وأرجو أن يكون في الفصول التالية توجيه لقرائها من الشباب والكهول.
سلامة موسى
فن الحياة
يعيش الحيوان على المستوى البيولوجي يأكل ويشرب ويتناسل، ولكنا نحن البشر نعيش على المستوى المدني الفني الثقافي، وقد لا يصدق هذا على جميع البشر، أو بتعبير أصح: قد لا يصدق هذا القول من حيث الدرجة التي يبلغها البشر في المدنية والفنون والثقافة، ثم هو لا يصدق على جميع الطبقات حتى في الأمة المتمدنة؛ فإننا ما زلنا نجد الطبقات الفقيرة في مصر والهند تعيش على المستوى البيولوجي، بل الحال كذلك أيضا في الطبقات الفقيرة في أمم أوروبا الجنوبية؛ حيث يقنع أفرادها بالحياة السلبية؛ أي باتقاء الموت والجوع والمرض والفاقة. وهؤلاء جميعا لا يلتذون الحياة وإنما يكابدونها.
ولكن جميع الأمم المتمدنة تحتوي طبقات من الشعب تعيش الحياة الإيجابية؛ إذ هي قد اطمأنت من ناحيتي الجوع والمرض، بل هي قد استبعدت الموت إلى ما بعد السبعين أو الثمانين من العمر، وهي تجد في كفاية العيش ما يتيح لها الاستمتاع الروحي والمادي. وهذه الطبقات تمثل في عصرنا طلائع البشرية القادمة؛ حيث يعيش جميع الأفراد - جميعهم بلا تمييز - على المستوى الفني الكمالي؛ لأن الضروريات تتوافر إلى الحد الذي لا يحسب لها حساب، ولا تكون سببا للهموم والاهتمامات. وليس هذا العصر بعيدا، بل هو أقرب إلينا مما نتخيل.
والإنسان في كفاحه الاجتماعي ينشد الضروريات أولا، حتى إذا توافرت طلب الكماليات، ثم تعود هذه الكماليات ضروريات الأجيال القادمة؛ فهي ترف أولا يقتصر على أفراد معدودين، ثم رفاهية ثانيا تشمل طبقة كبيرة، وأخيرا ضرورة لجميع أفراد الشعب المتمدن المثقف.
انظر إلى الطعام ينشد فيه الإنسان البدائي الشبع، لا يرجو غير الضرورة البيولوجية، وانظر إلى المسكن الذي كان يبنيه للاحتماء من الوحش أو العدو أو الجو، وانظر إلى اللباس الذي كان يتخذه للدفء! أجل، لقد كان الطعام والمسكن واللباس من الضروريات، ولكن من منا نحن المتمدنين يقنع من هذه الثلاثة بالضروريات البيولوجية في عصرنا؟!
صحيح أن للفاقة ضغطها المرهق بين الطبقات التي لا تزال في أسفل الدرج من السلم الاجتماعي، وصحيح أن هذه الطبقات لا تزال تقنع بالضروريات البيولوجية من المسكن واللباس والطعام، ولكن في كل أمة طبقات أخرى استمتعت بقسط كبير من المال والثقافة والحضارة، وهي لذلك تتوخى الفن في كل ما تتناول من عمل؛ فالمسكن ليس مأوى فقط؛ إذ هو متحف أيضا يتزين بالأثاث الفاخر والصور الجميلة والطرف الأنيقة، وسيداتنا وآنساتنا لا يطلبن من اللباس دفئا قدر ما يطلبن منه زينة وجمالا، والمائدة التي تحمل ألوان الطعام تتفنن في ترتيبها وإيجاد الأطباق الثمينة والآنية الغالية عليها. وهذا إلى ترتيب الزهور ونحو ذلك حتى ليعد تناول الطعام منها نشاطا ذهنيا فنيا.
فهنا فنون في البناء والأثاث واللباس والمائدة، نرتاح إليها، ولا نرضى بأن نعيش بدونها تلك المعيشة الفطرية التي كان يقنع بها الإنسان البدائي، وما زال يضطر إلى أن يقنع بها أو بما يقاربها الفقير المغبون. وقيمة الفن أنه يرفع مألوفنا إلى مستوى من الجمال نزداد به لذة واستمتاعا، بل نزداد به فهما ووجدانا.
وبالفن نرفع المشي إلى الرقص، ونرفع النثر إلى الشعر، ونجعل من الكلام بلاغة، وكذلك نستطيع أن نعيش الحياة الفنية؛ فنهدف إلى الفن في الحياة، والبلاغة في السلوك والتصرف.
Bilinmeyen sayfa