ولا يؤثر في الجماعات إلا بمخاطبة مشاعرها خلافا لما يساور محترفي السياسة المعاصرين من أوهام عقلية.
وإذ تعجز الجماعات عن الإدراك فإنها لا تلتمس الإدراك، وإذا صار الفرد جزءا من جمع نال قدرة قاهرة تغنيه عن التأمل والتعقل قبل السير، فضعيفو الذكاء من الأفراد إذا ما تجمعوا نالوا قدرة موقتة، ولكنها عظيمة جدا.
ولم يعرف انحطاط الجماعات النفسي إلا منذ أبحاث علم النفس الحديث، وقد جهل مؤرخو الماضي هذا الانحطاط على العموم، ومن ذلك أن عزا ميشله إلى الجماعات قابليات عالية، فهو يرى أن الناس عرضة للخطأ إذا كانوا منفردين، فيكفي أن يجمعوا لينالوا استعدادا عظيما، وهكذا فإن هذا المؤرخ الشهير كان يفتخر بعده الشعب بطلا بدلا من أن يحذو حذو القدماء، فيكتب تاريخ الأبطال وقادة الشعوب. ومن قوله: «لقد تناولت التاريخ من الأسفل في صميم الجماعات، أي: في غرائز الشعب، فأظهرت كيف قاد زعماءه.»
وبما أن جرائم الجماعات ظاهرة ظهورا لا جدال فيه فإن ميشله لا يجادل فيها، ولكنه يعزو هذه الجرائم إلى عوامل مرضية عابرة دعما لرأيه، «فعلم للأمراض النفسية المعدية» وحده يمكنه أن يفسر الهول على حسب نظرياته. •••
ويرى في جميع أدوار الفوضى - أي: في الأدوار التي تنحل الروابط الاجتماعية فيها - تجلي عمل الجماعات المفسد للنظام، غير أن شأنها كان موقتا دائما، فلسرعان ما كان يتوارى عامل التخريب.
وكان عمل الجماعات أقل عنفا في الظاهر أحيانا، فصار أكثر خطرا في الوقت الحاضر؛ لأنه أكثر استمرارا، ويلوح أن الشيوعية، التي هي أقصى شكل لقدرة العدد، تمثل آخر تطور للديموقراطيات، منتظرة خاتمتها بدكتاتوريات شخصية وفق سنة صورها أفلاطون وحققت غير مرة في غضون التاريخ.
وينم تفوق العوامل الجماعية على تأخر حقيقي مؤد إلى تلك الأشكال المنحطة التي تلاحظ لدى الهمج الفطريين، هؤلاء الذين يكون تحرر روحهم من الروح الجماعية من القلة، ما يعد معه جميع أعضاء نفس القبيلة مسئولين عن أعمال أحدهم، وتواصل هذه الحقوق الجماعية الكثيرة المباينة للمبادئ الأوربية من قبل كثير من الشعوب، ولا سيما الأناميون. •••
ومن دواعي الأسف أن ظهرت الجماعات في زمن يصبح فيه شأن الخواص الموجهين أمرا ضروريا مقدارا فمقدارا. ومما لوحظ منذ زمن طويل أنه إذا ما حذف من بلد ما - كفرنسة مثلا - بضعة آلاف الأفراد الذين يتألف منهم خيار جميع الطبقات، ومنها طبقة العمال، سقط هذا البلد من فوره إلى مستوى الصين.
أجل، إن العدد يوجد القوة، غير أن قوة العدد هذه لا تقوم مقام التوجيه الذي يتم على يد الخواص.
وقوة العدد هدامة على الخصوص، ولو سيطرت الجماعات على العالم منذ أصل الأجيال ما خرج الإنسان من الهمجية، ولم يتفلت الإنسان من الهمجية إلا بفضل بعض الأدمغة، البالغة من القدرة، ما حققت به كل تقدم أساسي أدى إلى ظهور الحضارات ونموها.
Bilinmeyen sayfa