كانت الصين، وقبل أن تتمخض نزاعاتها عن تسوية كبيرة بحجم الوحدة الكبرى بين دويلاتها، قد مرت بفترة تألق فكري ازدهرت فيها العلوم ونهضت ثقافة «المائة مدرسة فلسفية» التي تنتسب إليها ركائز الاتجاهات الفلسفية الكثيرة التي اشتهر بها تاريخ الفكر الصيني طوال عهوده وحتى اليوم، وأشهرها أربعة مذاهب كبرى صارت علامات على مذاهب في الفكر ولخصت حوارها الحضاري كله في اتجاهاتها الفلسفية الأربعة: الكونفوشية - الطاوية - الموهية - القانونية. وبالطبع فقد بقي منها فرسان اثنان ما زالا يتنازعان حلبة السباق حتى الآن، وهما: الكونفوشية والطاوية.
وعلى أساس هذه القاعدة الفلسفية أسس المفكرون العسكريون - الذين دأبت التصنيفات المذهبية على استبعادهم من السياق الفكري الكبير - أصول أفكارهم وتصوراتهم ومنطلقاتهم النظرية، برغم براعتهم في بلورة قواعد وأصول الفكر السياسي والعسكري، مما تميزت به الحضارة الصينية دون غيرها من سائر حضارات العالم القديم، وهي الأفكار التي كتب لها الرواج والانتشار فيما بعد، خارج إطار إقليم الحضارة الصينية ليشمل معظم مناطق شرق آسيا: اليابان، كوريا، الهند الصينية ... إلخ.
قد يمكن القول بأن رجال العسكرية جزء لا يتجزأ من البناء الفلسفي الصيني، سواء بما هو مقرر من الخصائص العامة للأصول الفكرية التي استندوا إليها في إقامة نظرياتهم، أو فيما قرروه هم بأنفسهم أو ابتكروه من مقولات عامة، مثلهم كمثل الفلاسفة القدماء في استخدامهم للأفكار وسيلة لبناء الدول والإمبراطوريات، وفي الحفاظ على الكيان الوطني، إذ بقيت العسكرية الصينية - تقليديا وعلى مر التاريخ - أعظم عنصر في منظومة الخدمة الوطنية الصينية بما رأته من توظيف للسلاح يستهدف غايات سياسية بالأساس [وبالطبع فهذا يقود إلى استنتاج بأن الفلسفة الصينية، هي الأخرى، كانت ابنة بيئتها الضيقة، لصيقة موطنها بالدرجة الأولى، مع موجة انتشار ضئيلة في الجوار المتاخم] ويمكن ملاحظة ذلك من مقولة يعدها النقاد استقراء عاما أو حكما شاملا، في حين أنها تتعلق بخصوصية الداخل الصيني أكثر من أي معنى آخر. تلك هي مقولة سونزي التي فحواها «إن الحرب مسألة ذات شأن بالنسبة للدولة، وهي تتعلق ببقاء وبناء الأمم (اقرأ الدويلات).»
وفي تقديري - وقد أكون مخطئا - فإن أهم أركان الفكر الاستراتيجي الصيني القديم يتركز فيما قامت عليه أفكار مدرستين اثنتين لا ثالث لهما:
أولاهما:
مدرسة رجال الفكر المعروفين باسم «تسونغ هنغ» أي: «مدرسة المناورات السياسية» وهم رجال التخطيط السياسي والعسكري الصيني القديم [وقد قدمت لهم في ترجمة كتاب «سياسات الدول المتحاربة» الجزء الأول، الصادر عن المركز القومي للترجمة، وزارة الثقافة، القاهرة] وكانوا قد لعبوا أدوارا مهمة في الصراع الدائر بين الدويلات الصينية إبان فترة الدول المتحاربة.
ثانيتهما:
مدرسة المفكرين العسكريين الذين صاغوا نظرياتهم في مؤلفات نظرية وكانت لهم إسهامات بارزة في مجال التطبيق الفعلي لآرائهم بحكم ما تولوه من وظائف عسكرية أو سياسية في فترات مختلفة، وهم أولئك النفر الذين استبعدتهم تصنيفات النقاد من خانة الفلاسفة لتضعهم في صفوف الإدارة، باعتبارهم موظفين رسميين لا أكثر، في حين أنهم بمنطلقاتهم النظرية كانوا أقرب للفلاسفة والمنظرين منهم لرجال الحرب المحترفين.
وبهذا المعنى أقدم لهم، هنا، وأترجم محتويات هذا الكتاب الماثل بين يديك، سيدي القارئ، بوصفه نصا فلسفيا لمفكر عاش في العصر القديم، كغيره من الفلاسفة، بغير اسم معروف ولا تاريخ ميلاد أو وفاة، ولا حتى قبر يضم رفاته، للدرجة التي حدت بكثير من الدارسين إلى التشكيك في وجود مثل هؤلاء العباقرة أصلا.
على رأس كوكبة من رجال العسكرية الصينية يبرز خمسة من هؤلاء الفلاسفة (كعدد عناصر الكون في الفكر القديم!) وهم: سونزي [أو: سون تسي، أو سون تزي .. لا يهم، فالترجمات صوتية، ومعظمها يقترب بدرجات من النطق الأصلي] وهو الأكثر شهرة، في العصر الحديث، بعد ذيوع ترجمة كتابه «فن الحرب»، ويأتي بعده الفيلسوف الرائع «سمارانجيو»، ثم «أو تشي»، ف «سونبين» (صاحب الكتاب الذي بين أيدينا)، وأخيرا وليس آخرا، بالتأكيد «ويلياو»، صاحب أهم كتاب في التراث العسكري الصيني، وهو الكتاب الذي يحمل اسمه «ويلياو تسي»، علما بأن مقطع أو كلمة «تسي» أو «تزي» أو «تزو»، يعني - في الصينية القديمة - «السيد»، «الأستاذ»، «الشيخ»، واللقب يأتي في الصينية الكلاسيكية، على غرار الخواص التركيبية للغة التركية، في باب المناداة، بحيث يتم إطلاق اللقب على الشخص بعد ذكر الاسم الأول مباشرة، فلفظة «سونزي» تعني: الشيخ سون تقريبا، أو تعني: سون أفندي، سون بك تحديدا! أما لفظة «كونفوشيوس»، أو «منشيوس» فهي تسميات جرت بمنطق الاستدخال ضمن ثقافة النخبة، حيث كان المبشرون الأوروبيون بخلفيتهم الثقافية وتفضيلاتهم للنمط اللاتيني في التسميات هم الذين أضافوا إلى أصل الكلمة لواحق تجري مجرى اللاتينية في تسمية تنطق بعلامات دالة على المذكر في أسماء الأعلام، ومثلا فكونفوشيوس يعرف في الأصل الصيني، قديما وحديثا أيضا، باسم «كون تسي»، مثلما يشار إلى منشيوس في الصينية باسم «منغ تسي»، لكن تلك مسألة أخرى.
Bilinmeyen sayfa