلا جميلا آخر من مطلع قصيدة «الطين» لإيليا أبو ماضي:
نسي الطين ساعة أنه طين
حقير فصال تيها وعربد
وكسا الخز جسمه فتباهى
وحوى المال كيسه فتمرد
يا أخي، لا تمل بوجهك عني
ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس
واللؤلؤ الذي تتقلد
أنت لا تأكل النضار إذا جعت
ولا تشرب الجمان المنضد
أنت في البردة الموشاة مثلي
في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لك في عالم النهار أمان
ورؤى والظلام فوقك ممتد
ولقلبي كما لقلبك أحلا
م حسان فإنه غير جلمد •••
أأماني كلها من تراب
وأمانيك كلها من عسجد
وأماني كلها للتلاشي
وأمانيك للخلود المؤكد
لا فهذي وتلك تأتي وتمضي
كذويها، وأي شيء مؤبد؟!
أيها المزدهي إذا مسك السق
م ألا تشتكي؟ ألا تتنهد؟
وإذا راعك الحبيب بهجر
ودعتك الذكرى ألا تتوجد؟
أنت مثلي يهش وجهك للنعمى
وفي حالة المصيبة يكمد
أدموعي خل، ودمعك شهد
وبكائي ذل، ونوحك سؤدد !
وابتسامي السراب لا ري فيه
وابتساماتك اللآلي الخرد
فلك واحد يظل كلينا
حار طرفي به وطرفك أرمد
قمر واحد يطل علينا
وعلى الكوخ والبناء الموطد
إن يكن مشرقا لعينيك إني
لا أراه من كوة الكوخ أسود
النجوم التي تراها أراها
حين تخفى وحينما تتوقد
لست أدنى - على غناك - إليها
وأنا مع خصاصتي لست أبعد
أنت مثلي من الثرى وإليه
فلماذا يا صاحبي التيه والصد
مطران ومدرسة أبوللو
وفي الوقت الذي كان فيه جماعة الديوان، وكان المهجريون يهاجمون المدرسة التقليدية أعنف الهجوم ويدعون إلى التجديد دعوة عنيفة صاخبة كان ثمة شاعر كبير يجدد في صمت، ويقدم روائعه الجديدة حاملة الدعوة العملية لهذا التجديد، وهو الشاعر خليل مطران الذي كتب المطولات القصصية والدرامية الرائعة، كما كتب الوجدانيات التي رأينا مثلا جميلا لها في قصيدة «المساء» التي كتبها سنة 1902 وهو مريض بمكس الإسكندرية، وقد رأينا كيف أحال الوصف فيها من الحسية التقليدية إلى الوجدانية التي يمتزج فيها الشاعر بالطبيعة، ويتجاوب معها وكأنه حل بها وحلت به؛ مما يجعل من مطران رائد الوصف الوجداني في شعرنا العربي الحديث.
ولقد أعلن الشاعر أحمد زكي أبو شادي منذ ديوانه الأول «أنداء الفجر» أنه قد تتلمذ على مطران، كما أعلن الاعتراف نفسه عدد من كبار جماعة أبوللو التي تأسست في سنة 1932 وأصدرت مجلتها الشعرية الخالدة التي ظلت تصدر حتى آخر سنة 1934 متخصصة في نشر الشعر الجديد ونقده، ومنهم الشاعر الوجداني الكبير الدكتور إبراهيم ناجي، الذي تحدث غير مرة عن «الحمى المطرانية» التي أصابته وأصابت رفاقه.
وعلى الرغم من أن جماعة أبوللو لم تدع أنها تكون مدرسة ذات فلسفة شعرية محددة، بل أعلنت على العكس أنها تفسح صدرها وصدر مجلتها لكل شعر جيد، فإنها في مجموعها قد تميزت بالطابع الوجداني الخالص رغم اختلاف كبار أعضائها اختلافا بينا في المزاج النفسي، وهو الخلاف الذي جعل من شعر ناجي قصيدة غرام ومن شعر أبي القاسم الشابي ثورة نفسية عارمة، ومن شعر على محمود سيمفونية مرحة مبتهجة بالحياة، ومن شعر حسن كامل الصيرفي تأملا انطوائيا متصلا في الحياة وحقائقها، ومن شعر الهمشري هروبا عاطفيا من صخب الحياة إلى «نارنجته الذابلة» أو إلى «قمة الأعراف»، فأغنوا شعرنا العربي المعاصر بثروة ضخمة من شعر الوجدان المتفاوت النغمات المتعدد الألوان امتدادا من ناجي صاحب «العودة» و«الأطلال» والقائل:
تتعاقب الأقدار وهي مسيئة
كم عقنا ليل وخان نهار
وكأنما هذا الفضاء خطيئة
وكأن همس نسيمه استغفار
إلى أبي القاسم الشابي الذي ظل يغالب الأقدار والمرض العضال حتى أسلم النفس الأخير في روح ثورية صلبة عاتية، نستطيع أن نحسها في مثل قوله من قصيدة «نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس»:
سأعيش رغم الداء والإعياء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا
بالسحب والأمطار والأنواء
لا ألمح الظل الكئيب ولا أرى
ما في قرار الهوة السوداء
وأسير في دنيا المشاعر حالما
غردا وتلك طبيعة الشعراء
أشدو بموسيقى الحياة ووحيها
وأذيب روح الكون في إنشائي
وأصيخ للصوت الإلهي الذي
يحيي بقلبي ميت الأصداء
وأقول للقدر الذي لا ينثني
عن حرب آمالي بكل بلاء
لا يطفئ اللهب المؤجج في دمي
موج الأسى وعواصف الأرزاء
فاصدم فؤادي ما استطعت فإنه
سيكون مثل الصخرة الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا
وضراعة الأطفال والضعفاء
ويعيش كالجبار يرنو دائما
للفجر ... للفجر الجميل النائي
وقد سرت روح الشابي الثائرة في ضمير الأمة العربية كلها فأصبحت ترى المواطن العربي في كل قطر يردد قوله:
إذا الشعب يوما أراد الحيا
ة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
وكل ذلك إلى جوار نغمات على محمود طه الباسمة المبتهجة في دواوينه «الملاح التائه» و«عودة الملاح التائه»، و«زهر وخمر»، و«الشوق العائد»، و«شرق وغرب».
وقد ردد عدد من مغنينا عددا من قصائده التي تنشر البهجة في النفوس وفي مقدمتها أغنية «الجندول»:
أين من عيني هاتيك المجالي
يا عروس البحر يا حلم الخيال
مدرسة الوجدان الجماعي
وسار الزمن بخطوات حثيثة، فإذا بالمد الثوري يعلو موجه، وإذا بثورتنا الوطنية الكبرى تجمع في سنة 1952 بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية، فيأخذ الوجدان الفردي في التقهقر شيئا فشيئا أمام الوجدان الجماعي الذي نسميه حينا بالوجدان الواقعي، وحينا آخر بالوجدان الاشتراكي، فيظهر إلى جوار شعر الوجدان الفردي الخالص شعر الوجدان الجماعي الذي سبق أن رأينا كيف أخذ يجدد في صورة القصيدة العربية ومضمونها فيتحرر من وحدة البيت ليجعل من القصيدة كلها وحدة موسيقية متصلة متماسكة، ويلجأ في أحيان كثيرة إلى الأقصوصة الموضوعية والدراما القصيرة ليتخذ منها موضوعات لقصائده.
Bilinmeyen sayfa