ويختلف عن هذا حكم فاغيه، حيث قال: «مني حكم الإمبراطورية الأولى في إيطالية بحبوط ذريع، فقد أصيبت في ست سنين بالإفلاس والفوضى والبؤس والجوع والإقفار، وبلغ ما اعترى جميع الثروات الكبرى من إفلاس ثمانين في المائة، وأصبح عدد السائلين ثلاثة أضعاف، وزاد عدد قطاع الطرق في الأرياف عشرة أضعاف، ومات السوقة جوعا، ونقص عدد سكان رومة بمعدل الخمس في خمس سنين.»
ومع ذلك فإن هذه التقديرات المتناقضة تفسر بشيء من السهولة لدى النظر إلى أن ذينك المؤلفين التزما زمنين مختلفين، فلما درس شاتوبريان حال إيطالية كانت الإدارة الإمبراطورية صالحة تقريبا على الرغم من قسوتها، ومن ثم كانت أفضل من عصابة النهب التي أرسلتها حكومة الديركتوار.
والأمر كما قال فاغيه: «كانت إيطالية تقاسي في عهد الديركتوار فجورا مستمرا، وكانت رومه تشاهد باسم الجمهورية الرومانية قناصل ومحامين عن الشعب وأعضاء سنات يسرقون ويغتنون، ويقصفون ويكيدون، ويرتكبون المنكر، ويسفكون دما كثيرا في الريف الروماني، ويسلبون القصور والمتاحف والمكتبات، ويفرطون في فرض الضرائب، فيأخذون نصف أموال الأغنياء ورقيقي الحال على السواء. والخلاصة أنهم كانوا مزبلة كريهة من اللصوص والقراصين والأشرار.» •••
وإذا عدوت علل الأغاليط الناشئة عن تعميمات خاطئة فاذكر الأغاليط الناشئة عن تكرارها من قبل كتاب ذوي نفوذ، كما هي حال الآراء العامة التي صيغت زمنا طويلا حول ما افترض من قضاء البرابرة على الإمبراطورية الرومانية.
ولم يحتج المؤرخ العالم فوستل دو كولنج إلى غير قليل من البحث في أسس هذا الاعتقاد حتى يعرف مقدار ما كان يشوبه من خطأ، فقد بين أن الغارات التي قرعت خيال المؤرخين كثيرا لم تكن غير أعمال منفردة من قطع السابلة لا غد لها، وأنه لم يحدث قط أن حدثت البرابرة نفسهم بهدم الإمبراطورية الرومانية التي كانوا يبدون مبجلين إياها تبجيل إعجاب، ومحاولين انتحال لغتها ونظمها وفنونها، فإذا وقع في نهاية قرون كثيرة أن قضوا ببطء على الحضارة الرومانية، لم يكن هذا قط نتيجة غارات عنيفة دفع معظمها بسهولة من قبل برابرة مرتزقين لدى الرومان، بل كان بوسائل سلمية، وبما أن هؤلاء الأهلين المتأخرين الذين أدخلوا إلى العالم الروماني كانوا عاجزين عن ملاءمة حضارة تعلوهم علوا كبيرا، فإنهم خفضوها إلى مستواهم بحكم الضرورة؛ ولذلك لم يقض على الحضارة الرومانية بغتة، بل أخذ مكانها شيئا فشيئا.
ثم إن الرومان أنفسهم هم الذين أوجبوا هذه الغزوات السلمية حينما أصبحوا بالغي الغنى متمردين على الزواج، فأدخلوا أجانب إلى جيوشهم وإداراتهم بالتدريج، ولما صار المرتزقة جنود رومة حصرا، وصارت رومة تدير ولاياتها من قبل رؤساء من البرابرة، أصبح هؤلاء الرؤساء مستقلين شيئا فشيئا، ومع ذلك كان نفوذ عظمة الرومان من القوة ما عد هؤلاء الرؤساء أنفسهم معه من موظفي رومة دائما وإن غدوا أصحاب سيادة؛ ومن ذلك أن بدا كلوفيس فخورا بلقب القنصل الروماني، الذي أنعم به عليه الإمبراطور المقيم بالقسطنطينية في ذلك الحين، وتمضي ثلاثون سنة على موت كلوفيس، فيتلقى خلفاؤه ما يمليه الأباطرة من قوانين ويراعونها، وكان لا بد من حلول القرن السابع حتى يجرؤ رؤساء الغول من البرابرة على إحلال صورهم على النقود محل صور أباطرة الرومان.
ولم يشعر المعاصرون بزوال سلطان الرومان لوقوعه بطيئا تدريجيا إلى الغاية؛ ولذلك يكون المؤرخون قد بدءوا تاريخ فرنسة قبل الزمن الحقيقي بقرنين واختلقوا لنا اثني عشر ملكا. •••
ولم تكن غزوات البرابرة السلمية وحدها كافية لتحويل الحضارة الرومانية لو لم تنحل هذه الحضارة بفعل الروح الجديدة التي جاءت النصرانية بها، فقد تحولت هذه الحضارة من عسكرية إلى لاهوتية بالتدريج، وقد تقدم الفن في بزنطة التي نقلت إليها، ولكن مع انقباض آفاق الفكر الإنساني، ويستفيد الترك من المناقشات اللاهوتية التي كانت تستغرق جميع نشاط البزنطيين فيستولون على تلك المدينة العظيمة.
ومما يلاحظ مع ذلك كون التاريخ يعوزه ما يكفي من الوثائق عن أعظم الحوادث.
ومن ذلك كون التاريخ يضطرب في بيان السبب في اعتناق العالم الروماني للنصرانية في قرنين أو ثلاثة قرون. ومن الواضح أن كان هذا الدين يستهوي العبيد لجعله إياهم مساوين لسادتهم، ولكن ألم يكن من الضروري أن يبدو بغيضا بغضا مطلقا لدى هؤلاء السادة الذين يقلب أحوال حياتهم الاجتماعية رأسا على عقب؟ إن جميع الإيضاحات حول حادث عظيم كهذا ظلت فاقدة القيمة حتى الآن، فوجب أن يلجأ إلى مبادئ علم النفس الحديث ليدرك أمرها. •••
Bilinmeyen sayfa