Causation
تقف هنا حيث لا نستطيع أن نستكشف مسببا للوجود المادي ولا لنظامه، هنا يقف العقل عاجزا؛ لأنه يستحيل عليه أن يفهم أكثر مما ينفعل به، وهو لا ينفعل بأكثر من فعل المادة نفسها فيه، لا يستطيع أن يتخطى إلى الفاعل البدائي - أي: الصلة الأولى - الذي يفعل فيها ويصوغها في نظامها.
العقل نتيجة تفاعلات مادية، كأنه ظاهرة من ظاهراتها، أو نوع حركة من حركاتها، فإذا توقفت أو تعطلت هذه الحركة انتفى العقل بتاتا؛ فهو كالنور الصادر من الشمس، فإذا سكنت كل حركة في الشمس انقطع انبعاث النور؛ لذلك لا يستطيع العقل أن يستقل عن المادة وينفصل عنها ، ويقيم بذاته في مقام يستطيع منه أن يشرف على المادة ويتبين أصلها وفصلها.
إذن فمقدرة العقل في الإدراك محدودة ضمن دائرة ظاهرات المادة التي هو واحد منها؛ فيستحيل عليه أن يخرج من دائرة الظاهرات ويتغلغل في أعماق كنه الجوهر. هذا المستحيل هو أعظم المستحيلات على العقل البشري من ناحيته، وأبسط أسرار المادة المحجبة من ناحيتها.
فمن ذلك نرى أن العقل على عظمه بين ظاهرات المادة، وعلى تعاليه فوقها للإشراف عليها - على الظاهرات؛ هو ضعيف جدا، وحقير وعاجز عن استكناه جوهر المادة، لا يستطيع في هذا الاستكناه إلا التكهن اعتمادا على قوة الاستدلال والاستنتاج القابلة الخطأ. •••
إذن فلكي نستطيع أن نجعل بدءا للبحث - أي: أن نعين النقطة لأول خطوة فيه - يجب أن نفترض فرضا يتوسط بين الغرضين السابقين، وهو أن النظام نفسه عنصر من عناصر الوجود غير مستقل عنه، هو رابع العناصر الثلاثة التي رأيناها مواد البناء الأولية؛ أي: إن الوجود مبني من أربعة أشياء: المادة، الحركة، المكان، النظام. أعني أن سبب وجود النظام هو نفسه سبب وجود ذلك الثالوث سواء أكان ذاتيا أم من فعل فاعل مستقل. إن الذي خلق الثلاثة خلق الرابع أيضا، خلق أربعة لا ثلاثة فقط؛ فالوجود رابوع لا ثالوث. •••
هنا يتجلى لنا سؤال ذو شأن عظيم: هل كان ممكنا أن يتنظم الكون نظاما آخر غير نظامه الحالي الذي نعرفه؟ أم إنه يستحيل أن يكون له نظام آخر غير هذا؟
إن كان الأمر الأول ممكنا كان المنظم حرا - سواء كان ذاتا من خواص المادة أو مستقلا عنها - وقد اختار هذا الشكل من الأنظمة دون أشكال أخرى، ويحتمل أنه متى انتهى عمر هذا النظام يعود فينظم نظاما آخر.
ولكن الظاهر لنا من سلسلة السببية؛ أي: سلسلة النظام التي كل حلقة منها سبب لحلقة أخرى بعدها؛ الظاهر لنا من هذه السلسلة أنه لا يحتمل أن يكون للكون إلا نظام واحد، وهو النظام الذي نعرفه له الآن، اللهم إلا إذا كان ثمت منظم مستقل حر الإرادة في وسعه أن يجعل له نظاما آخر لو شاء، وهو ما لا مبرر لافتراضه أكثر من المبرر لافتراض أن هذا الرابوع المادي موجود كما هو بنفسه.
وإذا كان ذاك الغرض لا يمتاز على هذا بشيء سوى أنه يزيد حلقة في سلسلة السببية بلا داع، فالأفضل أن نبتدئ من فرض أن الوجود وجد مهيئا لهذا النظام. وبعبارة أخرى أقرب منالا: إن المادة وجدت متحركة، في حين أنها نزوعة إلى هذا النظام. النظام رابطة الثلاثة.
Bilinmeyen sayfa