المهم في هذا الصدد ملاحظة أن معظم هؤلاء الفلاسفة (وبرغم أنهم، مثل الكثير من الفلاسفة القدماء، ظهروا وكأنهم طلعوا من رحم الغيب فجأة مثلما ماتوا وقبروا غفلة وفي منتهى الغموض، إلا أنهم ...) قدموا إسهاماتهم تلبية لمهام تاريخية ألقيت عليهم أعباؤها، بحكم ما شهدته عصورهم من حروب ونزاعات قتالية بين الدويلات الصينية، مما تطلب منهم النزول إلى معترك الفكر بكل ما لديهم من رصيد في الفكر، وذهب بعضهم إلى جبهات القتال، مثل سونبين صاحب هذا الكتاب، وبقي آخرون داخل ردهات القصور الإمبراطورية يشرفون على سير القتال، لكنهم جميعا كانوا يسعون وراء غاية سياسية غلبت ما عداها، وهي: «إصلاح أحوال البلاد، كمقدمة ضرورية لكسب المعارك على الجبهات»، حتى لقد يقال بأنهم كانوا عسكريين ذوي رءوس سياسية؛ لأن اهتمامهم الأساسي كان يكمن في البحث حول الكيفية التي يمكن بمقتضاها استخدام السياسة في حل النزاعات العسكرية، فكان سونزي، على سبيل المثال، يقول في كتابه «فن الحرب» (باب التخطيط للهجوم): إن أعظم إنجاز يمثل قمة الوعي والحكمة هو إخضاع العدو بغير حرب، والخطة الممتازة هي تلك التي تهدف، أولا إلى إحباط خطط العدو ونزع أفكاره وقناعاته، ثم تسعى في النقطة الثانية إلى هدم صرح علاقاته الخارجية، وفي الخطوة الثالثة تستهدف هزيمة قواته العسكرية واحتلال مدنه الحصينة (... عند الضرورة).
فأنت ترى أن تلك كلها دلالات تصطبغ بألوان مستمدة من أجواء الفكر السياسي، وهو ما منح أفكار ذلك الصنف من العسكريين الطابع الذي يميز الرؤى (الاستراتيجية) التي تتعامل مع القضايا من زاوية أكثر شمولا، اهتداء بمبادئ أساسية. ثم إن الكثير مما قاله سون زي - وغيره - يمكن التماس وجه الإبداع فيه، من تلك الزاوية. خذ مثلا عبارة «الانتصار بغير حرب»، ألست تجد فيها توسلا بنهج يتجاوز المفاهيم الفنية الجامدة في إدارة المعارك على ساحات القتال؟
إن من يطالع النصوص الأصلية لمؤلفات الحرب القديمة في التراث الصيني، يصادف الكثير من الرؤى والصياغات الفلسفية، من ذلك مثلا أنه يطالع باستمرار مصطلحا مشهورا في الفلسفة الطاوية، وهو «الطريق»، ولا يخفى ما له من ظلال في الفكر «الطاوي»، لكنه أيضا يشير في اصطلاح الفكر العسكري إلى «السياسة». اقرأ أي كتاب تصادفه في المكتبة العسكرية القديمة، تجد هذه الكلمة أمامك، عند السطور الأولى، وهي من مشتقات الأهمية المعطاة لوسائل الحل السياسي، وكان أول من اتضحت لديه ملامح تلك التصورات الفلسفية هو سونزي نفسه، ثم جاء من بعده نفر من المفكرين العسكريين الذين تأثروا بهذه التأملات الفلسفية، منهم: «أوتشين» الذي راح يؤكد في مؤلفاته، قائلا: «من المهم لبلد يرغب في تحصيل عناصر القوة والاستقرار أن يدعم سياساته داخل حدوده، في الوقت الذي يعد فيه قواته على جبهات المواجهة»، هذا بالإضافة إلى أنه اهتم بتناول الأصول الاجتماعية للحرب في موضع آخر - وقدم أفكارا قيمة حول الفرق بين الحرب العادلة والجائرة متعمقا في فهم طبيعة الصراع من الناحية العسكرية (وهو الجانب الذي لم يلق اهتماما كافيا، في التراث الصيني القديم؛ لأن غلبة التناول التطبيقي/العملي لمفاهيم القتال أقصت جانبا التأمل في طبيعة الحرب، هذا من ناحية) ومن ناحية أخرى، فلا بد أن نتذكر طوال الوقت أن الفكر الصيني لم يتطرق إلى التساؤل حول الميتافيزيقيات، وبالتالي فلم ينشغل بالبحث في صور أو مثال أو جوهر يستصفي السمات أو الطبائع الأصيلة للظواهر المختلفة، ومن ثم فلم يجتهد المفكرون العسكريون في تحديد أو مناقشة طبيعة الحرب، فتأمل ذلك. ونلاحظ أن سونبين يردد الكثير من النصائح التي تستلهم تلك الرؤية كذلك، فاقرأ له وهو يقول: «من الأمور ذات الأهمية القصوى للدولة أن تكتسب القدرة على إحراز النصر في المعارك، وقت الحرب، وأن تحافظ على قدراتها العسكرية، وقت السلم؛ فتلك هي الوسيلة لتحقيق النفوذ والهيمنة وسط الممالك.»
وكما هو مفهوم في الفكر الصيني، فالدولة هي أحد مرتكزات البناء الكونفوشي (بل هي قاعدته الأساسية) وبالتالي، فقد كانت تلك الاجتهادات الفكرية لفلاسفة الحرب، تراعي خصوصية مجتمعها ودواعي بيئتها الاجتماعية وسماتها الأصيلة، ولم يكن ممكنا لأي نظرية أو اجتهاد بالفكر أن ينأى بعيدا عن ساحته الحضارية، حتى أكثر الاتجاهات الفلسفية تمردا (الطاوية، مثلا) لم يكن لها أن تخرج عن إطار مفهوم في صياغة صينية تقليدية، غير أنه من اللازم أن أشير هنا إلى أن تلك التوجهات السياسية للفكر الصيني، لم تكن مخلصة - طوال الوقت - لقواعدها المذهبية، فكانت الأعمال النظرية - أحيانا - (وبرغم ابتكاراتها وجوانبها الإبداعية) كانت تبالغ في تقدير أهمية دور القائد - بالمعنى الحرفي - دون مجموع الجنود وحشود التشكيلات، فقد لوحظ أن عددا لا بأس به من الاجتهادات النظرية العسكرية في التراث الصيني تحرص على وضعية أدنى للمقاتلين والجنود، بالنسبة إلى قادتهم، وفي حين أوصت ببذل كل جهد ممكن لتوعية القادة وتنمية قدراتهم المعرفية، نراها حريصة - للغرابة - على تعمية أذهان الجنود، بحرمانهم من فرص الوعي والنبوغ والترقي، ومن ثم فقد أقرت مفهوما خرافيا للتاريخ القديم يقوم على الزعم بأن حفنة من الأبطال هم وحدهم الذين صنعوا المصير وسطروا صفحات من البطولة والمجد، ولو أن سونبين - صاحب الكتاب الذي بين أيدينا - يقر في غير موضع من مؤلفه المشهور بأهمية الدور البشري في الحرب (في زمن لم يكن يعتد فيه كثيرا بهذا الجانب)، وكان قد طرح عناصر ثلاثة ذات أهمية كبيرة في حسم الحرب، وهي: المكان الملائم، الزمان المناسب، العنصر البشري.
لكن سونبين - في معرض تأكيده لقيمة البشر في المعارك - يبرز تأثره بما نقله عن كتاب «سيما فا» (أحد النصوص العسكرية التراثية) خصوصا في الجانب الذي يتعلق بمبادئ الإنسانية والعدل (على النحو المفهوم فيما تقرره الأفكار الكونفوشية).
واحد آخر من المفكرين العسكريين ذوي الاتجاه الفلسفي، مثل «ويلياو تسي»، كان ينطلق فيما وضعه من نظريات بوجهات نظر متأثرة برؤى اجتماعية، ففي آرائه التي يعرض لها في كتابه المشهور باسمه - وهو بالمناسبة أحد أهم المؤلفات السبعة في التراث العسكري الصيني - يؤكد أن الحرب إحدى وسائل إدارة الشأن الاجتماعي الداخلي في البلاد، وأنها تتميز بطابع خاص في النهوض بالاقتصاد (وأفكاره في هذا الصدد تبدو مشايعة لمذهب فلسفي متفرع عن الكونفوشية، تمثله مدرسة فلسفية تسمى ب «القانونية») وفي تصوره للأسس التي يقوم عليها إصلاح البلاد وتنظيم شئونها، فهو يطرح قاعدة من ثلاث نقاط، على النحو التالي:
أولا:
الأرض، وهي أصل معاش الناس وكسب أقواتهم.
ثانيا:
أسوار المدن باعتبارها الدرع الواقي.
Bilinmeyen sayfa